ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ ابن طاهر كان يكاتب المعتزّ في الصلح. فلمّا كانت هذه الوقعة أنكرت فكتب أنّه لا يعود بعدها.
ثم أغلقت أبواب بغداد فاشتدّ عليهم الحصار فصاحوا على أبواب ابن طاهر:
« الجوع، الجوع. » وكان الناس يجتمعون في الجزيرة التي تلقاء دار ابن طاهر ويشتمونه.
فراسل ابن طاهر المعتزّ في الصلح واضطرب أمر أهل بغداد فوافى من سرّ من رأى حمّاد بن إسحاق بن حمّاد ووجّه مكانه رهينة عنه أبو سعيد الأنصاري، فلقى حمّاد ومحمد بن طاهر فخلا به ولم يذكر ما جرى بينهما.
ثم انصرف حمّاد إلى عسكر أبي أحمد ورجع أبو سعيد إلى بغداد وأمر ابن طاهر بإطلاق جميع من في الحبوس ممّن كان حبس بسبب ما كان بينه وبين أبي أحمد من الحروب ومعاونته إيّاه فأطلقوا.
وفي غد هذا اليوم اجتمع قوم من رجّالة الجند وكثير من العامّة. أمّا الجند فطلبوا أرزاقهم وأمّا العامّة فشكت سوء الحال التي هم بها من الضيق وغلاء السعر وشدّة الحصار وقالوا:
« إمّا خرجت فقاتلت وإمّا تركتنا نمضي في البلاد. » فوعدهم الخروج أو فتح الباب للصلح ورفق بهم ومنّاهم، ثم اجتمع الجند والناس من العوامّ مرّة أخرى، وكان ابن طاهر قد شحن الجزيرة بالخيل وكذلك باب داره والجسر، فحصر الجزيرة بشر كثير فطردوا من كان ابن طاهر رتّبهم فيها.
ثم صاروا إلى الجسر فطردوا من كان هناك من أصحاب ابن طاهر وصاروا إلى الحبس فمانعهم أبو مالك الموكّل بالمحبس الشرقي فشجّوه وجرجوا دابّتين لأصحابه فدخل داره وخلّاهم فانتهبوا ما في مجلسه. ثم عبر إليهم محمد بن أبي عون فضمن للجند رزق أربعة أشهر فانصرفوا.
ووجّه أبو أحمد خمس سفائن من دقيق وحنطة وشعير وقتّ إلى ابن طاهر فوصلت إليه، ثم علم الناس بما عليه ابن طاهر من خلعه المستعين وبيعته للمعتزّ ووجّه ابن طاهر قوّاده إلى أبي أحمد حتى بايعوه للمعتزّ فخلع على كلّ واحد منهم أربع خلع، وظنّت العامّة أن الصلح جرى بأنّ الخليفة المستعين وانّ المعتزّ ولى عهده بعده.
فلمّا كان بعد ذلك خرج رشيد بن كاوس مع قائدين آخرين ووجّهوا إلى الأتراك بأنّه على المصير إليهم ليكون معهم فوافاه من الأتراك زهاء ألف فارس فخرج إليهم على أنّ الصلح قد وقع فسلّم عليهم وعانق من عرف منهم وأخذوا بلجام دابّته ومضوا به وبابنه في إثره. فلمّا كان من الغد صار رشيد إلى باب الشمّاسية وقال حين كلّم الناس:
« إنّ أمير المؤمنين وأبا أحمد يقرءان عليكم السلام ويقولان لكم: من دخل في طاعتنا قرّبناه ووصلناه ومن أبي ذلك فهو أعلم. » فشتمه العامّة ثم طاف على جميع الأبواب الشرقية بمثل ذلك وهو يشتم في كلّ باب [ ويشتم ] المعتزّ. فلمّا فعل رشيد ذلك علمت العامّة ما عليه ابن طاهر، فمضت إلى الجزيرة التي بحيال دار ابن طاهر فصاحوا به وشتموه أقبح شتم، ثم صاروا إلى بابه ففعلوا مثل ذلك. فخرج إليهم راغب الخادم فحضّهم على ما فعلوا بالمستعين ثم مضى إلى الحظيرة التي فيها الجيش فحضّهم، فصاروا إلى باب ابن طاهر فكشفوا من عليه وردّوهم فلم يبرحوا وقاتلوهم حتى صاروا إلى دهليزه وأرادوا حرق الباب الداخل فلم يجدوا نارا وقد كانوا بالجزيرة الليل كلّه يشتمونه ويتناولونه بالقبيح.
فذكر عن ابن شجاع البلخي قال: كنت عند الأمير ويحدّثني ويسمع ما يقذف به من كلّ إنسان حتى ذكروا اسم أمّه. فضحك ثم قال:
« يا با عبد الله والله ما أدري كيف عرفوا اسم أمي. ولقد كان كثير من جواري أبي العباس عبد الله بن طاهر لا يعرفون اسمها » فقلت له:
« أيّها الأمير ما رأيت أوسع من حلمك. » فقال لي:
« ما رأيت أوفق من الصبر عليهم، ولا بدّ من ذلك. » فلمّا أصبحوا وافوا الباب وصاحوا وصار ابن طاهر إلى المستعين يسأله أن يطّلع عليهم ويسكنهم ويعلمهم ما هو عليه.
« فأشرف عليهم من أعلى الباب وعليه البردة والطويلة وابن طاهر إلى جانبه. فحلف لهم بالله: ما أتّهمه وإني لفى عافية، ما عليّ منه باس وأنّه لم يخلع. » ووعدهم أن يخرج في غد وهو يوم الجمعة فيصلّى بهم ويظهر لهم.
