فأخذ أحمد بن نصر وحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب مع أولاده وجماعة من يغشاه، فحملهم إلى الواثق بسرّ من رأى على بغال بأكاف لا وطاء تحتهم وهم مقيّدون.
فجلس لهم الواثق مجلسا عامّا وأحضر أحمد بن أبي دؤاد ليمتحنوا مكشوفا. فأحضر القوم وحضر معهم أحمد بن نصر فلم يناظرهم الواثق في الشغب ولا فيما روى عليه من إرادته الخروج عليه ولكنه قال:
« يا أحمد ما تقول في القرآن؟ » قال: « كلام الله. » قال: « أفمخلوق هو؟ » قال: « [ هو ] كلام الله. » قال: « فما تقول في ربّك، أتراه يوم القيامة؟ » قال: « يا أمير المؤمنين جاءت الآثار عن رسول الله أنّه قال ترون ربّكم يوم القيامة لا تضامون في رؤيته. » وحدّثني سفيان بن عينيه بحديث يرفعه أن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله. فقال له إسحاق بن إبراهيم:
« ويلك انظر ما تقول. » قال: « أنت أمرتنى بذلك. » فأشفق إسحاق من كلمته.
قال: « أنا أمرتك بذلك؟ » قال: « نعم أمرتنى أن أنصح لك ولأمير المؤمنين ومن نصيحتي له ألّا يخالف حديث رسول الله . » فقال الواثق لمن حوله:
« ما تقولون فيه؟ » فأكثروا. فقال عبد الرحمن بن إسحاق وكان قاضيا على الجانب الغربي وهو صديق لأحمد بن نصر:
« يا أمير المؤمنين هو حلال الدم. »
وقال آخر:
« اسقني دمه يا أمير المؤمنين. » فقال له الواثق:
« القتل يأتى على ما تريد. » وقال أحمد بن أبي دؤاد:
« كافر يستتاب، لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل، كأنّه كره أن يقتل بسببه. » فقال الواثق:
« إذا رأيتمونى قد قمت إليه فلا يقومنّ معي أحد، فإني أحتسب خطإي إليه. » ودعا بالصمصامة سيف عمرو بن معديكرب وكان في الخزانة، فأتى به فمشى إليه في وسط الدار ودعا بنطع فصيّر في وسطه وحبل فشدّ به رأسه ومدّ الحبل فضربه الواثق فوقعت الضربة على حبل عاتقه، ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضربه فأبان رأسه.
ويقال: إنّ بغا ضربه ضربة أخرى وطعنه الواثق بطرف الصمصامة في بطنه فحمل معترضا حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله قيود وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أيّاما ثم حوّل إلى الغربي وحظر على الرأس حظيرة وأقيم عليه الحرس وكتب في أذنه رقعة:
« هذا رأس الكافر المشرك الضالّ أحمد بن نصر، قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام الحجّة عليه في خلق القرآن ونفى التشبيه، وعرض عليه التوبة فأبى إلّا المعاندة، فعجّل الله به إلى ناره وأليم عقابه. » وتتبع من عرف بصحبة أحمد بن نصر ومن بايعه فوضعوا في الحبوس ومنعوا من أخذ الصدقة التي يعطاها أهل السجون ومنعوا من الزوّار وثقّلوا بالحديد.
الفداء بين المسلمين وصاحب الروم

وفي هذه السنة تمّ الفداء بين المسلمين وصاحب الروم واجتمع المسلمون والروم على نهر يقال له اللامس على مسيرة يوم من طرسوس.
وأمر الواثق بامتحان أهل الثغور في القرآن، فقالوا جميعا بخلقه إلّا أربعة نفر فأمر الواثق بضرب أعناقهم. وأمر لأهل الثغور بجوائز على ما رآه خاقان، وكان خادم الرشيد نشأ بالثغر وكان ورد رسول ملك الروم في طلب المفاداة وكان جرى بينهم اختلاف في الفداء قالوا:
« لا نأخذ في الفداء عجوزا ولا شيخا ولا صبيّا. ثم رضوا عن كلّ نفس بنفس فوجّه الواثق في شراء من يباع ولم يتمّ العدّة فأخرج الواثق من قصره عجائز روميات وغيرهم حتى تمّت العدّة. » وأمر الواثق بامتحان الأسارى. فمن قال بخلق القرآن فودى به ومن أبي ترك في أيدى الروم.
وأمر أن يعطى جميع من فودى وقال بخلق القرآن دينارا فبلغ عدّة من فودى به أربعة آلاف وستمائة إنسان فيهم من أهل الذمة نحو أربعمائة.
ولمّا جمعوا الفداء وقف المسلمون من جانب النهر الشرقي والروم من الجانب الغربي وعقد جسر على النهر للمسلمين وجسر آخر للروم.
قال: فكنّا نرسل الرومي على جسرنا ويرسل الروم المسلم على جسرهم فيصير هذا إلينا وذاك إليهم.
وفي هذه السنة مات أبو عبد الله ابن الأعرابي الراوية وهو ابن ثمانين سنة.
ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين

وفيها كان مسير بغا الكبير إلى بنى نمير
ذكر السبب في ذلك

كان سبب ذلك أنّ عماره بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه وأنشده إيّاها، فأمر له بثلاثين ألف درهم وبنزل.
فكلّم عمارة الواثق في بنى نمير وأخبره بعيثهم وفسادهم في الأرض وإغارتهم على اليمامة وما قرب منها، فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم، وكان بغا بالمدينة لأن بنى سليم كانوا عاثوا بالحجاز وأكثروا الغارات والقتل، فتوجّه صاحب المدينة وجمع لهم الخيل والسودان ومن استجاب لهم من قريش والأنصار، فواقعتهم بنو سليم فقتلوهم وقتلوا أمير المدينة وأكثر من كان خرج معه من قريش والأنصار. فأخرج الواثق بالله بغا الكبير إلى المدينة فأوقع ببني سليم وأسر منهم وقتل، فكان لذلك مقيما بعد بالمدينة.
فلمّا أراد بغا الشخوص إليهم من المدينة حمل معه دليلا ومضى نحو اليمامة فلقى منهم جماعة بموضع يقال له: الشريف، فحاربوه فقتل بغا منهم نحوا من ستين رجلا وأسر نحوا من أربعين. ثم سار وتابع إليهم الرسل فعرض عليهم الأمان ودعاهم إلى السمع والطاعة وهم في ذلك يمتنعون عليه ويشتمون رسله ويتفلّتون إلى حربه.
فسار بغا حتى ورد بطن نخل ثم دخل نخيلة، فاحتملت بنو ضبّة من بنى نمير فركبت جبالها، فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، وأرسل إليهم سريّة وأتبعهم بجماعة من معه، فحشدوا لحربه وهم يومئذ نحو من ثلاثة آلاف رجل. فلقوهم ببطن السر فهزموا مقدّمته وكشفوا ميسرته وقتلوا من أصحابه مائة وثلاثين رجلا وعقروا من إبل عسكره سبعمائة ومائة دابّة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال فهجم عليهم وعليه ليل.
فجعل بغا يناشدهم ويدعوهم إلى الرجوع إلى طاعة الواثق فشتموه وتوعّدوه. فلمّا دنا الصبح أشير على بغا بأن يوقع بهم قبل أن يضيء الصبح فيروا قلّة عدد من معه ويجترئوا عليه، فأبى بغا. فلمّا أضاء الصبح ونظروا إلى عدد من معه حملوا عليهم فهزموهم حتى بلغت هزيمتهم معسكرهم وأيقنوا بالهلكة.
ذكر اتفاق حسن

وبلغ بغا أنّ خيلا لهم بمكان من بلادهم، فوجّه من أصحابه نحوا من مائتي رجل إليها. فبينا هم فيما هم من الإشراف على العطب وقد انهزم بغا إذ خرجت تلك الجماعة منصرفة من تلك الخيل وأقبلت متفرقة في ظهور بنى نمير. فنفخوا في صفّارتهم فالتفتوا ورأوا الخيل وراءهم، فولّوا منهزمين وأسلم فرسانهم رجّالتهم وطاروا على ظهور الخيل.
وكان منهم جماعة تشاغلوا بالنهب، فثاب إلى بغا أصحابه فكرّ عليهم وقتل منهم منذ زوال الشمس وإلى آخر وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة رجل. وأقام بغا حتى جمعت له رؤوس من قتل واستراح هو وأصحابه ببطن السرّ ثلاثة أيّام. ثم أرسل إليه من هرب من فرسان نمير من الوقعة يطلبون الأمان فأعطاهم الأمان فصاروا إليه فقيّدهم وأشخصهم معه، فشغبوا في الطريق وحاولوا كسر قيودهم والهرب. فأمر بإحضارهم واحدا بعد واحد فيضربه ما بين الأربعمائة إلى الخمسمائة، فلم ينطق منهم ناطق بتوجّع ولا تأوّه. ثم جمعهم مع من لحق به ممّن طلب الأمان وحملهم إلى البصرة.
موت الواثق

وفيها مات الواثق وكان موته بالاستسقاء فعولج بالإقعاد في تنّور مسخن فوجد لذلك راحة، فأمر من غد ذلك اليوم بأن يزاد في إسخان ذلك التنّور ففعل وقعد فيه أكثر من قعوده في اليوم الذي قبله فحمى عليه، فأخرج منه وصيّر في محفّة، وحضره جماعة من الهاشميين ثم حضر محمد بن عبد الملك الزيّات وأحمد بن أبي دؤاد. فلم يعلموا بموته حتى ضرب بوجهه المحفّة، [ فعلموا أنّه قد مات ] وكان أبيض مشربا حمرة جميلا ربعة حسن الجسم قائم العين اليسرى فيها نكتة بياض.
فكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وسنّه ست وثلاثون سنة.