« لا مال عندي. » فأمر بضرب عنقه. فلمّا خاف القتل أقرّ بمال دفنه. فوجّه معه قوما، فأتاه بمائتي وخمسين دينارا وبألف درهم. فهذا أوّل مال صار إليه. ثم سأله عن دوابّ وكلاء الهاشميّين فدلّه على ثلاثة براذين فدفعها إلى رؤساء أصحابه. ووجدوا دارا لبعض بنى هاشم فيها سلاح فانتهبوه وصار في أيدى الزنج سيوف وآلات وزقايات وتراس وبات ليلته.
فلمّا أصبح أتاه الخبر أنّ رميسا والحميري وعقيلا قد وافوا السيّب فوجّه يحيى بن محمد في خمسمائة رجل فيهم سليمان وريحان وصالح النوبيّ الصغير فلقوا القوم فهزموهم وأخذوا سميريّة وسلاحا وهرب من كان هناك ورجع يحيى بن محمد فأخبره الخبر فأقام يومه ثم سار يزيد المذار. فلمّا صار ببامداد وهو نهر جاوزه حتى أصحر فرأى بستانا وتلّا فقصد التلّ فقعد عليه وانبثّ أصحابه في الصحراء وجعل لنفسه طليعة فأتاه الطليعة أو أرسل إليه يخبره أنّ رميسا بشاطئ دجلة يطلب رجلا يؤدّى عنه رسالة.
فوجّه إليه عليّ بن أبان ومحمد بن سلم وسليمان بن جامع، فلمّا أتوه قال:
« اقرأوا على صاحبكم السلام وقولوا له: أنت آمن على نفسك حيث سلكت من الأرض. أردد هؤلاء العبيد على مواليهم وآخذ لك عن كلّ رأس خمسة دنانير. » فأتوه فأعلموه ما قال لهم رميس فغضب وآلى ليرجعنّ فليبقرنّ بطن امرأة رميس وليحرقنّ داره وليخوضنّ الدماء هناك. فذهبوا إليه فأجابوه فانصرف عنه.
ثم تعرّض له رميس والحميري وصاحب ابن أبي عون مرارا في كلّ ذلك يهزمهم ويقتل أصحابهم ويأسر منهم ويغنم وكان يجمع الرؤوس ويأمر بالاحتفاظ بها، حتى إذا رجع إلى موضعه من نهر ميمون نصبها هنالك.
ثم إنّه صار إلى القرية التي قتل فيها رجل من أصحابه فأمر من يصير إليها فيسأل أهلها أن يسلّموا إليه القاتل في ممرّه كان بهم. فرجع إليه فأخبره أنّهم زعموا أنّه لا طاقة لهم بذلك الرجل لولائه من الهاشميّين ومنعهم له، فصاح بالغلمان وأمرهم بانتهاب القرية فانتهب منها مالا عظيما عينا وورقا وجوهرا وحليّا وأوانى ذهبا وفضّة وسبى يومئذ غلمانا ونسوة، وذلك أوّل شيء سبى.
وأتى بمولى الهاشميّين القاتل فضرب عنقه وأخذ أصحابه شرابا وجدوه وبلغه ذلك فحرّم النبيذ عليهم وقال لهم:
« أنتم تلاقون الجيوش فدعوا شرب النبيذ. » فأجابوه إلى ذلك.
وواقع من غد هذا اليوم أصحاب رميس وأصحاب عقيل على الشطّ والدنبلا في السفن يرمون بالنشّاب فحمل عليهم الزنج فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهبّت ريح من غربيّ دجيل فحملت السفن إلى الشطّ فوثب إليها السودان فقتلوا من فيها وهرب رميس فنزل سفينة فأنهبها أصحابه وأحرقها.
وقعته مع بعض الأتراك

وكثر بعد ذلك عيثه وعظمت شوكته وسبى وأفسد وعظمت نكايته.
فمن عظيم ما كان له من الوقائع مع السلطان وقعة كانت مع بعض الأتراك يكنّى أبا هلال في سوق الريّان أو ذلك أنّ هذا التركيّ وافاهم في هذه السوق ومعه أربعة آلاف رجل أو يزيدون وفي مقدّمته قوم عليهم ثياب مشهرة وأعلام وطبول. فحمل عليهم السودان حملة صادقة وانتهى بعض السودان إلى صاحب علم القوم فضربه بخشبتين كانتا في يده فصرعه وانهزم القوم وتلاحق السودان فقتلوا من أصحاب ابن هلال ألف وخمسمائة ونجا أبو هلال على دابّة عربيّ وحالت ظلمة الليل بينهم. فلمّا أصبح أمر بتتبّعهم ففعلوا وجاءوا بأسرى ورؤوس، فقتل الأسرى كلّهم.