فانصرف عامّتهم بعد قتلى وقعت.
فلمّا كان يوم الجمعة بكّر الناس بالصياح يطلبون المستعين وانتهبوا دوابّ عليّ بن جهشيار وجميع ما كان في منزله وهرب ولم يزل الناس وقوفا إلى أن ارتفع النهار، فوافى وصيف وبغا وأولادهما وقوّادهما ومواليهما وأخوال المستعين، فصاروا مع الناس جميعا إلى الباب فدخل وصيف وبغا في خاصّتهما ودخل أخوال المستعين معهم إلى الدهليز فوقفوا على دوابّهم وأعلم ابن طاهر بمكان الأخوال فأذن لهم فأبوا وقالوا:
« ليس هذا يوم نزول عن ظهور دوابّنا إلّا بعد أن نعرف نحن والعامّة حقيقة أمرنا. » فلم تزل الرسل تختلف إليهم وهم يأبون. فخرج إليهم محمد بن عبد الله بنفسه وسألهم النزول والدخول إلى المستعين فأعلموه أنّ العامّة قد ضجّت ممّا يبلغها وصحّ عندها ما أنت عليه من خلع المستعين والبيعة للمعتزّ وإرادتك التهويل ليصير الأمر إليه وإدخال الأتراك والمغاربة بغداد فيحكموا فيهم بحكمه واستراب بك أهل بغداد واتّهموك على خليفتهم وأموالهم وأولادهم وأنفسهم وسألوا إخراج الخليفة إليهم ليروه ويكذّبوا ما بلغهم فيه. فلمّا تبيّن محمد بن عبد الله ذلك الأمر ونظر إلى كثرة اجتماع الناس وضجّتهم سأل المستعين الخروج إليهم فخرج إلى دار العامّة التي كان يدخلها جميع الناس فنصب له فيها كرسيّ وأدخل إليه جماعة من الناس فنظروا إليه.
ثم خرجوا إلى من وراءهم فأعلموهم صحّته فلم يقنعوا بذلك وعرف ابن طاهر كثرة الناس وأنّهم لا يسكنون فأمر بإغلاق باب الحديد الخارج فأغلق وصار هو وأخواله ومحمد بن موسى المنجّم وغيرهم إلى الدرجة التي تفضى إلى سطوح دار العامّة وخزائن السلاح. ثم نصبت لهم سلاليم على سطوح المسجد الذي يجلس فيه محمد بن عبد الله فأشرف المستعين على الناس وعليه سواد وفوق السواد بردة النّبى ومعه القضيب وتكلّم الناس وكلّمهم وناشدهم وسألهم بحقّ صاحب هذه البردة إلّا انصرفوا، فإنّه في أمن وسلامة ولا بأس عليه من محمد بن عبد الله.
فسألوه الركوب معهم والخروج من دار محمد بن عبد الله، فإنّهم لا يأمنونه عليه. فأعلمهم أنّه على النقلة منها إلى دار عمّته أمّ حبيب بنت الرشيد بعد أن يصلح له ما ينبغي، وبعد أن تحوّل أمواله وخزائنه وسلاحه وفرشه وجميع ما له في دار محمد. فانصرف الناس وسكن أهل بغداد.
ولمّا فعل أهل بغداد ما فعلوا من اجتماعهم على ابن طاهر مرّة بعد مرّة وإسماعهم إيّاه المكروه وتقدّم إلى أصحاب المعاون ببغداد بتسخير ما قدروا عليه من الإبل والبغال والحمير لينتقل عنهم وأشيع أنّه يقصد المدائن، فاجتمع إلى بابه مشايخ الحربية والأرباض يعتذرون إليه ويسألونه الصفح ويذكرون أنّ ذلك كان من فعل الغوغاء والسفهاء لسوء الحال التي كانوا عليها من الضرّ. فردّ عليهم ردّا جميلا وأثنى عليهم وصفح عمّا كان منهم وتقدّم إليهم بالتقدّم إلى شبابهم وسفهاءهم والأخذ على أيديهم، وأجابهم إلى ترك النقلة وكتب إلى أصحاب المعاون بترك التسخير.
وانتقل المستعين من دار محمد بن عبد الله وصار إلى دار رزق الخادم في الرصافة فوصل إليها مساء فأمر للفرسان من الجند حين صار إليها بعشرة دنانير لكلّ فارس وللراجل بخمسة دنانير لكلّ واحد، وركب بركوب المستعين ابن طاهر وبيده الحربة يسير بها بين يديه والقواد خلفه، وأقام مع المستعين ليلة ثم انصرف، ولمّا انتقل المستعين اجتمع الناس والقوّاد وبنو هاشم للمصير إلى ابن طاهر والتسليم عليه وأن يسيروا معه إذا ركب إلى الرصافة. فصاروا إليه وحضر الضحى الأكبر من ذلك اليوم، فركب ابن طاهر وجميع قوّاده في تعبئة وحوله ناشبة رجّالة. فلمّا خرج من داره وقف الناس فعاتبهم ثم حلف لهم أنّه ما أضمر لأمير المؤمنين أعزّه الله ولا لولد له ولا لأحد من الناس سوءا وأنّه ما يريد إلّا إصلاح أحوالهم وما تدوم به النعمة عليهم وأنّهم قد توهّموا عليه ما لم يعرفه حتى أبكى عيون الناس فدعوا له.
ثم ركب وعبر الجسر فصار إلى المستعين.