وأخذ الحسن بن هارون خطّه بستمائة ألف دينار بعد أن أهانه وصفعه وضربه بالمقارع، فأدّى نحو خمسين ألف دينار إلى أن رحل ابن أبي الساج من واسط إلى الكوفة لمحاربة الهجري وحمله معه مقيّدا وشغل عنه بالحرب وأسر، فأفلت محمّد بن خلف.
ذكر وقعة ابن أبي الساج مع القرمطي وما استعمله من ترك الحزم واستهانته بالعدوّ حتى أسر وما اتفق عليه بعد الأسر حتى قتل

كتب يوسف بن ديوداذ من واسط إلى الوزير أبي الحسن عليّ بن عيسى يلتمس منه حمل مال إليه ليصرفه فيما يحتاج من إعداد الأنزال والعلوفات بين واسط والكوفة ويحتجّ بأنّ أموال المشرق متأخّره عنه وأنّ الأمر ليس يحتمل مع قرب موافاة الهجري بأن ينتظر ورود مال من الجبل ويقول إنّه لا يقنعه لذلك أقلّ من مائة ألف دينار. فعرض عليّ بن عيسى كتابه على المقتدر، فتقدّم بأن يحمل من بيت المال الخاصّة سبعون ألف دينار وينفذ إليه.
وورد الخبر بخروج أبي طاهر من هجر بنفسه يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان، فنزل في الموضع المعروف بالحس وبينه وبين الاحساء مسيرة يومين وأقام به إلى يوم السبت ورحل من غد وكتب السلطان إلى ابن أبي الساج بما ورد من خبره ويأمره بالمبادرة إلى الكوفة.
وكتب عليّ بن عيسى إلى عمّال الكوفة باعداد الميرة والعلوفات ليوسف.
وسار يوسف من واسط يوم الأربعاء لليلة بقيت من شهر رمضان نحو الكوفة وعاد سلامة الطولونى منصرفا من عنده وكان حمل إليه المال.
ولمّا قرب أبو طاهر الهجري من الكوفة أطلق جميع من كان معه من أسارى الحاجّ وهرب عمّال السلطان من الكوفة فأخذ أبو طاهر جميع ما أعدّ ليوسف من المير والعلوفات وهو مائة كرّ دقيقا وألف كرّ شعيرا وقد كان خفّ ما مع أبي طاهر من الميرة، ولحقه وأصحابه شدّة فقوى ومن معه بما صار إليهم. ووافى يوسف إلى ظاهر الكوفة يوم الجمعة لثمان خلون من شوّال وقد سبقه أبو طاهر إليها بيوم واحد فحال بينها وبينه.
وحكى عن أبي طاهر أنّه قال: إنّ عسكره قرب من عسكر يوسف في الطريق بين واسط والكوفة، وكان يوم ضباب، فلم ير أحدهما صاحبه وانّه أحسّ به ولو شاء لأوقع به.
ووجّه يوسف إلى أبي طاهر يدعوه إلى الطاعة، فإن أبي فإنّ الوعد للحرب يوم الأحد.
فحكى الرسول: انّه لمّا صار إليه حمل إلى موضع فيه جماعة متشاكلو الزيّ وقيل له:
« تكلّم فإنّ السيّد يسمع. » ولم يعرف من هو منهم. فأدّى الرسالة فأجيب بأنّه غير مستجيب لما دعاه إليه ولا لتأخير المناجرة. فكانت الحرب بينهما يوم السبت لتسع خلون من شوّال سنة خمس عشرة وثلاثمائة على باب الكوفة. فيقال إنّ ابن أبي الساج لمّا عاين عسكر أبي طاهر ووقف على عزّته أزرى عليه واحتقره وقال:
« من هؤلاء الكلاب؟ هؤلاء بعد ساعة في يدي. » وتقدّم بأن يكتب كتاب الفتح قبل اللقاء تهاونا به وزحف كلّ واحد منهما إلى صاحبه.
