« ارجع فجرّ برجله وخذه لعنكما الله. » قالوا: « ومن أنتما؟ » قالوا: « نحن المؤمنون. » ثم تنحّى فحبا حتى أخذ أخاه ودخلوا فأغلقوا الباب، وركب ابن كنداجيق بمن معه من الجيش حتى صار إلى الموضع فنظر الديذبان عند صهاريج الحجّاج إليهم فقالوا:
« إنّهم نحو ثلاثين فارسا. » فخرج إليهم عطارد ابن شهاب العنبري وخواصّه وغلمان من شحنة البصرة والمطوّعة، فقتل أكثرهم ولم ينج منهم إلّا من هرب قبل المعاينة، وسلبوهم ولم يتركوا عليهم شيئا إلّا السراويلات بغير تكك ثم ضربوهم ضربات قبيحة ورجع ابن كنداجيق وغلّق الباب وجنّة الليل.
فلمّا أصبح لم ير منهم أحدا، فكتب إلى ابن الفرات - وكان هو الوزير في الوقت - يستنجده، فأمدّه بمحمّد بن عبد الله الفارقي في جيش كثيف وقائد من الرجال يعرف بقورويه، وجعفر الزّرنجى في نفر من الرجالة معونة لابن كنداجيق.
علي بن عيسى الوزير والقرامطة

فلمّا تقلّد أبو الحسن عليّ بن عيسى الوزارة شاوره المقتدر في أمر القرامطة فأشار بمكاتبة أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنّابى، فتقدّم إليه بمكاتبته وإنفاذ الكتاب على يدي من يرى، فكتب كتابا طويلا جدّا يذكّرهم بالله ويدعوهم إلى الطاعة ويقول في آخره:
« إنّ أمير المؤمنين جعل كتابه هذا ظهريّا عليك وحجّة من الله بيّنة فيك، وقاطعا لعللك، وبابا يعصمك إن صدقت عمّا أراده من الخير بك، وعظمت النعمة فيما بذله من العهد لك. » ونفذ الرسل، فلمّا وصلوا إلى البصرة انتهى إليهم قتل أبي سعيد، فتوقّفوا عن المسير وكاتبوا الوزير عليّ بن عيسى بذلك واستطلعوا رأيه، فعاد الجواب إليهم بالمسير إلى أولاده ومن قام بعده مقامه، فتمّموا المسير وأوصلوا الكتاب وأدّوا الرسالة، فأجابوا عن الكتاب وأطلقوا الأسرى الذين تكلّم فيهم الرسل، وعاد بهم الرسل إلى بغداد.
ودخلت سنة اثنتين وثلاثمائة

وفيها قبض على أبي عبد الله الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصّاص الجوهري وأنفذ إلى داره جماعة حتى حملوه إلى دار السلطان فأخذ منه من المال والجواهر ما قيمته أربعة آلاف وكان هو يدّعى أكثر من ذلك بكثير ويتجاوز في ذلك عشرين ألف ألف دينار وأكثر.
وفيها خرج الحسين بن عليّ العلوي وتغلّب على طبرستان ولقب الداعي فوجّه إليه أخو صعلوك جيشا فلم يثبتوا له وانصرفوا فعاد العلوي إليها.
ودخلت سنة ثلاث وثلاثمائة

