ذكر الخبر عن طمعه في ذلك

لمّا انصرف موسى بن بغا عن أعمال المشرق وصار النظر لأبي أحمد الموفّق وضمّ أبو أحمد كور دجلة إلى مسرور البلخيّ وتشاغلوا بحرب يعقوب، خلت كور دجلة من عمّال السلطان وعساكره سوى المدائن.
فوجّه صاحب الزنج أحمد بن مهدى من أهل جبّى في سميريّات فيها رجال رماة إلى نهر المرأة، فجعل الجبّائى يوقع بالقرى.
فكتب إلى صاحبه:
« إنّ البطيحة خالية من رجال السلطان، لانصراف مسرور وأصحابه إلى محاربة يعقوب بن الليث. » فأمر صاحب الزنج رجلا من باهلة يقال له عمير بن عمّار - كان عالما بطرق البطيحة ومسالكها - إلى أن يسير مع الجبّائى حتى يستقرّ بالحوانيت.
وكاتب سليمان بن جامع أن يسير إلى الحوانيت فسار الجبّائى في طريق الماذيان فتلقّاه رميس فواقعه الجبّائى فهزمه وأخذ أربعا وعشرين سميرية ونيّفا وثلاثين صاخة وأفلت رميس ووافق خروجه منهزما مع أصحابه خروج سليمان بن جامع من النهر العتيق. فتلقّاه فأوقع به فيمن أفلت معه وانحاز رميس إلى بئر مساور ولحق بسليمان من مذكورى البلالية وأنجادهم جماعة في نحو من مائة وخمسين سميريّة فاستخبرهم الخبر فقالوا:
« ليس بينك وبين واسط أحد من عمّال السلطان وولاته. » فاغترّ سليمان بذلك وسار حتى انتهى إلى الجازرة فتلقّاه رجل يقال له أبو معاذ القرشي، فواقعه فانهزم سليمان عنه وقتل أبو معاذ جماعة وأسر جماعة فيهم قائد من قوّاد الزنج يقال له: رباح، وانصرف سليمان إلى موضعه الذي كان معسكرا به فأتاه رجلان من البلالية فقالا:
« ليس بواسط أحد يدافع عنها غير أبي معاذ في الشذاءات التي لقيتك. » فاستعدّ سليمان وكتب إلى الخبيث مع البلاليّة الذين استأمنوا إليه واحتبس الاثنين اللذين أخبراه عن واسط بما أخبراه، وسار قاصدا لنهر أبان فاعترض له أبو معاذ في طريقه ونشبت الحرب بينهما وعصفت الريح فاضطربت شذاة أبي معاذ وقوى عليه سليمان وأصحابه فأدبر عنهم.
ثم مضى سليمان فافتتح نهر أبان فأحرق وانتهب وسبى النساء والصبيان ثم وجّه رجلا يعرف له خبر واسط، فأخبره أنّ مسرورا قد توجّه إليه وأنّه بواسط. فتحمّل سليمان من موضعه وطلب موضعا يقرب عليه قصد صاحبه منه متى لحقه الطلب. فأشير عليه بطيها فتحصّن فيها وجمع إليه كلّ من ظهر منه مكاشفة للسلطان ويثق به من أهل الطفوف وغيرهم وكاتب صاحبه بذلك وبما دبّره، فكتب إليه يصوّب رأيه.
ثم إنّه وجّه الجبّائى في عسكر فبلغه أنّ أغرتمش وخشيشا قد أقبلا فجزع منهما وأخذ في الاستعداد للقائهما. ورجع إليه الجبّائى منهزما وصعد سليمان سطحا فأشرف منه فرأى الجيش فنزل مسرعا وعبر النهر وأمر السودان أن يستتروا حتى لا يظهر منهم أحد ويتواروا بالأدغال وتدعوا القوم حتى يتوغّلوا ولا يتحرّك واحد إلى أن يسمعوا أصوات طبوله فإذا سمعوها خرجوا. وقصد أغرتمش لجيشه وشغلهم قائد من قوّاد الزنج عن دخول العسكر يقال له: أبو الندى، وشدّ سليمان من وراء القوم وضرب الزنج بطبولهم وألقوا أنفسهم في الماء للعبور إليهم فانهزم أصحاب أغرتمش، وخرج إليهم من كان بطميشا من السودان فوضعوا فيهم سيوفهم وانهزم خشيش على أشهب كان تحته يريد الرجوع إلى عسكره. فتلقّاه السودان فصرعوه وأخذته سيوفهم فقتل وحمل رأسه إلى سليمان.