فلمّا سمع الهجري صوت البوقات والدّبادب والزّعقات عن عسكر ابن أبي الساج - وكانت عظيمة جدّا - التفت رجل منهم إلى رفيق له وهو يسايره فقال له:
« ما هذا الزجل؟ » فقال له رفيقه: « فشل. » فقال له: « أجل. » ما زاده لفظة.
ورسم عسكر أبي طاهر أن لا تكون فيه بوقات ولا دبادب ولا صياح.
وعبّأ ابن أبي الساج رجاله وانفرد هو مع غلمانه على عادة له في الحرب وكان ابتداء الحرب بينهما مذ ضحوة نهار يوم السبت إلى وقت غروب الشمس. وما قصّر ابن أبي الساج في الثبات وأثخن أصحاب أبي طاهر بالنشّاب وجرح منهم خلقا.
فلمّا رأى أبو طاهر ذلك وكان واقفا في عمّاريّة له مع من يثق به من أصحابه نحو مائتي فارس بالقرب من حيطان الحيز نزل من العمّاريّة فركب فرسا له وحمل بنفسه مع ثقاته وحمل يوسف بنفسه وغلمانه عليه واشتبكت الحرب بينهما فأسر ابن أبي الساج آخر النهار وبه ضربة على جبينه بعد أن اجتهد به غلمانه أن ينصرف فامتنع عليهم وحصل أسيرا في يد أبي طاهر مع جماعة من غلمانه بعد أن قتل من أصحابه عدد كثير وانهزم الباقون.
ولمّا أسر يوسف وقت المغرب حمل إلى معسكر أبي طاهر وضربت له خيمة وفرش له فيها ووكّل به وأحضر رجل معالج يعرف بابن السبيعي. فقال ابن السبيعي هذا: لمّا دخلت إليه إلى الخيمة التي حبس فيها وجدته جالسا وعليه درّاعة ديباج فضّى وجرّبانها ولبّتها من ديباج أحمر وقد تلوّنت بالدم الذي سال من الضربة التي في جبينه، ووجدت الدم قد جمد على وجهه، فالتمست ماء حارّا. فقال لي بعض أصحاب أبي طاهر:
« والله ما ذاك عندنا، ولا عندنا ما يسخن فيه. » وكانوا خلّفوا سوادهم بالقرب من القادسيّة وتجردوا للقتال، فغسلت وجهه بماء بارد وغسلت موضع الضربة وعالجته وسألنى عن اسمى وبأيّ شيء أعرف، فذكرت له ذلك فوجدته يعرف أهلى أيّام كان بالكوفة وهو صبيّ مع أخيه الأفشين وكان يتقلّد الكوفة، فعجبت من ذكره وفهمه وقلّة اكتراثه بما هو فيه.
وورد خبر الوقعة وأسر ابن أبي الساج على عليّ بن عيسى، فراح إلى دار السلطان واجتمع مع نصر الحاجب ومونس المظفّر على إنهاء الخبر إلى المقتدر بالله وانتشر الخبر، فدخلت الخاصّة والعامّة لأبي طاهر هيبة عظيمة ورهبة شديدة، وعملت الجماعة على الهرب إلى واسط ثم إلى الأهواز، وابتدأ المنهزمون بالدخول إلى بغداد، وأخرج مونس المظفّر مضربه إلى ميدان الأشنان وخرج على أن يمضى إلى الكوفة.
وورد كتاب العامل بقصر ابن هبيرة على عليّ بن عيسى بأنّ أبا طاهر وأصحابه رحلوا عن الكوفة يوم الثلاثاء لاثنى عشرة خلت من شوّال قاصدين عين التمر، وورد كتابه بعد ذلك بنزولهم عين التمر، فبادر عليّ بن عيسى باستئجار خمسمائة سميريّة وجعل فيها ألف رجل ومعها عدّة من شذاءات وطيّارات وحوّلها من دجلة إلى الفرات وفيها جماعة من الغلمان الحجريّة لمنع الهجري من عبور الفرات، وتقدّم إلى جماعة من القوّاد بالمسير على الظهر من بغداد إلى الأنبار لضبطها.
فلمّا كان يوم الجمعة رأى أهل الأنبار ومن بها من القوّاد خيل أبي طاهر مقبلة من الجانب الغربي فبادروا إلى قطع جسر الأنبار وأقام أبو طاهر إلى أن أمكنه العبور بالسفن فعبر يوم الثلاثاء نحو مائة رجل ولا يعلم بهم أصحاب السلطان إلى ان حصلوا بالأنبار ونشبت الحرب بينهم وبين جماعة من القوّاد.
فلمّا خلا البلد من أصحاب السلطان عقد أبو طاهر جسر الأنبار وعبر وخلّف سواده في الجانب الغربي وفيه ابن أبي الساج، ولمّا علم من في الشذاءات من أصحاب السلطان أنّ أبا طاهر قد عقد الجسر ساروا إليه بالليل فضربوه بالنار فبقى أبو طاهر في جماعة من أصحابه في الجانب الشرقي من الفرات وسواده في الجانب الغربي منه وحالت الشذاءات والطيّارات بينهم.
ولمّا ورد الخبر بعبور أبي طاهر إلى الأنبار وقتله من بها من القوّاد خرج نصر الحاجب ومعه الحجريّة والرجّالة المصافيّة وجميع من كان بقي ببغداد من القوّاد وبين يديه علم الخلافة وهو شبيه باللواء أسود وعليه كتابة بياض:
« محمّد رسول الله. » وكان مونس قد صار بباب الأنبار واجتمع مع نصر وكان عدد من معهما من الفرسان والرجّالة وغيرهم يزيد على أربعين ألف رجل، وخرج أبو الهيجاء ومن إخوته أبو الوليد وأبو العلاء وأبو السرايا في أصحابه وأعرابه وسار نصر وسبق مونسا على قنطرة النهر المعروف بزبارا بناحية عقرقوب على نحو فرسخين من بغداد ولحق به مونس واجتمعا على النهر وأشار أبو الهيجاء على نصر الحاجب بقطع قنطرة نهر زبارا وألحّ عليه في ذلك. فلمّا رآه يتثاقل عن قبول رأيه قال له:
« أيّها الأستاذ اقطعها واقطع لحيتي معها. » فقطعها حينئذ.
وسار أبو طاهر ومن حصل معه من أصحابه من الجانب الشرقي من الفرات قاصدين نهر زبارا. فلمّا صار على فرسخ واحد من عسكر السلطان آخر يوم الاثنين لعشر خلون من ذي القعدة بات بموضعه ليلته وباكر المسير إلى قنطرة نهر زبارا.
وتقدّم من رجّالته راجل أسود يقال له: صبح، فكان أمام عسكره فما زال نشّاب أصحاب السلطان تأخذه وهو يتقدّم ولا يهوله وقد صار بالنشّاب كالقنفذ، فلمّا صعد القنطرة ورآها مقطوعة رجع، وما زال أصحاب أبي طاهر يمتحنون غور الماء في النهر، فلمّا علموا انّه ليس يخيض انصرفوا راجعين القهقرى من غير أن يولّوا ظهورهم وصاروا إلى الحسينية فوجدوا الماء قد أحاط به لأنّ نصرا ومونسا وجّها قبل ذلك بمن بثق هناك بثوقا كبارا فصار الماء المخر محيطا بعسكر أبي طاهر. فأقام هناك يوم الثلاثاء وسار هو وأصحابه إلى الأنبار ولم يجسر أحد من أصحاب السلطان أن يتبعه أو يصلح قنطرة زبارا أو يعبرها.
وكان ما أشار به أبو الهيجاء من قطع هذه القنطرة توفيقا من الله فانّها لو كانت صحيحة لعبر أصحاب القرمطي عليها وما هالهم وفور عسكر السلطان ولا نهزم أصحاب السلطان وملك القرمطي بغداد. وذاك انّ أكثر أصحاب السلطان كرّوا إلى بغداد منهزمين لمّا بلغهم وصول أبي طاهر إلى النهر من غير أن يروهم أو يقع عين عليهم لعظيم ما تداخل القلوب من الرعب بعد الحادث بابن أبي الساج. ولم يحدّث أحد نفسه بعد ذلك أن يجوز له أن يثبت في وجهه.
وكان مع أبي طاهر جماعة من الأولاد فعدلوا به عن المخر وسار نحو الأنبار ولمّا ولّى أبو طاهر وأصحابه عن موضع العسكر بزبارا ارتفع التكبير والتهليل من أصحاب السلطان ليذيع الخبر به وبادر أصحاب الأخبار إلى عليّ بن عيسى بالسلامة وبانصراف أبي طاهر ورجوعه إلى الأنبار وبأنّه لا طريق له ولا مخاضة ولا حيلة في الوصول إلى معسكر عسكره ولا إلى نواحي بغداد.
وطمع مونس في الظفر بسواده وباقى رجاله الذين خلّفهم في الجانب الغربي من الأنبار وفي تخليص ابن أبي الساج فأنفذ يلبق حاجبه وجماعة من القوّاد ومن غلمان ابن أبي الساج في ستّة آلاف رجل وظنّوا أنّه لا يتم لأبي طاهر العبور إلى خيله وسواده. وبلغ أبا طاهر ذلك فاحتال حتى انفرد عن رجاله ومشى مشيا طويلا حتى خرج عن الأنبار إلى الصحراء التي تتّصل بالفرات، ثم عبر في زورق صيّاد يقال: إنّه دفع إليه ألف دينار حتى عبر به إلى سواده. فلمّا حصل في سواده واجتمع مع أصحابه حارب يلبق ومن معه فلم يثبت له يلبق وانهزم ومن معه وقتل جماعة من أصحابه.
وبصر أبو طاهر في الوقت بابن أبي الساج وقد خرج من خيمته التي كان معتقلا فيها متطلّعا إلى الطريق لينظر ما يكون من حال الوقعة فوقع له انّه أراد أن يهرب فدعا به إلى حضرته وقال:
« أردت الهرب؟ »
ويقال: إنّ غلمانه كانوا نادوه فقال له القرمطي:
« طمعت أن يخلّصك غلمانك؟ » فأمر به فضربت عنقه بحضرته وضرب أعناق جماعة كانوا في الأسر.
واحتال بعد ذلك أبو طاهر حتى عبر جميع أصحابه الذين كانوا معه في الجانب الشرقي من الفرات بالأنبار فحصلوا معه في الجانب الغربي الذي يلي البرّيّة وعاد يلبق منهزما مفلولا إلى مونس المظفّر.
وحكى أبو القاسم ابن زنجي أنّه كان عدّة أصحاب أبي طاهر ألف وخمسمائة رجل منهم سبعمائة فارس وثمانمائة راجل وأنّه عرف ذلك من رجل أنباريّ كان يقيم له ولرجاله الخبر. وقد قيل: إنّهم كانوا ألفى وسبعمائة.
قال: وسمعت بعض مستأمنة أبي طاهر وقد سئل عن السبب في سرعة هزيمة أصحاب السلطان وثباتهم هم فقال:
« السبب في ذلك انّ أصحاب السلطان يقدّرون أنّ السلامة في الهرب فيقدّمونه ونحن نقدّر أنّ السلامة في الصبر فنثبت ولا نبرح. » ورتب عليّ بن عيسى بين بغداد ونهر زبارا المرتبين وسلم إليهم مائة طير إلى مائة رجل منهم يكتبون على أجنحتهم كتبا بخبر العدوّ في كلّ ساعة.
وكان السبب في سلامة بغداد وأهلها يوم قصد القرمطي زبارا مع كثرة العيارين والمتشبّهه بالجند وتشوّقهم إلى النهب أنّ عليّ بن عيسى تقدّم إلى نازوك بمواصلة الركوب والتطواف في جميع جيشه كلّ يوم غدوة وعشيّة في الجانبين ففعل ذلك. ثم تقدّم إليه في يوم موافاة أبي طاهر إلى نهر زبارا أن يبكّر إلى باب حرب بجميع جيشه ويقيم فيه إلى وقت العتمة وأن يواصل النداء في الجانبين بأنّه:
« من ظهر من العيّارين والمتشبّهه بالجند ومن وجد معه حديد ضرب عنقه. » فانجحر العيارون وأغلق أهل باب المحوّل ونهر طابق والقلائين وغيرهم دكاكينهم وتحرّز الناس فنقلوا أمتعتهم إلى منازلهم.
وأمّا وجوه الناس فأكثروا والزواريق وجعلوها في الشوارع في دجلة ونقلوا إليها أمتعتهم ومنهم من حدرها إلى واسط. ونقل قوم من المهجّرين أمتعتهم إلى حلوان لتحمل إلى خراسان مع الحاجّ ولم يكن عند أحد من الخواصّ والعوامّ شكّ في أنّ القرمطي يملك بغداد.
وأقام نازوك في ذلك اليوم كما رسم له عليّ بن عيسى، على ظهر دابّته من أوّل النهار إلى أن مضى صدر من الليل لا ينزل هو ولا أحد من أصحابه عن دوابّهم إلّا للصلاة وضربت له ولهم الخيم فنزلوها بالليل وكان ذلك سببا لسلامة البلد.
وقصد القرمطي إلى هيت وبادر هارون بن غريب وسعيد بن حمدان إلى هيت لدفعه عنها فسبقا القرمطي إلى هيت وصعدا إلى سورها وقويت بهما قلوب أهل هيت. فلمّا وصل القرمطي إليها قاتلوه بالمنجنيقات فقتل من القرامطة جماعة وانصرف أبو طاهر عنها.
وورد الخبر بذلك إلى بغداد فسكنت النفوس واطمأنّت القلوب وتصدّق المقتدر والسيّدة لمّا بلغهما خبر انصرافه بمائة ألف درهم.
وكان مونس ونصر أحضرا جرائد جميع الرجال الذين اجتمعوا على نهر زبارا ممّا يلي بغداد سوى الأعراب فوجدوهم اثنين وأربعين ألف رجل سوى غلمانهم وأسبابهم فانّهم كانوا أضعاف هذه العدّة.
وكان عليّ بن عيسى لمّا بلغه أسر ابن أبي الساج بادر في الوقت إلى المقتدر وقال له:
« إنّما جمع الخلفاء المتقدّمون الأموال ليقمعوا بها أعداء الدين والخوارج وليحفظوا بها الإسلام والمسلمين ولم يلحق المسلمين منذ قبض النبي شيء أعظم من هذا الأمر، لأنّ هذا الرجل كافر وقد أوقع بالحاجّ في سنة اثنتي وثلاثمائة ما لم يعهد مثله وقد تمكّنت له هيبة في قلوب الأولياء والخاصّ والعامّ.
« وانّما جمع المعتضد والمكتفي في بيت مال الخاصّة ما جمعوا لمثل هذه الحوادث والآن فلم يبق في بيت مال الخاصّة كبير شيء، فاتّق الله يا أمير المؤمنين. » « وتخاطب السيّدة فانّها ديّنة فاضلة فإن كان عندها مال قد ذخرته لشدّة تلحقها أو تلحق الدولة فهذا وقت إخراجه، وإن تكن الأخرى فاخرج أنت وأصحابك إلى أقاصى خراسان فقد صدّقتك ونصحتك. » فدخل إلى والدته ثم عاد فأخبر أنّ السيّدة استرأته وأمرت بإخراج خمسمائة ألف دينار من مالها إلى بيت مال العامّة لينفق في الرجال.
