وفيها توفّى محمّد بن أبي الساج فاجتمع غلمانه وجماعة أصحابه فأمّروا عليهم ديوداذ بن محمّد واعتزلهم يوسف بن أبي الساج مخالفا لهم.
وفيها جيء بعمرو بن الليث. وذكر أنّ إسماعيل بن أحمد خيّره بين المقام عنده وبين توجيهه إلى باب أمير المؤمنين، فاختار توجيهه، فوجّهه وأرسل المعتضد برسول إسماعيل مع رسوله وحمل معه إليه بدنة وتاجا وسيفا من ذهب مركّب على جميع ذلك الجواهر وهدايا وثلاثة آلاف ألف درهم يفرّقها في جيوش خراسان. وقيل كان المال عشرة آلاف ألف وجّه بعض ذلك من بغداد وكتب بباقيه على عمّال الجبل وأمروا أن يدفعوا ذلك إلى الرسل.
وفيها أوقع يوسف بن أبي الساج وهو في نفر يسير بابن أخيه ديوداذ، فهزم عسكره وبقي ديوداذ في جماعة قليلة فعرض عليه يوسف بن أبي الساج المقام معه فأبى وقال:
« أمضى إلى باب السلطان. » فجعل يسايره مدّة ويسأله المقام معه، فأبى وأخذ طريق الموصل حتى وافى بغداد.
ودخلت سنة تسع وثمانين ومائتين

انتشار القرامطة بسواد الكوفة

وفيها انتشر القرامطة بسواد الكوفة فوجّه إليهم شبل غلام أحمد بن محمّد الطائي فشخص إليهم فظفر بجماعة منهم وظفر برئيس لهم يعرف بابن أبي القوس فوجّه به وبهم فدعا به المعتضد وساءله ثم أمر به فقلعت أضراسه ثم خلّع مدّت إحدى يديه ببكرة وعلّق في الأخرى صخرة وترك على حاله تلك ثلاثة ساعات ثم قطعت يداه ورجلاه من غد هذا اليوم وضربت عنقه وصلب.
سياسة المعتضد في الشيخ والمرأة المغصوبة والرجل الغاصب

