لمّا بايع المعتزّ الأتراك ولّى عمّاله وأصحاب دواوينه، واتصل محمد بن عبد الله خبر البيعة للمعتزّ وتوجيهه العمّال. فأمر بقطع الميرة عن أهل سرّ من رأى وكتب إلى مالك بن طوق بالمصير إلى بغداد هو ومن معه من أهل بيته وجنده والى نجوبة بن قيس وهو على الأنبار بالجمع والاحتشاد وإلى سليمان بن عمران الموصلي في جمع السفن ومنع الميرة أن تنحدر إلى سرّ من رأى ومنع أن يصعد شيء من الميرة من بغداد، وأخذت سفينة فيها أرز وسقط فهرب الملّاح وبقيت حتى غرقت. وأمر المستعين محمد بن عبد الله بأن تحصّن بغداد فتقدّم في ذلك فأدير عليها السور من دجلة من باب الشمّاسية إلى سوق الثلاثاء حتى أورده دجلة، ومن باب قطيعة أمّ جعفر حتى أورده قصر حميد. ورتّب على كلّ باب قائدا وجماعة من أصحابه وغير أصحابه، وأمر بحفر الخنادق حول السورين كما يدوران في الجانبين جميعا ومظلّات يأوى إليها الفرسان في الحرّ والمطر. فبلغت النفقة على السورين والخنادق والمظلّات ثلاثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار، وجعل على باب الشماسية خمس شدّاخات بعرض الطريق فيها العوارض والألواح والمسامير الطوال الظاهرة، وجعل من خارج الباب الثاني بابا معلّقا بقدر الباب ثخينا وقد ألبس صفائح الحديد وشدّ بالحبال كي إن وافى أحد من ذلك الباب أرسل عليه الباب المعلّق فقتل من تحته وجعل على الباب الآخر عرّادة، وعلى الباب الآخر خمسة مجانيق كبارا وفيها واحد كبير سمّوه: الغضبان، وستّ عرّادات يرمى بها إلى ناحية رقّة الشمّاسية وصيّر على باب البردان ثماني عرّادات في كلّ ناحية أربع، وأربع شدّاخات، وكذلك كلّ باب من أبواب بغداد في الجانب الشرقيّ والغربيّ، ووكّل بكل باب قوّاد برجالهم وجعل لكلّ باب من أبوابها دهليزا عليه السقائف يسع مائة فارس ومائة راجل، ولكلّ منجنيق وعرّادة رجالا مرتبين يمدّون حباله، وراميا يرمى إذا كان قتال، وفرض فروضا من قوم من أهل خراسان قدموا حجّاجا فسئلوا المعونة على قتال الأتراك فأعانوا.
وأمر محمد بن عبد الله أن تفرض من العيارين فروض وأن يجعل عليهم عريف ويعمل لهم تراس من البواري المقيّرة وأن تعمل لهم مخال تملأ حجارة. ففعل ذلك وكان الرجل منهم يقوم خلف البارية فلا يرى منها عملت نسائجات أنفق عليها زيادة على مائة دينار، وكان العريف على أصحاب المقيّرة من العيّارين رجلا يقال له: ينتويه.
خليفتان في زمن واحد
وكتب المستعين إلى عمّال الخراج بكلّ بلدة وبكلّ موضع أن يكون حملهم ما يحملون من الأموال إلى السلطان ببغداد دون غيرها، وكتب إلى الأتراك والجند الذين بسرّ من رأى يأمرهم بنقض بيعة المعتزّ ومراجعة الوفاء ببيعتهم، ويذكّرهم أياديه عندهم وينهاهم عن معصيته ونكث بيعته.
وكتب المعتزّ إلى محمد بن عبد الله يدعوه إلى خلع المستعين ويذكره بما أخذه أبوه المتوكّل عليه بعد أخيه المنتصر من العهد وعقد الخلافة.
وأجابه محمد يدعوه إلى الرجوع إلى طاعة المستعين. واحتجّ كلّ واحد منهما باحتجاجات يطول شرحها وبثق محمد بن عبد الله المياه بطسّوح الأنبار وبادوريّا ليقطع طريق الأتراك حين تخوّف ورودهم الأنبار.
وكتب كلّ واحد من المعتزّ والمستعين إلى موسى بن بغا وهو مقيم بأطراف الشام لأنّه كان أخرج إلى حمص لقتال أهلها حين قتلوا عاملهم وعصوا وامتنعوا على السلطان.
وبعث كلّ واحد منهما بعدّة ألوية يعقدها لمن أحبّ. فانصرف إلى المعتزّ وصار معه ولم يزل الأتراك الكبار يصيرون مرّة من حزب المستعين ومرّة من حزب المعتزّ.
