« وقد قلت إنّ الأمر لا يصلح إلّا بالاستراحة من هذين. » فلمّا اجتمعت كلمتهم أذعن بالخلع.
ولمّا كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجّة، ركب محمد بن عبد الله إلى الرصافة وجميع القضاة والفقهاء، فأدخلهم إلى المستعين فوجا فوجا وأشهدهم عليه أنّه قد صيّر أمره إلى محمد بن عبد الله، ثم أدخل البوّابين والخدم وأخذ منه جوهر الخلافة وأقام عنده حتى مضى هوّى من الليل وأرجف الناس ضروب الأراجيف. ثم بعث ابن طاهر إلى قوّاده فجاء كلّ قائد ومعه عشرة من وجوه أصحابه فأدخلهم إليه ومنّاهم وقال:
« إنّما فعلت ما فعلت طلب صلاحكم وسلامتكم وحقن الدماء. » ثم أخرج قوما ثقات إلى المعتزّ، فمضوا إليه بالكتاب الذي فيه شروط المستعين ومحمد، فوقّع فيه المعتزّ بخطّه وأمضى كلّ ما سألاه وشهدوا عليه بإقراره لهما بذلك كلّه، وخلع المعتزّ على الرسل ولم ينظر لهم في حاجة ولا أطلق لهم جائزة ولم يأمر للجند بشيء.
وحمل إلى المستعين أمّه وابناه وعياله، بعد ما فتّش عياله، فأخذ منهم ما كان معهم.
خلافة المعتز

ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين

وفيها خلع المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم نفسه من الخلافة وبايع المعتزّ محمد بن جعفر المتوكّل بن محمد المعتصم فدعى للمعتزّ على منبري بغداد ومسجدى جانبيها الشرقي والغربي، وأخذت البيعة على من كان بها من الجند.
فذكر أنّ ابن طاهر دخل على المستعين، ومعه سعيد بن حميد، حين كتب شروط الأمان فقال له:
« يا أمير المؤمنين قد كتب سعيد بن حميد كتاب الشرط ووكّده غاية التوكيد فيقرأه عليك وتسمعه. » فقال له المستعين:
« لا عليك إلّا توكّده يا با العباس، فما القوم بأعلم بالله منك، وقد وكّدت على نفسك قبلهم، فكان ما قد علمت. » فما ردّ عليه محمد شيئا.
ولمّا بايع المستعين المعتزّ نقل من الرّصافة إلى قصر الحسن ووكّل به وأخذ منه البردة والخاتم والقضيب ووجّه بها مع عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكتب معه كتابا من محمد، نسخته:
« بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله متمّم النعم والهادي إلى شكره وصلّى الله على محمد عبده ورسوله الذي جمع له من الفضل ما فرّقه في الرسل قبله، وجعل تراثه راجعا إلى من خصّه بخلافته وسلّم تسليما. كتابي إلى أمير المؤمنين، وقد تمّم الله له أمره وتسلّمت تراث رسول الله ممّن كان عنده وأنفذته إلى أمير المؤمنين مع عبيد الله بن عبد الله مولى أمير المؤمنين وعبده. » ومنع المستعين الخروج إلى مكّة فاختار البصرة فنزلها.
واستوزر المعتزّ أحمد بن إسرائيل وخلع عليه ووضع على رأسه تاجا، وشخص أبو أحمد إلى سرّ من رأى من معسكره وشيّعه محمد بن عبد الله، وخلع على محمد بن عبد الله خمس خلع وسيفا ورجع من الروذبار.
ولمّا وصل أبو أحمد إلى سرّ من رأى خلع عليه ستّ خلع وسيف وتوّج بتاج وقلنسوة مجوهرة ووشّح بوشاحى ذهب مجوهر وقلّد سيفا آخر مرصّعا بالجوهر وأجلس على كرسيّ وخلع على القوّاد الذين كانوا معه.
وكتب المعتزّ إلى محمد بن عبد الله أن يسقط وصيف وبغا ومن برسمهما من الدواوين. وتكلّم أبو أحمد بن المتوكّل في قتلهما وخاطب محمد بن أبي عون في ذلك فوعده بقتلهما، فكوتب وصيف وبغا بالخبر فركبا إلى ابن طاهر وقالا:
« قد بلغنا أيّها الأمير ما ضمنه ابن أبي عون من قتلنا والقوم قد غدروا، وو الله لو أرادوا قتلنا ما قدروا عليه. »
فحلف محمد لهما أنّه ما علم بشيء من ذلك. وتكلّم بغا بكلام شديد ووصيف يكفّه. ثم نهضا وأخذا في الاستعداد وشرى السلاح وتفرقة الأموال.
وكان وصيف وجّه أخته فأخرجت من قصر أخيها وصيف ألف ألف دينار كانت مدفونة فيه. فدفعتها إلى المؤيّد فكلّم المؤيّد المعتزّ في الرضا عن وصيف، فكتب بالرضا عنه.
وتكلّم أبو أحمد في الرضا عن بغا. ثم اجتمع الأتراك على المعتزّ فسألوه الأمر بإحضارهما، وقالوا:
« هما كبيرانا ورئيسانا. » فكتب إليهما بذلك، فلمّا صار إلى سرّ من رأى اجتمع الموالي، وسألوا ردّهما إلى مراتبهما، فأجيبوا الى ذلك وبعث إليهما فخلع عليهما خلع المرتبة ورتّبا في مرتبتهما التي كانت قبل مصيرهما إلى بغداد وأمر بردّ ضياعهما.
وفي هذه السنة شغب الجند على محمد بن عبد الله بن طاهر، وطالبوا بأرزاقهم وعظم الخطب في ذلك حتى خرجوا إلى باب حرب وباب الشمّاسية ومعهم الأعلام والطبول وضربوا المضارب والخيم، وبنوا بيوتا من بواريّ وقصب، وجمع ابن طاهر أصحابه فبيّتهم في داره.
فلمّا كان يوم الجمعة اجتمعوا وعزموا على المصير إلى المدينة ليمضوا إلى المسجد الجامع فيمنعوه من الدعاء للمعتزّ. فأعلمهم جعفر أنّه لا يقدر على الخروج إلى الصلاة، فانصرفوا عنه وصاروا إلى الشارع النافذ إلى دار الرقيق ثم قصدوا الجسر.
فوجّه إليهم محمد بن عبد الله بن طاهر جماعة من القوّاد والجند ليناظروهم ويدفعوهم دفعا رفيقا. فحملوا عليهم وجرحوا منهم جماعة وجرحوا أبا السنا وكبّروا وصاروا إلى دار ابن طاهر فقوتلوا، وقتل من الفريقين جماعة.
وصار جماعة من الغوغاء إلى مجلس الشرطة، فكسروا بيت الرفوع وانتهبوا ما فيه، وكان هناك أصناف من المتاع، كبير جليل، وأحرق محمد بن طاهر الجسرين لمّا رأى الجند يعبرون وقد ظهروا على أصحابه وضرب عدّة من الحوانيت بالنار للتجّار فيها متاع كثير لهم، فحالت النار بين الفريقين، وانصرف القوم إلى مضاربهم بباب حرب والشمّاسية. وانضمّ إلى ابن طاهر جماعة وعاد إليه قوم من المشغّبة وعبّأهم تعبئة الحروب خوفا من كثرة الجند، فلم تكن لهم عودة، وتلطّف القوّاد في التضريب بينهم، حتى تفرّقوا وصاروا إلى منازلهم.
خلع المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد

وفي رجب من هذه السنة خلع المعتزّ أخاه المؤيّد من ولاية العهد بعده.