خروج الحسين بن حمدان عن طاعة السلطان وما كان من عاقبته

وفيها ورد الخبر بأنّ الحسين بن حمدان قد خالف وخرج عن طاعة السلطان. وكان مونس الخادم غائبا قد أخرج إلى مصر لمحاربة العلويّ صاحب المغرب لمّا قصد مصر في نيّف وأربعين ألفا.
فندب له الوزير عليّ بن عيسى رائقا الكبير وخلع عليه، وكتب إلى مونس يعرّفه الخبر ويأمره بالمسير إلى ديار مضر إذا انصرف من مصر، وأن يجذب معه أحمد بن كيغلغ وعليّ بن أحمد بن بسطام والعبّاس بن عمرو ليصلح الديار فيزيل الاختلال ويحفظ الثغور وخاصّة الخزرية منها. فقد كان جرى على حصن منصور من قصد الروم إيّاه وسبيهم كلّ من كان في نواحيه أمر عظيم لتشاغل الناس بالحسين بن حمدان عن الغزاة الصائفة.
ولمّا صار رائق إلى الحسين بن حمدان أوقع به الحسين، فصار رائق إلى مونس واتصلت كتب عليّ بن عيسى الوزير إلى مونس بالإسراع نحو الحسين، فجدّ مونس في المسير، ولمّا قرب من الحسين جاءه مروان كاتب الحسين وجرت بينه وبينه خطوب، كتب بها مونس إلى عليّ بن عيسى، وذكر أنّ مروان أوصل إليه كتابا من الحسين يتضمّن خطابا طويلا قد افتتحه وختمه وكرّر القول في فصوله:
« إنّ السبب في خروجه عمّا كان عليه من الثقة والطاعة عدول الوزير - أيّده الله - عمّا كان عليه في أمره إلى ما أوحشه وأنّه لم يف له بضمانات ضمنها له. » وذكر أنّه قد اجتمع له من قبائل العرب ورجال العشيرة ثلاثون ألف رجل، وأنّه سأل الرسول عمّا حمله الحسين من الرسالة إليه، فذكر أنّه يسأله المقام بحرّان إذ كانت تحمل عسكره، وأن يكاتب الوزير - أعزّه الله - في أمره ويسأله صرفه عمّا يتقلّده من الأعمال، وتركه مقيما في منزله وتقليد أخيه ديار ربيعة، وأنّه عرّفه أنّ هذا متعذّر غير ممكن، إذ كانت كتب الوزير متّصلة إليه بالإنجذاب، وأنّ مخالفته غير جائز وأنّه لا يدع الكتاب فيما سأله، ولا يثنيه ذلك عمّا رسمه الوزير - أعزّه الله - فإن عزم على اللقاء فبالله يستعين على كلّ من خالف السلطان - أعزّه الله - وجحد نعمته وإن انقاد للحقّ وسلك سبيله وصار إليه فنزع عمّا هو عليه كان ذلك أشبه به، وإن أبي وأقام على حاله من التعزّز والمخرقة لقيه بمضر بأسرها، وصان رجال السلطان مع وفور عددهم عن التعرّض لطغامه، لا لنكول عنه منه، لكن لاستهانته بأمره، وأنّه وكلّ بكاتبه هذا المترسّل عنه، وأنّه لا يأذن له في الانصراف إلّا بعد أن يعرف خبر الحسين.
ثم وردت الأخبار برحيل مونس حتى نزل بإزاء جزيرة بنى عمر ورحيل الحسين نحو أرمينية مع ثقله وأولاده وأمواله.
ثم انفلّ عسكر الحسين وصاروا إلى مونس أوّلا أوّلا.
وورد كتاب مونس بأنّه قد صار إليه من أقرباء الحسين وغلمانه وثقاته ووجوههم سبعمائة فارس، وأنّه خلع على أكثرهم ونفد ما كان معه من الخلع والمال، وأنّه في احتيال باقى ما يحتاج إليه.
ثم ورد كتابه بأسر الحسين بن حمدان وجميع أهله وأكثر من صحبه، وقبض على أملاك بنى حمدان بأسرهم ودخل مونس ومعه الحسين وابنه بغداد.
فلمّا كان بعد يومين حمل الحسين من باب الشمّاسية إلى دار السلطان مصلوبا على نقنق، منصوبا بأعلى ظهر فالح وابنه مشهور على جمل آخر والبرانس على رؤوسهما، وسار بين يديه الأمير أبو العبّاس ابن المقتدر بالله، والوزير أبو الحسن عليّ بن عيسى، والأستاذ مونس الخادم وأبو الهيجاء عبد الله بن حمدان وإبراهيم بن حمدان وسائر القوّاد والجيش والفيلة، فلمّا وصلوا إلى دار السلطان وقف الحسين بين يدي المقتدر بالله، ثم أمر بتسليمه إلى زيدان القهرمانة وحبس عندها في دار السلطان.
وشغّب الرجّالة والحجرية بعد حصول الحسين بن حمدان، وأحرقوا إصطبل الوزير وطالبوه بالزيادة في أرزاقهم، فزيد بكلّ غلام ثلاثة دنانير في كلّ شهر من شهورهم، وزيد الرجّالة كلّ راجل نصف وربع دينار في كلّ شهر، فسكن الشغب.
وقبض على أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان وجميع أخوته وحبسوا في دار السلطان. وكان هرب ابن للحسين بن حمدان في جماعة من أصحابه وبلغت هزيمته آمد، فأوقع بهم الجزري وقتل ابن الحسين وجماعة من أصحابه، وحملت رؤوسهم إلى الحضرة وصلب قوم من أصحاب الحسين بن حمدان.
ودخلت سنة أربع وثلاثمائة

غلام وهسوذان يقتل أحمد بن سياه

وفيها لقي بإصبهان غلام لعلي بن وهسوذان الديلم وكان يتقلّد أعمال المعاون بها أحمد بن سياه عامل الخراج بها، أنفذه صاحبه إليه في حاجة، واتفق أنّه لقيه وهو راكب، فكلّمه في الحاجة، فاشتدّ ذلك على أحمد بن سياه، وقال له:
« يا مؤاجر تخاطبني في حاجة على ظهر الطريق؟ » فانصرف الغلام إلى مولاه محفظا، وحدّثه بما جرى، فقال له:
« صدق فيما قال، ولو لا أنّك مؤاجر لضربت رأسه بالسيف لمّا خاطبك بذلك، فعاد الغلام ووجد أحمد بن سياه منصرفا فعلاه بالسيف وقتله، فأنكر السلطان ذلك عليه وصرف عليّ بن وهسوذان لأجل ذلك من إصبهان بأحمد بن مسرور البلخي، فاستأذن عليّ بن وهسوذان في الانصراف إلى بلد الديلم، فأذن له، ثم سأل بعد ذلك في أمره مونس الخادم فرضي عنه وأقام بنواحي الجبل.
وفيها قدم محمّد بن عليّ بن صعلوك مدينة السلام وهو ابن عمّ صاحب خراسان مستأمنا فخلع عليه.
زبزب على السطوح وحيلة للسلطان

وفيها في فصل الصيف تفزّعت العامّة من حيوان كانوا يسمّونه الزّبزب، ذكروا أنّهم يرونه في الليل على سطوحهم، وأنّه يأكل أطفالهم. قالوا: وربّما قطع يد الإنسان إذا كان نائما، أو ثدي المرأة فيأكله. وكانوا يتحارسون طول الليل ولا ينامون ويتزاعقون ويضربون الطسوت والصواني والهواوين ليفزّعوه.
وارتجّت بغداد لذلك، حتى أخذ السلطان حيوانا غريبا أبلق، كأنّه من كلاب الماء، وقال:
« هو الزّبزب، وإنّه صيد. » فصلب على نقنق عند الجسر الأعلى، وبقي مصلوبا إلى أن مات.
فلم يغن ذلك إلى أن انبسط القمر، وتبيّن للناس أنّه لا حقيقة لما توهّموه، فأمسكوا. إلّا أنّ اللصوص وجدوا فرصتهم بتشاغل الناس في سطوحهم، فكثرت النقوب.
الوزير يصلى على جنازة شار على أنها جنازة ابن الفرات

وفيها تقرّر عند أبي الحسن عليّ بن عيسى الوزير أنّه قد سعى لابن الفرات في الوزارة وتحققه، فاستعفى منها، ولم يعفه المقتدر، وأظهر في دار السلطان أنّ ابن الفرات عليل شديد العلّة.
واتفق أن مات الشاري الذي كان محبوسا في دار السلطان، والتدبير في أمر الشراة أن يكتم موت من يؤخذ منهم، ممّن تسميه الشراة إماما، فإنّه ما دام حيّا فليس ينصبون إماما غيره، فإن صحّ عندهم موته نصبوا غيره.
فأظهر في دار السلطان أنّ ابن الفرات مات، وكفّن الشاري وأخرجت جنازته على أنّها جنازة ابن الفرات، وصلّى عليه الوزير عليّ بن عيسى، ثم انصرف إلى منزله متوجّعا وقال لخواصه:
« اليوم ماتت الكتابة. » ثم مضت الأيّام ووقف عليّ بن عيسى من جهات كثيرة على تمام السعى لابن الفرات، وأنّه حيّ، فقال لخواصّه:
« ليس ينبغي للإنسان أن يتحدّث بكلّ ما يسمعه. »
صرف علي بن عيسى عن الوزارة

وكان يضجر في أوقات من سوء أدب الحاشية والمطالبة بالمحالات، واستعفى من الوزارة ويخاطب المقتدر في ذلك، فينكر عليه استعفاءه.
إلى أن اتفق يوما أن صارت إليه أمّ موسى القهرمانة في آخر ذي القعدة من سنة أربع وثلاثمائة لتواقفه على ما يطلق في عيد الأضحى للحرم والحاشية، وكان عليّ بن عيسى محتجبا، فلم يجسر سلامة حاجبه عليه أن يستأذن لها فصرفها صرفا جميلا. فغضبت من ذلك وعلم عليّ بن عيسى بحضورها وانصرافها، فأمر أن تلتمس ويعتذر إليها لترجع، فأبت أن تعود، وصارت إلى المقتدر والسيّدة، فأغرت به وتخرّصت عليه الأحاديث، فصرفه المقتدر بالله وقبض عليه غداة الاثنين لثمان خلون من ذي الحجّة سنة أربع وثلاثمائة عند ركوبه إلى دار الخلافة، ولم يعرض لشيء من أملاكه وضياعه وضياع أسبابه، ولا لأحد من أولاده، واعتقل عند زيدان القهرمانة.
فكانت مدّة وزارته هذه ثلاث سنين وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوما.
وزارة أبي الحسن علي بن محمد ابن الفرات الثانية

وفيها تقلّد أبو الحسن الوزارة والدواوين لثمان خلون من ذي الحجّة، وخلع عليه وصار إلى داره بالمخرّم التي كان أقطعها في وزارته الأولى، وكتب إلى الأطراف والبلدان عن المقتدر بالله بخبر إعادته إلى الوزارة على نسخة أنشأها أبو الحسين محمّد بن جعفر بن ثوابة، وفي فصل منه:
« ولمّا لم يجد أمير المؤمنين غنى عنه ولا للملك بدّا منه، وكان كتّاب الدواوين على اختلاف أقدارهم وتفاوت ما بين أخطارهم مقرّين برئاسته معترفين بكفايته متحاكمين إليه إذا اختلفوا واقفين عند غايته إذا استبقوا مذعنين بأنّه الحوّل القلّب المحنّك المجرّب العالم بدرّة المال كيف تحلب ووجوهه كيف تطلب، انتضاه من غمده، فعاد ما عرف من حدّه، فنفّذ الأعمال كأن لم يغب عنها، ودبّر الأمور كأن لم يخل منها. ورأى أمير المؤمنين ألّا يدع سببا من أسباب التكرمة كان قديما جعله له إلّا وفّاه إيّاه، ولا نوعا من أنواع المثوبة والجزاء كان أخّره عنه إلّا حباه به وآتاه. » فخاطبه بالتكنية وكان وكان.
وقبض ابن الفرات على أسباب عليّ بن عيسى واخوته وكتّابه وجميع عمّاله بالسواد وبالمشرق والمغرب، وصادرهم سوى أبي الحسين وأبي الحسن ابنى أبي البغل، فإنّه أقرّهما على ما كانا يتولّيانه من أعمال إصبهان والبصرة، لعناية أمّ موسى بهما. وقبض على أبي عليّ الخاقاني وتتبّع أسبابه، وألزم جميعهم مصادرة ثانية أدّوها، وطالب العمّال المصروفين بالمصادرة وأن يظهروا المرافق ويؤدّوها، ونصب ديوانا للمرافق، وكان ضمن للمقتدر ووالدته من هذه الجهة كلّ يوم ألفا وخمسمائة دينار، وكانت تنسب إلى مال الخريطة، فكان يحملها ولا يمكنه الإخلال بها وكان منها للمقتدر في كلّ يوم ألف دينار، وللسيّدة في كلّ يوم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون دينارا، وثلث، وللأميرين أبي العبّاس وهارون ابني المقتدر في كلّ يوم مائة وستّ وستّون دينارا وثلثا.
وكان ابن الفرات قد اتّسع بما كان استسلفه عليّ بن عيسى من الخراج، فإنّه قد كان جبى قطعة منه قبل الافتتاح وابتدأ بذلك قبل صرفه بعشرة أيّام، وأعدّ المال في بيت المال لينفقه في العيد في إعطاء الحشم والفرسان والأتراك، فقويت نفس ابن الفرات به وانضاف إلى ذلك جملة عظيمة راجت له من مال المصادرات والضمانات، وأموال سفاتج وردت من فارس وإصبهان ونواحي المشرق في درج كتب بحمول كتبت على أنها تصل إلى عليّ بن عيسى، فأطلق جميع ذلك في الفرسان والحشم والخدم ومهمّ النفقات.