ومن سياسة المعتضد التي تستفاد منها تجربة ما حدّث به أبو الحسين محمّد بن عبد الواحد الهاشمي أنّ شيخا من التجار كان له على بعض القوّاد مال جليل، فماطله ثم جحده. قال: فعملت على التظلّم إلى المعتضد لأنّى كنت تحمّلت عليه وتظلّمت إلى عبيد الله بن سليمان فلم ينفعني ذلك فقال لي بعض إخوانى:
« عليّ أن آخذ المال لك ولا تحتاج إلى الظلامة إلى الخليفة، قم معي الساعة. » قال: فقمت معه فجاء بي إلى خيّاط في سوق الثلاثاء وهو جالس يخيط ويقرأ القرآن في مسجد. فقصّ عليه قصّتى، فقام معنا. فلمّا مشيت تأخّرت وقلت لصديقى:
« إنّك قد عرّضت هذا الشيخ ونفسك وإيّاى لمكروه عظيم. » قال: « كيف؟ » قلت: « لأنّه قد استخفّ بي مرارا وبجماعة من شفعائي مرارا كثيرة ولم يلتفت إلى مثل فلان وفلان ولا إلى الوزير، وأخاف أن يصفعنا صفعا وجيعا ويطردنا. » فضحك الرجل وقال:
« لا عليك، امش واسكت. » فجئنا إلى باب القائد فحين رآه غلمانه أعظموه وأرادوا تقبيل يده فمنعهم، وقالوا:
« ما جاء بك أيّها الشيخ فإنّ صاحبنا راكب؟ » فقال: « أدخل وأجلس إلى أن يحضر. » فبادروا إلى الإذن له وأجلسوه في أرفع موضع. فقويت نفسي وجاء الرجل، فلمّا رأى الخيّاط أعظمه إعظاما شديدا وقال:
« لا أنزع ثيابي حتى تأمر بأمرك. » فخاطبه في أمري فقال:
« والله ما عندي إلّا خمسة آلاف درهم. » فسأله أن يأخذها في الوقت ويأخذ رهنا بباقي ماله إلى أن تجيئني غلّتى.
فبادرت إلى الإجابة فأحضر الدراهم وخرجنا. فلمّا بلغنا موضع الخيّاط طرحت المال بين يديه وقلت:
« يا شيخ إنّ الله قد ردّ المال عليّ لسعيك وبركتك، فأحبّ أن تأخذ من المال نصفه أو ثلثه حتى تطيب نفسي. » فقال: « ما أسرع ما كافأتنى على الجميل بالقبيح. انصرف بمالك، بارك الله لك فيه. » فقلت: « قد بقيت لي حاجة. »
قال: « قل. » قلت: « تخبرني عن سبب طاعته لك مع تهاونه بأكثر أهل هذه الدولة؟ » فقال: « يا هذا، قد بلغت مرادك، فلا تقطعني عن شغلي ومعاشي. » تفألححت عليه.
قال: « أنا رجل أؤمّ وأقرأ في هذا المسجد منذ أربعين سنة، ومعاشي من هذه الخياطة، وكنت منذ دهر قد صلّيت المغرب، وخرجت أريد منزلي، فاجتزت برجل تركيّ كان في هذه الدار وقد تعلّق بامرأة مجتازة وكانت جميلة، وأدخلها إلى داره وهي تستغيث وليس أحد يغيثها. » قال: « فرفقت بالتركيّ وسألته تركها، فضرب رأسى بدبّوس وشجّنى وشتمني، ويئست من المرأة وخلاصها، وصرت إلى المنزل وغسلت الدم وشددت الشجّة واستروحت، وخرجت أصلّى العشاء الآخرة. فلمّا فرغنا قلت لمن حضر: قوموا معي إلى عدوّ الله، هذا التركيّ، لننكر عليه ولا نبرح حتى نخرج المرأة. فقاموا معي وجئنا وصحنا على بابه فخرج إلينا في عدّة من غلمانه، وقصدني من بين الجماعة فضربني ضربا مبرّحا كدت أتلف منه.
فحملني الجيران إلى منزلي وعالجنى أهلى ونوّمت فلم أنم إلى نصف الليل.
فقلت في نفسي هذا قد شرب إلى الآن ولا يعرف الأوقات، فلو أذّنت لوقع له أنّه الفجر، فلعلّه يطلق عن المرأة. وكانت المرأة لمّا تعلّق بها قالت: إنّ زوجي قد حلف بطلاقى ألّا أبيت عن منزلي وأعظم ما عليّ أن أطلّق وأبين منه فطمعت أن تلحق المرأة بمنزلها قبل الفجر وتسلم من أحد المكروهين.
فخرجت متحاملا حتى صعدت المنارة، فأذّنت وجلست أتطلّع منها إلى الطريق أرقب خروج المرأة، فإن خرجت وإلّا أقمت الصلاة لئلا يشكّ في الصبح ويخرجها. فما مضت إلّا ساعة فإذا الشارع قد امتلأ خيلا ورجلا ومشاعل وشموعا وهم يصيحون:
« من هذا الذي أذّن الساعة، أين هو. » ففزعت وسكتّ ثم قلت أخاطبهم لعلّى أستعين بهم على إخراج المرأة.
فصحت من المنارة:
« أنا أذّنت. » فقالوا: « انزل فأجب أمير المؤمنين. » فقلت: قد دنا الفرج، ونزلت فإذا بدر مع الجماعة فحملني وأدخلنى إلى المعتضد. فلمّا رأيته هبته وارتعدت فسكّن مني وقال:
« ما حملك على أن تغزّ المسلمين بأذانك في غير وقته فيخرج ذوو الحاجة في غير حينها، ويمسك المريد للصوم في وقت قد أتيح له الإفطار، وينقطع العسس عن الطوف والحرس؟ » فقلت: « يؤمنني أمير المؤمنين لأصدق؟ » قال: « أنت آمن. » فقصصت عليه قصّة التركيّ والمرأة وأريته الشجّة وآثار الضرب بي.
فقال:
« يا بدر، عليّ بالغلام والمرأة الساعة. » فعزلت في موضع. ومضى بدر وأحضر الغلام والمرأة فسألها المعتضد عن الصورة فأخبرته بمثل ما قلته. فقال لبدر:
« بادر بها الساعة إلى زوجها مع ثقة من الخدم يدخلها دارها ويشرح لزوجها خبرها ويأمره عني بالتمسك بها والإحسان إليها. » ثم استدعاني فوقّفت، فجعل يخاطب الغلام وأنا قائم أسمع. وكان فيما خطبه به أن قال:
« كم جرايتك؟ » فقال: « كذا. » قال: « وكم عطاؤك؟ » قال: « كذا. » قال: « أفما كان لك في جواريك وجاريك وفي هذه النعمة الواسعة كفاية عن معصية الله تعالى، وعن خرق هيبة السلطان، حتى استعملت القحة وتجاوزت ذلك إلى الوثوب على من أمرك بالمعروف؟ » فأسقط الغلام في يده ولم يحر جوابا. فقال:
« هاتوا جوالقا وقيدا وغلّا ومداقّ الجصّ. » فأتى بها كلّها. فأدخله الجوالق وأمر الفرّاشين بدقّه، وأنا أرى ذلك كلّه، وهو يصيح. ثم انقطع صوته ومات. وأمر به فغرّق في دجلة وتقدّم إلى بدر بحمل ما في داره، ووصلني بألف درهم. ثم قال لي:
« يا شيخ أيّ شيء رأيت من أجناس المنكر ولو على هذا - وأشار بيده إلى بدر - فإن لم يقبل منك، فالعلامة بيننا أن تؤذّن في هذا الوقت، فإني أسمع صوتك وأستدعيك وأفعل مثل هذا بمن لا يقبل منك أو يؤذيك. » قال: فدعوت له وانصرفت.
وانتشر الخبر في غلمان الدار والحاشية ثم الأولياء والجند والعامّة. فما خاطبت أحدا منهم بعدها في إنصاف لأحد أو كفّ عن القبيح، إلّا طاوعنى - كما رأيت - خوفا من المعتضد وما احتجت أن أؤذن في غير وقت الأذان إلى الآن.
خلافة المكتفي بالله

