« والله ما لي من قتل دليل من بدّ. » ثم شتمه. فقال له بغا:
« لو أردت قتل ابني فارس ما منعتك منه، فكيف دليل النصرانيّ، ولكن أمر الخليفة وأمري في يده فتصبر حتى أصيّر مكانه إنسانا ثم شأنك به. » ثم وجّه بغا إلى دليل يأمره ألّا يركب فاستخفى، وبعث بغا إلى محمد بن يحيى بن فيروز، وكان ابن فيروز يكتب له قديما، فجعله مكان دليل يوهم باغر أنّه قد عزل دليلا فسكن باغر. ثم أصلح بغا بين باغر ودليل، وباغر يتهدّد دليلا إذا خلا بأصحابه، ثم تلطّف باغر للمستعين ولزم الخدمة في الدار وكره المستعين مكانه لجرأته وقتله المتوكّل. فلمّا كان نوبة بغا في منزله قال المستعين:
« أيّ شيء كان إلى إيتاخ من الأعمال؟ »
فأخبره وصيف فقال:
« ينبغي أن تصيّر هذه الأعمال إلى أبي محمد باغر. » فقال وصيف:
« نعم. » وبلغت القصّة دليلا فركب إلى بغا وقال له:
« أنت في بيتك وهم في تدبير عزلك عن جميع أعمالك، وإذا عزلت فما بقاؤك إلّا أن يقتلوك. » فركب بغا إلى دار الخليفة في اليوم الذي نوبته في منزله بالعشي فقال لوصيف:
« أردت أن تحطّنى عن مرتبتي فتجيء بباغر وتصيّره مكاني، وإنّما باغر عبد من عبيدي. » فقال وصيف:
« ما أردت ذلك ولا علمت ما أراد الخليفة من ذلك. » ثم تعاقد وصيف وبغا على تنحية باغر من الدار وأرجفوا أنّه يؤمّر ويضمّ إليه جيش سوى جيشه ويخلع عليه ويجلس مجلس بغا ووصيف وهما يسمّيان الأميرين، وكان قصد المستعين التقرّب إليه ليأمن ناحيته فأحسّ هو ومن في جنبته بالشرّ فجمع إليه الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكّل مع غيرهم. ثم ناظرهم ووكّد البيعة عليهم كما كان وكّدها في قتل المتوكّل. ثم قال:
« الزموا الدار حتى نقتل المستعين وبغا ووصيفا ونجيء بمن نقعده خليفة ليكون الأمر لنا كما هو لهذين اللذين قد استوليا على الدنيا وبقينا نحن في غير شيء. » فبعث إلى المستعين ووصيف فقال لهما:
« إني ما طلبت إليكما أن تجعلانى خليفة وإنّما فعلتما أنتما ذلك وأصحابكما ثم تريدون أن تقتلوني؟ » فحلفا أنّهما ما علما بذلك.
فيقال: إنّ امرأة مطلّقة لباغر بعثت إلى المستعين وبغا بما عزم عليه باغر وبكّر دليل إلى بغا، ووصيف حاضر منزل بغا مع كاتبه، فاتّفق رأيهم على أخذ باغر ونفسين من الأتراك معه وحبسهم حتى يروا رأيهم. فأحضر باغر فأقبل في عدّة.
فلمّا دخل دار بغا منع من الوصول إلى وصيف وبغا وعدل به إلى حمّام فحبس فيه ودعى له بقيد فامتنع عليهم. وبلغ ذلك الأتراك ووثبوا على إصطبل السلطان فأخذوا ما فيه من الدوابّ وانتهبوها وركبوا وحضروا الجوسق بالسلاح. فلمّا أمسوا بعث بغا ووصيف إلى باغر بجماعة وشدخوه بالطبرزينات حتى برد وعملوا على أن يرموا برأسه إليهم إن أقاموا على الشغب.
فلمّا انتهى قتله إلى الأتراك أقاموا على ما هم عليه وأبوا أن ينصرفوا واجتمع رأى المستعين ووصيف وبغا وشاهك على أن ينحدروا إلى بغداد ففعلوا ذلك وانكسر الأتراك لذلك وأظهروا الندم.
ثم صاروا إلى دار دليل بن يعقوب ودور أهل بيته وانتهبوها ونقضوها ثم منعوا من الانحدار إلى بغداد من همّ بذلك، وأخذوا ملّاحا قد أكرى سفينته فصلبوه على دقل سفينته، فامتنع الملّاحون من الانحدار بعده.
