« ضع ثيابك وانج عريانا. »
فطرحوا ثيابهم ونجوا عراة حفاة فمات أكثرهم من البرد وسقطت أصابع قوم منهم ونجوا.
فوجّه المتوكّل بغا الكبير إلى أرمينية طالبا بدم يوسف. فشخص إليها فبدأ بأرزن. وكان موسى بن زرارة قد واطأ قتلة يوسف فقبض بغا على موسى واخوته وحملهم إلى السلطان ثم سار فأناخ على الخويثيّة وهم جمّة أهل أرمينية، وقتلة يوسف بن محمد. فحاربهم فظفر بهم وقتل منهم زهاء ثلاثين ألفا وسبى خلقا فباعهم. ثم سار إلى بلاد الباق فأسر أشوط بن حمزة أبا العباس، ثم سار إلى ديبل ثم إلى تفليس.
غضب المتوكل على أبي دؤاد

وفيها غضب المتوكّل على أحمد بن أبي دؤاد وأمر بالتوكيل بضياعه وحبسه وأولاده واخوته، فحمل أبو الوليد مائة ألف وعشرين ألف دينار وجوهرا كثيرا، وصولح بعد على ستّة عشر ألف ألف درهم وأشهد عليهم جميعا ببيع كلّ ضيعة لهم وكان أحمد بن أبي دؤاد قد فلج فقال أبو العتاهية:
لو كنت في الرّأى منسوبا إلى رشد ** وكان عزمك عزما فيه توفيق
لكان في الفقه شغل لو قنعت به ** عن أن تقول: كتاب الله مخلوق
ما ذا عليك وأصل الدين يجمعهم ** ما كان في الفرع لو لا الجهل والموق
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين

وفيها ظفر بغا الكبير بإسحاق بن إسماعيل مولى بني أمية بتفليس فأحرق مدينة تفليس. وكان إسحاق بن إسماعيل - ويكنى أبا العباس - قد تحصّن بتفليس وهي مدينة أكثر بنائها خشب الصنوبر. فلمّا قصدها بغا أمر النفاطين فضربوها بالنار وهاجت الريح وأحاطت النار به بقصر إسحاق وجواريه.
ثم أتاه الأتراك والمغاربة فأخذوه أسيرا مع ابنه وأتوا به بغا، فأمر بضرب عنقه صبرا، وصلب جثّته واحترق في المدينة نحو خمسين ألف إنسان.
ثم نهض بغا إلى عيسى بن يوسف ابن أخت اصطفانوس فحاربه في كورة السلطان ثم تحصّن في قلعة كتيش، ففتحها وأخذه وحمله وحمل ابنه وسنباط بن أشوط بطريق أرّان، وحمل معه آذرنرسى بن إسحاق.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين

ولم يجر فيها ما يكتب.
ودخلت سنة أربعين ومائتين

وتلك سبيلها.
ودخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين

إغارة البجة وحرب المتوكل إياهم

وفيها أغارت البجّة على حرش من أرض مصر، فوجّه المتوكّل لحربهم محمد بن عبد الله القمي.
ذكر ما آلت إليه أمورهم

كانت البجّة لا تغزو المسلمين ولا يغزوهم المسلمون لهدنة بينهم قديمة وهم جنس من أجناس الحبشة وفي بلادهم معادن ذهب. فهم يقاسمون من يعمل فيها ويؤدّون إلى عمّال مصر في كلّ سنة شيئا معلوما.
فلمّا كان في أيّام المتوكّل امتنعت البجّة عن أداء ذلك الخراج سنين متوالية وهذه المعادن منها ما هو على التخوم فيما بين أرض مصر وبلاد بجّة. فقتلوا عدّة من المسلمين ممّن كان يعمل في المعادن ويستخرج الذهب، وسبوا عدّة من ذراريهم ونسائهم. وذكروا أنّ المعادن لهم في بلادهم وأنهم لا يأذنون للمسلمين في دخولها، وانّ ذلك أوحش المسلمين الذين كانوا يعملون هناك حتى انصرفوا عنه، فانقطع ما كان يؤخذ للسلطان بحقّ الخمس الذي كان يستخرج من المعادن.
فلمّا بلغ ذلك المتوكّل أحفظه، وشاور في أمر البجّة فأنهى إليه أنّهم قوم أهل بدو وأصحاب إبل وماشية، وأنّ الوصول إلى بلادهم صعب لا يمكن أن تسلك إليهم الجيوش لأنّها مفاوز وصحار، وبين أرض الإسلام وبينها مسيرة شهر في أرض قفر وجبال وعرة لا ماء فيها ولا زرع ولا معقل ولا حصن، وأنّ من يدخلها من أولياء السلطان يحتاج أن يتزوّد لجميع من معه المدّة التي يتوهّم أنّه يقيمها في بلادهم حتى يخرج إلى أرض الإسلام. فإن تجاوز تلك المدّة هلك وجمع من معه وأخذتهم البجّة بالأيدى دون المحاربة، وأنّ أرضهم لا تردّ على السلطان شيئا من خراج ولا غيره.
فأمسك المتوكّل عن التوجيه إليهم وجعل أمرهم يتزيّد وحربهم يكثر حتى خاف أهل الصعيد من أرض مصر على أنفسهم وذراريّهم. فولّى المتوكّل محمد بن عبد الله القمي محاربتهم وولّاه معادن تلك الكور، وتقدّم إليه في محاربة البجّة وكتب إلى عنبسة بن إسحاق الضبي العامل على حرب مصر بإعطائه جميع ما يحتاج إليه من الجند والشاكريّة بمصر. فأزاح عنبسة علّته في ذلك، وخرج إليه من جميع ما اقترحه عليه، وانضمّ إليه جميع من كان يعمل في المعادن وقوم كثير من المطوّعة، وكانت عدّة من معه نحوا من عشرين ألف إنسان بين فارس وراجل، ووجّه إلى القلزم فحمل في البحر سبعة مراكب موقّرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قوما من سبعة مراكب موقّرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قوما من أصحابه أن يلجّجوا بها في البحر حتى يوافوه في سواحل البحر من أرض البجّة.
ولم يزل محمد بن عبد الله القمّى يسير في أرض البجّة حتى جاوز المعادن التي يعمل فيها وصار إلى حصونهم وقلاعهم، وخرج إليه ملكهم واسمه: على بابا، وله ابن يسمّى بغسى في جيش كثير وعدد أضعاف من كان مع القمّى وكانت البجّة على إبلهم ومعهم الحراب وإبلهم فرّه تشبه المهارى في النجابة. فجعلوا يلتقون أيّاما متوالية فيتناوشون ولا يصحّحون القتال.
وجعل ملك البجّة يتطارد للقمّى ويطوّل الأيّام طمعا في نفاد الأزواد والعلوفة التي معهم فلا يكون لهم قوّة، فتأخذهم البجّة بالأيدى. فلمّا توهّم عظيم البجّة أنّ الأزواد قد نفدت أقبلت المراكب السبعة التي حملها القمّى حتى خرجت إلى ساحل من سواحل البحر في موضع يعرف بصنجة فوجّه القمّى إلى ما هناك من أصحابه يحمون المراكب من البجّة وفرّق ما كان فيها على أصحابه فاتّسعوا في الزاد والعلوفة.
فلمّا رأى ذلك على بابا رئيس البجّة قصد لمحاربتهم وجمع لهم. فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا وكانت إبلهم زعرة تكثر الفزع من كلّ شيء. فلمّا رأى ذلك محمّد بن عبد الله القمّى جمع أجراس الإبل والخيل، التي في معسكره كلّها فجعلها في أعناق الخيل ثم حمل على البجّة فنفرت إبلهم واشتدّ رعبهم فحملتهم على الجبال والأودية فمزّقتهم كلّ ممزّق، واتبعهم القمّى بأصحابه قتلا وأسرا حتى غشاهم الليل ولم يقدر على إحصاء القتلى لكثرتهم. فلمّا أصبح القمّى وجدهم قد جمعوا جمعا من الرجّالة ثم صاروا إلى موضع أمنوا فيه طلب القمّى.
فوافاهم القمّى في الليل في خيله فهرب ملكهم وأخذ تاجه ومتاعه ثم طلب الأمان على أن يردّ إلى بلاده ويؤدّى الخراج للسنين التي عليه. فأعطاه القمّى ذلك وأدّى ما عليه واستخلف على مملكته ابنه بغسى.
وانصرف القمّى بعلى بابا إلى المتوكّل فوصل إليه في آخر سنة إحدى وأربعين فكانت غيبته دون سنة.
وكسا القمّى على بابا درّاعة ديباج وعمّامة سوداء وكسا جمله رحلا مدبّجا وجلال ديباج ليتميّز عن أصحابه، ووقف بباب العامّة مع قوم من البجّة على الإبل بالحراب وفي رؤوس حرابهم رؤوس القوم الذين قتلهم القمّى. فأمر المتوكّل أن يقبضوا من القمّى.
ثم ولّى المتوكّل البجّة وطريق ما بين مصر ومكّة سعدا الخادم الإيتاخى. فولّى سعد محمد بن عبد الله القمّى، فخرج القمّى بعلى بابا وهو مقيم على دينه.
ودخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثة وأربعين [ ومائتين ]

ولم يجر فيهما ما يكتب.
ودخلت سنة أربع وأربعين ومائتين

وفيها دخل المتوكّل دمشق وكان عزم على المقام بها، ووصف له من فضائلها وطيبها ما شوّقه إليها. فأمر بالبناء فيها ونقل دواوين الملك إليها ثم استوبأ البلد وذلك أنّ الهواء بها بارد نديّ، والماء ثقيل والريح تهبّ مع العصر، فلا تزال تشتدّ حتى تمضى عامّة الليل، وهي كثيرة البراغيث، وغلت الأسعار وحال الثلج بين السابلة والميرة وتحرّكت الأتراك يطلبون أرزاقهم وأرزاق عيالاتهم.
فرجع المتوكّل إلى سرّ من رأى وكان مقامه بدمشق شهرين وأيّاما.