وفيها توفّى المعتضد ليلة الاثنين من ربيع الآخر. وفي صبيحتها أحضر دار السلطان عبد الحميد بن عبد العزيز أبو حازم ويوسف بن يعقوب وأبو عمر محمّد بن يوسف، فتولّى غسل المعتضد محمّد بن يوسف، وتولّى الصلاة عليه يوسف بن يعقوب، وحضر الصلاة عليه الوزير القاسم بن عبيد الله وأبو حازم وأبو عمر والخدم والخاصّة.
وجلس القاسم بن عبيد الله بن سليمان في دار السلطان، وأذن للناس، فعزّوه بالمعتضد، وهنّأوه بالمكتفى، وتقدّم في تجديد البيعة للمكتفى بالله، ففعلوا.
وكتب بالخبر إلى المكتفي وكان بالرقّة فتقدّم إلى كاتبه بأخذ البيعة على من في عسكره، ووضع العطاء لهم. ففعل وشخص إلى بغداد فدخلها وكنّى بلسانه القاسم بن عبيد الله وخلع عليه.
وفي اليوم الثاني من مقدمه هذا هلك عمرو بن الليث الصفّار.
هلاك عمرو بن الليث الصفار ذكر الخبر عن هلاكه

وكان المعتضد لمّا امتنع من الكلام عند موته أمر صافيا الحرمي بقتل عمرو بالإشارة والإيماء، ووضع يده على عينه وعلى رقبته، أى: اذبح الأعور. فلم يفعل ذلك صافى لقرب وفاة المعتضد وكره قتله. فلمّا دخل المكتفي سأل القاسم بن عبيد الله عن عمرو:
« أحيّ هو؟ » قال: « نعم. » فسرّ بحياته وقال:
« أريد أن أحسن إليه. » وكان عمرو يهدى إلى المكتفي ويبرّه برّا كثيرا فأراد مكافأته. فكره القاسم ذلك، ودسّ إلى عمرو من قتله. وفيها كان مقتل بدر غلام المعتضد.