وقد كان خشيش حين أسرعوا إليه قال لهم:
« أنا خشيش فلا تقتلوني واذهبوا بي إلى صاحبكم. » فلم يسمعوا قوله. وانهزم أغرتمش وظفر الزنج بعسكره وشذاءاته ودوابّه وأسلابه وكتب إليه صاحبه بالفتح وحمل إليه رأس خشيش وخاتمه، فأمر فطيف به في عسكره ونصب ثم حمله إلى عليّ بن أبان وهو يومئذ مقيم بنواحي الأهواز، وأمر بنصبه هناك.
وفيها كانت وقعة بين أحمد بن ليثويه صاحب مسرور وبين عليّ بن أبان
فهزم الزنوج وقتل منهم مقتلة عظيمة وذلك أنّ مسرورا وجّه أحمد بن ليثويه إلى ناحية الأهواز وكان عليّ بن أبان بتستر فقصده ابن ليثويه فزحف عليّ بن أبان إليه وهو يبشّر أصحابه ويعدهم الظفر ويحكى ذلك لهم عن الخبيث. فلمّا وافى الباهليون - وهي قرية تعرف بذلك - تلقّاه ابن ليثويه في جماعة كثيفه من خيل السلطان واستأمن إليه جماعة من العرب فانهزم عليّ بن أبان ثم كرّ عليهم مع جميعة من رجّالته فاشتدّ القتال وترجّل عليّ بن أبان فباشر القتال بنفسه راجلا وبين يديه غلام يقال له فتح، وبصر بعليّ بن أبان قوم فعرفوه وأنذروا الناس به، فانصرف هاربا حتى لجأ إلى المسرقان، فألقى نفسه فيه وتلاه فتح فغرق فتح ولحق عليّ بن أبان نصر الرومي فتخلّصه من الماء وكان أصاب ساقه سهم، فانصرف مفلولا من أنجاد السودان وأبطالهم عدد كثير.
ودخلت سنة ثلاث وستين ومائتين ظفر يعقوب بن الليث بمحمد بن واصل

وفيها ظفر يعقوب بن الليث بمحمد بن واصل أخذه ابن عزيز بن السريّ فجاء به إلى يعقوب أسيرا.
وملك يعقوب فارس وسار إلى الأهواز، فلمّا صار إلى النوبندجان انصرف أحمد بن ليثويه عن تستر وارتحل عن بلدان الأهواز كلّ من كان بها من قبل السلطان.
ثم أقام عليّ بن أبان بنهر السدرة إلى أن دخل صاحب يعقوب الأهواز واسمه الخضر. فجعل يغير عليه وأغار صاحب يعقوب عليه ولم يزل كذلك الأمر مدّة.
ثم تجاسر عليه أعنى عليّ بن أبان على الخضر فسار إليه وأوقع به وقتل من أصحاب يعقوب خلقا وهرب الخضر إلى عسكر مكرم، فلمّا استباح عليّ عسكره والأهواز رجع إلى نهر السدرة وكتب إلى بهبوذ يأمره بأصحاب الصفّار أن يوقع بهم وهم بالدورق. فمضى بهبوذ إلى الدورق وأوقع بأولئك.
فكان عليّ يتوقّع بعد ذلك مسير يعقوب إليه فلم يسر.
وأمدّ الخضر بأخيه الفضل وأمرهما بالكفّ عن قتال أصحاب الخبيث والاقتصار على المقام بالأهواز. فأبى ذلك عليّ دون نقل طعام هناك، فتجافى له الصفّار عن ذلك الطعام وتجافى عليّ للصفّار عن علف كان بالأهواز. فنقل عليّ الطعام وترك العلف وتكافّ الفريقان: أصحاب عليّ وأصحاب الصفّار.
ودخلت سنة أربع وستين ومائتين

وفيها مات عبيد الله بن يحيى بن خاقان من صدمة خادم له وصلّى عليه أبو أحمد ومشى في جنازته واستوزر من الغد الحسن بن مخلد، ثم قدم موسى بن بغا فهرب الحسن بن مخلد واستوزر مكانه سليمان بن وهب.