واجتمع من كان من الجند والأتراك بسرّ من رأى على المعتزّ فبايعوه، وأقام من كان ببغداد على الوفاء للمستعين.
ذكر الفتنة التي وقعت بين الأتراك وأهل بغداد وما انتهى إليه

لمّا انحدر المستعين وبغا ووصيف وشاهك وأحمد بن صالح بن شيرزاد إلى بغداد نزل المستعين على محمد بن عبد الله بن طاهر في داره. ثم وافى بغداد القوّاد سوى جعفر بن دينار وسليمان بن يحيى بن معاذ مع جلّة الكتّاب والعمّال وبنى هاشم. ووافى أيضا قوّاد الأتراك الذين في ناحية وصيف وبغا.
وكانت رسل وصيف وبغا تتردد إلى سرّ من رأى باستدعاء من بها وإصلاح نيّاتهم وكان كلّ من يرد بغداد يؤمر أن ينزل الجزيرة التي حيال دار محمد بن عبد الله بن طاهر وألّا يصيروا إلى الجسر فيرعبوا العامّة، فإذا اجتمعوا وجّه إليهم زواريق حتى يعبروا فيها.
فلمّا دخل الأتراك الواردون من سرّ من رأى إلى المستعين رموا بأنفسهم بين يديه وخلعوا مناطقهم من أوساطهم تذلّلا وخضوعا وكلّموا المستعين وسألوه الصفح عنهم فقال لهم:
« أنتم أهل بغى وبطر واستقلال للنعم. ألم ترفعوا إليّ في أولادكم فألحقتهم بكم، وهم نحو من ألفى غلام، وفي بناتكم فأمرت باجرائهن مجرى المتزوّجات وهنّ نحو من أربعة آلاف صبيّة، سوى المدركين، وأدررت عليكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضّة، ومنعت نفسي شهواتها ولذّاتها، كلّ ذلك طلبا لرضاكم وصلاحكم وأنتم تزدادون بغيا وفسادا وتهديدا وإبعادا. » فتضرّعوا وقالوا:
« أمير المؤمنين صادق وقد أخطأنا ونحن الآن نسأله العفو. » فقال المستعين:
« قد عفوت عنكم. » فقال له بايكباك:
« فإن كنت رضيت عنّا وصفحت، فقم معنا إلى سرّ من رأى، فإنّ الأتراك ينتظرونك. » فأومأ محمد بن عبد الله إلى محمد بن أبي عون، فلكز في حلق بايكباك وقال له:
« هكذا يقال لأمير المؤمنين: قم معنا فاركب؟ » فضحك المستعين وقال:
« هؤلاء قوم عجم، لا يؤخذون بمعرفة حدود الكلام وأدائه. » ثم قال لهم المستعين:
« يصير من بسرّ من رأى فأرزاقهم دارّة عليهم، وأنظر أنا في أمري هاهنا. » فانصرفوا وقد أغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله ومضوا إلى سرّ من رأى وحرّضوا الأتراك على مخالفته، واجتمع رأيهم على إتمام البيعة لأبي عبد الله المعتزّ فأخرجوه والمؤيّد من الحبس فأخذوا من شعرهما، وكان قد طال، وبايعوه وأمر لهم بمال البيعة وكان المستعين خلّف بسرّ من رأى ما كان حمل من الموصل ومن الشام وهو خمسمائة ألف دينار وفي بيت مال أمّ المستعين قيمة ألفي ألف دينار وفي بيت مال ابن المستعين قيمة ستمائة ألف دينار وكتب نسخة البيعة التي أخذت للمعتزّ بسرّ من رأى على النسخة المعروفة.
وأحضر أبو أحمد بن الرشيد محمولا في محفّة وأمر بالبيعة فامتنع، وقال للمعتزّ:
« بل كنت مكرها وخفت السيف. » فقال أبو أحمد:
« ما علمت أنّك أكرهت وقد بايعنا هذا الرجل. أفتريد أن نطلّق نسائنا وتخرجنا عن أموالنا ولا ندري ما يكون أن تركتني على أمري حتى يجتمع الناس وإلّا فهذا السيف. » فقال المعتزّ:
« اتركوه. » فردّ إلى منزله من غير بيعة.