وعقد المعتزّ لأخيه أبي أحمد ابن المتوكّل على حرب المستعين وابن طاهر وضمّ إليه الجيش وجعل إليه الأمر والنهى وتدبير الحرب إلى كلباتكين فعسكر بالقاطول في خمسة آلاف من الأتراك والفراغنة وألفين من المغاربة فوافوا عكبرى فصلّى أبو أحمد ودعا للمعتزّ وكتب بذلك فتحا إلى المعتزّ وجعل الأتراك ينتهبون القرى ما بين عكبرى وبغداد وأوانا وهرب الناس منهم وجلّوا عن الغلّات والضياع فخربت وهدمت المنازل وسلب الناس وجرى في ذلك أمر فظيع قبيح.
ولمّا وافى الحسن بن الأفشين مدينة السلام وكّل بباب الشماسية. ثم وافى أبو أحمد في عسكر الشماسية ووافت طلائع الأتراك إلى قريب من باب الشماسية فوجّه محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال فيمن معهما.
فلمّا عاين الأتراك الأعلام والرايات قد أقبلت نحوهم انصرفوا إلى معسكرهم وانصرف الحسين والشاه. ثم وافى باب الشماسية اثنا عشر فارسا من الأتراك فشتموا من هناك ورموهم بسهامهم، وكان محمد تقدم ألّا يبدأهم بقتال، فلمّا فعلوا ذلك وأكثروا من الشتم والرمى أمر علّك صاحب المنجنيق. فرموا بحجر أصاب فقتل واحد منهم فنزل أصحابه فحملوه وانصرفوا إلى معسكرهم. ثم وافى الأتراك باب الشماسية فرموا بالسهام وبحجارة المنجنيق والعرّادات وكان بينهم قتلى وجرحى.
وحمل محمد بن عبد الله الصلات لمن أبلى في الحرب، وأطوقة وأسورة من ذهب، وكان الجرحى في الفريقين متقاربين في العدد، وانهزم عامة أهل بغداد وثبت أصحاب البواري وأحضرت الأتراك منجنيقا فغلبهم عليه الغوغاء وكسروا قائمة من قوائمه وأمر بحمل الآجرّ من قصر الطين وتلك الناحية إلى باب الشماسية، وفتح باب الشماسية وأخرج إلى الآجر من لقطه وردّوه إلى هذا الجانب من السور.
ثم وجّه محمد بن عبد الله الشاه بن ميكال من باب القطيعة وبندارا وخالدا وأمددا بالمبيّضة من أهل بغداد، فحمل الشاه والمبيّضة حملة أزالوا بها الأتراك والمغاربة ومن معهم عن موضعهم وحملت عليهم المبيّضة، فأصحروا بهم. وحمل عليهم الطبرية فخالطوهم وخرج عليهم المبيّضة، فأصحروا بهم. وحمل عليهم الطبرية فخالطوهم وخرج عليه بندار وخالد بن عمران من الكمين وكانوا كمناء من ناحية باب قطربل. فوضعوا في أصحاب أبي أحمد السيف فقتل الأتراك وغيرهم فقتلوهم أبرح قتل ولم يفلت منهم إلّا القليل.
وانتهب المبيّضة عسكرهم وما كان فيه من المتاع والأنفال والمضارب والخرثيّ. فكان من أفلت منهم من السيف ورمى بنفسه في دجلة ليعبر إلى عسكر أبي أحمد أخذه أصحاب السميريات وكانت السميريات قد شحنت بالمقاتلة فقتلوا وأسروا وجعلت القتلى والرؤوس من الأتراك والمغاربة وغيرهم في الزواريق، فنصبت بعضها في الجسر وبعضها على باب محمد بن عبد الله.
وأمر محمد لمن أبلى في هذا اليوم بالأسورة. فسوّر قوم كثير من الجند وغيرهم وطلبت المنهزمة فبلغ بعضهم أوانا وبعضهم إلى عسكر أبي أحمد، وبعضهم نفذ إلى سرّ من رأى. وخلع محمد على قوّاده على كلّ واحد أربع خلع وخرج المبيّضة والعيّارون في طلب ما خلّفه المنهزمة.
فوجّه محمد في آخر هذا اليوم أخاه عبيد الله بن عبد الله في إثرهم حياطة لأهل بغداد لأنّه لم يأمن رجعتهم عليهم وأشير على محمد بن عبد الله أن يتبعهم بعسكر في اليوم الثاني وفي تلك الليلة ليوغل في آثارهم، فأبى ولم يتبع مولّيا ولم يأمر أن يجهز على جريح، وقبل أمان من استأمن وأمر سعيد بن حميد فكتب كتابا يذكر هذه الوقعة، فقرئ على أهل بغداد في مساجد جوامعها.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)