وكانت له وقعة أخرى بعد هذه الوقعة شبيهة بهذه ظفر فيها بأصحاب السلطان وكانت له وقعات عظام تركنا ذكرها لأنّنا لم نجد فيها غير إقدام الزنج بجهلهم وطمعهم وسوء ثبات الجند لهم وأنّهم تهيّبوهم فكانوا كالجزّارين يقعون في الغنم فيقتلون كيف شاءوا ومثل هذه الحروب لا يستفاد منها تجربة، فلذلك أعرضت عن ذكرها إلى أن أضعف أهل البصرة فلم يبق فيهم من يخرج إليه وقتل أصحاب السلطان فتهيّبه الناس.
أشد يوم لقيه صاحب الزنج

فحكى صاحب الزنج أنّه لم يلق يوما أشدّ من يوم الشذاة وهو يوم استشدّ له أهل البصرة فلم يبق فيها سعديّ ولا بلاليّ ولا أحد من أصحاب السلطان ولا غيرهم إلّا جمعوا له. وكان هناك رجل يعرف بحمّاد الساجيّ وكان من غزاة البحر في الشذوات وله علم بالحروب فيها، فجمع في شذاءاته المطوّعة ورماة الأهداف ولم يبق بالبصرة من يحمل السلاح إلّا خرج. إمّا في الشذاءات وإمّا على الظهر، وانضمّ إليه النظّارة ومن لا سلاح معه ولم يشكّوا في اصطلام صاحب الزنج وأصحابه، فدخلت الشذاءات والسفن التي معها النهر المعروف بأمّ حبيب، ومرّت الرجّالة والنظّارة على شاطئ النهر وقد سدّوا ما ينفذ فيه البصر تكاثفا وكثرة. فقال بعد ذلك صاحب الزنج:
« إني لمّا رأيت ذلك الجمع عانيت أمرا هائلا وراعني ذلك وملأ صدري رهبة وجزعا وفزعت إلى الدعاء وليس منّا أحد إلّا وقد خيّل إليه مصرعه فجعل مصلح يعجبني من كثرة الجمع وأنا أومئ إليه بالسكوت وعيّنت أصحابي وجعلت لهم كمينين وقلت لمن لقي القوم:
« اجثوا لهم واستتروا بتراسكم ولا يثورنّ أحد منكم حتى يوافيكم القوم ويومئوا إليكم بأسيافهم فحينئذ ثوروا. » وأمرت نساء الزنج بجمع الآجر وإمداد الرجال به. ففعلوا ذلك. فلمّا رأوا أصحابي وخرج الكمينان من جنبتي النهر ومن وراء السفن فصاحوا بهم.
رأيت سميريّة قد انقلبت. وتبعها آخر. وانهزم من كان على الشطّ.
فقتلت طائفة وهربت طائفة وغرقت طائفة ومن هرب طمعا في النجاة أدركه السيف والغرق فأبير ذلك الجمع ولم ينج منهم إلّا الشريد وكثر المفقودون من البصرة وهذا يوم الشذا الذي عظّمته الناس وذكروا كثرة من قتل فيه. فكان فيهم من ولد جعفر بن سليمان عدّة في خلق لا يحصى عددهم. وأمر الخبيث بجمع الرؤوس وذهب إليه أولياؤه فعرضها عليهم فأخذوا ما عرفوا منها وعبّأ ما بقي عنده في سفينة وأخرجها من النهر وأطلقها مع الماء فوافت البصرة فوقفت في مشرعة تعرف بمشرعة القيّار.
فجعل الناس يأخذون ما عرفوا.
وقوى الخبيث بعد هذا اليوم وضعف طالبوه بل لم يبق له طالب. فقال له أصحابه:
« إنّا قتلنا مقاتلة البصرة ولم يبق فيها إلّا من لا حراك به فأذن لنا في تقحّمها. » فزبرهم وهجّن آراءهم وقال:
« بل ابعدوا عنهم فقد أرعبناهم وأحفظناهم، والرأي أن تدعوا حربهم حتى يكونوا هم الذين يطلبونكم. » ثم انصرف بأصحابه إلى سبخة أى قرّة، وهي بين نهرين وأمر أصحابه باتّخاذ الأكواخ وهذه السبخة بين النخل والقرى والعمارات فكان أصحابه يغيرون يمينا وشمالا ويسوقون مواشى الأكرة وينتهبون أموالهم.
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين