[ تتمة العصر العباسي ]

[ تتمة خلافة المعتضد ]

الحمد لله واهب العقل
ودخلت سنة أربع وثمانين ومائتين

قدوم رسول عمرو بن الليث برأس ابن هرثمة

وفيها قدم رسول عمرو بن الليث برأس رافع بن هرثمة في المحرّم. فأمر المعتضد برفعه ونصبه في الجانب الشرقيّ، ثم تحويله إلى الجانب الغربيّ إلى الليل، ثم ردّه إلى دار السلطان.
أمور قام بها المعتضد

وفي هذه السنة عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس.
فخوّفه عبيد الله بن سليمان ذلك وقال:
« إنّ العامّة تضطرب. »
فلم يلتفت إليه.
فكان أوّل ما ابتدأ به من ذلك أن تقدّم إلى العامّة بلزوم أعمالهم، وترك الاجتماع والعصبيّة والشهادات عند السلطان، وأن لا يسألوا عن شهادة إن كانت عندهم، ومنع القصّاص من الجلوس على الطرقات، وعملت بذلك نسخ قرئت بالجانبين بمدينة السلام وفي الأرباع والمحالّ والأسواق.
ثم منع يوم الجمعة أهل الجانبين من أهل الحلق والفتيا وغيرهم من القعود في المسجد الجامع، ومنع الباعة من القعود في رحابها، ونودى في المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع على قاصّ وغيره، ثم نودى في الجانبين والجامعين بأنّ الذمّة بريئة ممّن اجتمع على مناظرة أو جدل، وأنّ من فعل ذلك أحلّ بنفسه. وتقدّم إلى من يسقى الماء وأمثالهم في الجامعين ألّا يترحّموا على معاوية ولا يذكروه.
إخراج كتاب اللعن

ثم تقدّم المعتضد بإخراج الكتاب الذي كان المأمون أمر بإنشائه وفيه مثالب معاوية، ولعنه بعد ذلك فأخرج وهو كتاب طويل.
فحكى أنّ عبيد الله بن سليمان أحضر يوسف بن يعقوب القاضي وأمره أن يعمل الحيلة في إبطال ما عزم عليه المعتضد خوفا من فتنة تقع.
فمضى القاضي يوسف فكلّم المعتضد وقال:
« إني أخاف أن تضطرب العامّة عند سماع هذا الكتاب، وتكون لها حركة. » فقال: « إن تحركت العامّة أو نطقت، وضعت سيفي فيها. » فقال: « يا أمير المؤمنين فما تصنع بالطالبيّين الذين هم في كلّ ناحية يخرجون ويميل إليهم خلق كثير ومآثرهم في هذا الكتاب، وإذا سمع الناس هذا كانوا إليهم أميل أو كانوا هم أبسط ألسنة وأثبت حجّة منهم اليوم. ».
فأمسك عنه المعتضد فلم يردّ عليه جوابا ولم يأمر بعد ذلك في الكتاب بشيء.
لحوق بكر بمحمد بن زيد العلوي بطبرستان

وفيها لحق بكر بن عبد العزيز بمحمّد بن زيد العلوي بطبرستان وبدر مقيم بالجبل ينتظر أمر بكر إلى ما ذا يؤول. فورد الخبر بعد زمان أنّه مات بطبرستان.
وثوب أبي ليلى على شفيع الخادم وقتله

وورد الخبر من إصبهان بوثوب أبي ليلى الحارث بن عبد العزيز على شفيع الخادم الموكّل به وقتله.
ذكر الخبر عن ذلك

كان أخوه عمر أخذه فقيّده وحمله إلى قلعة لأبي دلف بالزّز وحبسه فيها وكلّ ما كان لأبي دلف من مال ومتاع نفيس وجوهر كان في هذه القلعة، وشفيع مولاهم يحفظ القلعة وكلّ ما فيها ومعه جماعة من غلمان عمر وثقاته. فلمّا استأمن عمر إلى السلطان وهرب بكر عاصيا للسلطان بقيت القلعة بما فيها في يد شفيع وأبو ليلى مقيّد مسلّم إليه.
فكلّمه أبو ليلى في إطلاقه فأبى وقال:
« لا أخون صاحبي عمر. » فحكت جارية لأبي ليلى في الحبس، أنّه كان معه غلام صغير يخدمه وآخر يخرج في حوائجه ولا يبيت عنده، فأمّا الصغير فيبيت عنده. فقال أبو ليلى لغلامه الذي يدخل ويخرج في حوائجه:
« احتل لي في مبرد كيف شئت. » ففعل الغلام وأدخله في شيء من طعامه. وكان شفيع يجيء في كلّ ليلة إذا أراد أن ينام إلى البيت الذي فيه أبو ليلى، حتى يراه، ثم يقفل عليه باب البيت هو بنفسه ويمضى فينام وتحت فراشه سيف مسلول. وكان أبو ليلى قد سأل أن تدخل إليه جارية، فأدخلت إليه جارية صغيرة السن.
فذكر عن دلفاء جارية أبي ليلى عن هذه الجارية الصغيرة أنّها قالت:
برد أبو ليلى مسمار قيده، حتى كان يخرجه من رجله إذا شاء ويردّه.
قالت: وجاء شفيع عشيّة من العشايا إلى أبي ليلى فقعد معه يحدّثه، فسأله أبو ليلى أن يشرب معه أقداحا، ففعل. ثم قام الخادم لحاجته، فأمرنى أبو ليلى ففرشت فراشه فجعل عليه ثيابا في موضع الإنسان من الفراش، وصيّره كهيئة الرجل النائم وغطّاه، وأمرنى أن أقعد عند رجل ذلك الشيء المعمول من الثياب كأنّى أغمّزه. وقال:
« إذا جاء شفيع لينظر إليّ فقولي: هو نائم. ليقفل الباب على عادته، ويظنّ أنّى في الفراش. » ثم خرج أبو ليلى واختفى في موضع فيه متاع في صفّة فيها باب هذا البيت، وجاء شفيع فنظر إلى الفراش وسأل الجارية عن خبر أبي ليلى، فأخبرته أنّه نائم وأقفل الباب. فلمّا نام الخادم ومن معه في الدار التي في القلعة خرج أبو ليلى، فأخذ السيف من تحت فراش شفيع وضربه به حتى برد. ووثب الغلمان الذين كانوا حوله نياما فزعين، فاعتزلهم أبو ليلى والسيف بيده، وقال لهم:
« أنا أبو ليلى وقد قتلت شفيعا ولئن تقدّم إليّ واحد منكم لأقتلنّه، وأنتم آمنون، فاخرجوا من هذه الدار حتى أكلّمكم بما أريد. » ففتحوا باب القلعة واجتمع كلّ من كان في القلعة فكلّمهم ووعدهم بالإحسان وأخذ عليهم الأيمان. فلمّا أصبح نزل ووجّه إلى الأكراد وأهل الرموم فجمعهم وفرّق فيهم مالا وخرج مخالفا على السلطان.
ثم مضى إلى إصبهان، فواقعه عيسى النّوشرى، فأصاب أبا ليلى سهم في حلقه فنحره، فسقط إلى الأرض، وانهزم أصحابه فحمل إلى إصبهان.
ودخلت سنة خمس وثمانين ومائتين

خروج صالح بن مدرك على الحاج

وفيها خرج صالح بن مدرك على الحاجّ في جماعة من طيّ بالأجفر في المحرّم. فحاربه الجنّى وكان أمير القافلة فهزمه الأعراب وظفروا بالقافلة فأخذوا جميع ما فيها وأخذوا جماعة من النساء الحرائر. وبلغ قيمة ما أخذوا من الناس ألفي ألف دينار.
حمل رأس أبي ليلى إلى بغداد

وحمل رأس أبي ليلى المقتول بإصبهان إلى بغداد، فاستوهبه أخوه عمر من المعتضد، فوهبه له، فدفنه، وخلع على عمر في هذا اليوم.
ورود الخبر بوفاة ابن عيسى

وفيها ورد الخبر بوفاة محمّد بن عيسى بن شيخ، وقام ابنه أحمد بن محمّد بن عيسى بما كان في يد أبيه بآمد على سبيل التغلّب. فخرج إليه المعتضد قاصدا لحربه.
هارون بن خمارويه يوجه رسلا إلى المعتضد

وفيها وجّه هارون بن خمارويه بن أحمد ومن معه رسلا إلى المعتضد، يلتمسون مقاطعتهم على ما في أيديهم من مصر والشام، ويسألونه إجراء هارون على ما كان يجرى عليه أمر أبيه. فردّ المعتضد رسله مع رسول له بمشافهات وشروط.
ودخلت سنة ستّ وثمانين ومائتين

توجيه محمد بن أبي الساج ابنه إلى بغداد رهينة

وفيها وجّه محمّد بن أبي الساج ابنه المعروف بأبي المسافر إلى بغداد رهينة، بما ضمن له من الطاعة والمناصحة. فقدم في المحرّم منها ومعه هدايا والمعتضد غائب. وكان المعتضد في السنة المتقدمة قد حمل إليه الخلع وكتب الولاية على ما كان تغلّب عليه من بلاد أذربيجان.
وصول المعتضد إلى آمد

وفيها وصل المعتضد إلى آمد، فأناخ بجنده عليها وأغلق محمّد بن أحمد بن شيخ أبواب مدينة آمد وعلى من فيها من أشياعه. ففرّق المعتضد جيوشه حولها وحاصرهم وذلك لأيّام بقيت من شهر ربيع الأوّل.
ثم جرت بينهم حروب، ونصب أهل آمد على سورهم المجانيق، ونصب المعتضد عليها المجانيق وتراموا بها.
وفي يوم السبت لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى، توجّه محمّد بن أحمد بن شيخ في هذا اليوم ومن معه من أصحابه وأوليائه، فوصلوا إلى المعتضد فخلع عليه وعلى رؤساء أصحابه وانصرفوا إلى مضرب قد أعدّ لهم، وتحوّل المعتضد من معسكره إلى منازل ابن عيسى بن شيخ ودوره، وكتب بذلك كتابا إلى مدينة السلام.
ورود كتب هارون بن خمارويه إلى المعتضد

ووردت كتب هارون بن خمارويه يبذل أعمال قنّسرين والعواصم ويحمل إلى بيت المال بمدينة السلام في كلّ سنة أربعمائة وخمسين ألف دينار، ويسأل أن يحدّد له ولاية مصر والشام، وأن يوجّه المعتضد بخادم من خدمه إليه بذلك. فأجابه إلى ما سأل وتسلّم المعتضد أعمال قنّسرين والعواصم من أصحاب هارون، وارتحل نحو الرقّة، وخلّف ابنه عليّا بآمد مع جيوش ضمّهم إليه، ليضبط الناحية وأعمال قنّسرين والعواصم وديار ربيعة ومضر.
وكان كاتب عليّ بن المعتضد يومئذ الحسين بن عمرو النصراني، وأمر المعتضد بهدم سور آمد فهدم.
موافاة هدية من عمرو بن الليث من نيسابور