وفيها توجّه جيش من قبل الصفّار إلى الصيمرة ونفذوا إليها وأخذوا صيغون وحملوه أسيرا.
وفيها مات موسى بن بغا ببغداد وحمل إلى سرّ من رأى فدفن بها.
محاربة محمد المولد وسليمان بن الجامع

وفيها ولى محمد المولّد واسطا فحاربه سليمان بن جامع وهو قريب من تلك الناحية، فهزمه وأخرجه من واسط ودخلها.
ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ عليّ بن أبان لمّا هزم بأغرتمش وجعلان، أشار عليه أحمد بن مهدى الجبّائى بتطرّق عسكر البخاريّ وهو على خمسة فراسخ من عسكر تكين فلمّا وافى ذلك الموضع قال له الجبّائى:
« الرأي أن نقيم هاهنا وأمضى أنا في السميريّات فأحتر القوم وأتعبهم فيأتوك لغبين فتنال حاجتك. » فأقام سليمان وعبّأ خيله ورجّالته بموضعه ومضى الجبّائى فقاتلهم ساعة وأعدّ تكين حيلة وتطارد له الجبّائى وطال على عليّ بن أبان انتظار الجبّائى.
فأقبل يقفوا إثر الجبّائى. فأنفذ الجبّائى غلاما له إلى سليمان بن جامع أنّ أصحاب تكين واردون عليك بخيلهم.
فتلقّاهم الرسول فردّه إلى معسكره وجعل عليّ كمينا ممّا يلي الصحراء في ميسرة تكين وقال:
« إذا جاوزتكم خيل تكين فاخرجوا من ورائهم. » فلمّا علم الجبّائى أنّ سليمان قد أحكم أمره رفع صوته وقال لأصحابه ليسمع أصحاب تكين:
« غررتموني وأهلكتمونى، وقد كنت أمرتكم ألّا تدخلوا هذا المدخل، فأبيتم إلّا أن تلقوني وأنفسكم في هذه الورطة التي لا نرى أنّا ننجو منها. »
فطمع أصحاب تكين لمّا سمعوا كلامه وجدّوا في طلبه وجعلوا ينادونه:
« بلبل في قفص. » وسار الجبّائى سيرا حثيثا واتبعوه بجدّ يرشقونه حتى جاوز الكمين وقارب عسكر سليمان، وهو أيضا كامن وراء الجدر في خيله ورجله.
فزحف سليمان وخرج الكمين من وراء الخيل وعطف الجبّائى فأتاهم الروع من الوجوه كلّها فانهزموا. وركبهم الزنج يقتلونهم ويأسرونهم ويسلبونهم حتى قطعوا ثلاثة فراسخ.
ثم وقف سليمان وقال للجبّائى:
« نرجع فقد غنمنا وسلمنا والسلامة أفضل من كلّ شيء. » فقال الجبّائى:
« كلّا قد نفذت حيلتنا فيهم ونخبت قلوبهم. والرأي أن نكبسهم في ليلتهم هذه فلعلّنا أن نفضّ جمعهم ونجتاحهم. » فاتبع سليمان رأى الجبّائى وصار إلى عسكر تكين فقاتلهم تكين قتالا شديدا حتى انكشف عنه سليمان. ثم وقف سليمان وعبّأ أصحابه ثانية ووجّه شبلا في خيل ورجّالة إلى الصحراء وأمر الجبّائى فسار في السميريّات في بطن النهر وسار هو فيمن معه من أصحابه حتى وافى تكين، فلم يثبت له أحد وانكسفوا فتركوا في عسكرهم. فغنم ما فيه وأحرق الباقي وانصرف وكان استأذن صاحبه في الإلمام به فألفى في منصرفه ورود الإذن له، فاستخلف الجبّائى وحمل الأعلام التي أصابها من عسكر تكين والشذاءات التي كان أخذها من خشيش وأصحابه اغرتمش ومن كان معهم إلى عسكر الخبيث.
ثم كانت لعليّ بن أبان والجبّائى وغيرهما من أصحاب الخبيث وقعات منكرات وأمور هائلة ما كتبتها لخلوّها ممّا بنيت عليه كتابي هذا إلى أن دخل أصحابه واسطا.