وسأل عليّ بن عيسى عن مقدار ما بقي في بيت مال الخاصّة من المال فعرّفه عليّ بن عيسى أنّ فيه خمسمائة ألف دينار.
وتجرّد عليّ بن عيسى لحفظ الأموال وتقدّم ألّا يضيّع منها درهم واحد في قضاء الذّمامات، وجمع أموال النواحي وأنفذ المستحثين إلى العمّال فاجتمعت له جملة أخرى.
وتنصّح إلى عليّ بن عيسى رجل من التجّار بأنّه وقف على خبر رجل شيرازي يتخبر للقرمطي ويكاتبه. فأنفذ معه جماعة فقبض عليه وحمل إلى دار السلطان وناظره عليّ بن عيسى بحضرة القاضي أبي عمر والقوّاد وقال:
« أنا صاحب أبي طاهر وما صحبته إلّا على انّه على حقّ وأنت وصاحبك ومن يتبعكم كفّار مبطلون ولا بدّ لله في أرضه من حجّة وإمام عدل وإمامنا المهديّ فلان بن فلان بن إسماعيل بن جعفر الصادق وليس نحن مثل الرافضة الحمقى الذين يدعون إلى غائب منتظر. » فقال له عليّ بن عيسى:
« اصدقنى عمّن يكاتب القرمطي من أهل بغداد والكوفة. » قال: « ولم أصدقك عن قوم مؤمنين حتى أسلّمهم إلى قوم كافرين فيقتلونهم؟ لا أفعل ذلك أبدا. » فأمر بصفعه بحضرته وضربه بالمقارع وقيّده وغلّه بغلّ ثقيل وجعل في فمه سلسلة وسلّمه إلى نازوك وحبسه في المطبق فمات بعد ثمانية أيّام لأنّه امتنع من أن يأكل ويشرب حتى مات وشغب الجند.
ودخلت سنة ستّ عشرة وثلاثمائة

ودخل مونس المظفّر بغداد من الأنبار ودخل بعد نصر وذلك يوم الخميس لثلاث خلون من المحرّم وكان الجند قد شغبوا بالأنبار لطلب الزيادة في أرزاقهم فأقاموا ببغداد على مطالبتهم، فزيد كلّ واحد منهم دينارا وأنفق فيهم على الزيادة.
وورد الخبر بدخول أبي طاهر القرمطي الدالية من طريق الفرات فلم يجد فيها شيئا وقتل من أهلها جماعة ثم سار إلى الرحبة فدخلها بعد أن حارب أهلها ووضع السيف فيهم بعد أن ملكهم وندب مونس المظفّر للخروج إليهم بالرقّة، وكان أهل قرقيسيا وجّهوا إلى القرمطي يطلبون الأمان منهم ووعدهم بجميل. ثم أنفذ إليهم من نادى بقرقيسيا ألّا يظهر بها أحد بالنهار فلم يجسر أحد بها أن يظهر فعبرت سريّة له إلى الأعراب على جسر عقده بالرحبة فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذ جمالهم وأغنامهم فرهبه الأعراب رهبة شديدة، وصاروا لا يسمعون بذكره إلّا تطايروا، وجعل عليهم أتاوة إلى هذه الأيام وهي من كلّ بيت دينار في السنة. ثم أصعد من الرحبة إلى الرقّة.
وسار مونس المظفّر إلى الموصل ومنها إلى الرقّة فانصرف أبو طاهر عن الرقّة على طريق الفرات ووصل إلى الرحبة فحمل ما معه من الزاد وغيره في زواريق وانحدر في الماء وعلى الظهر ليعاود هيتا. وكان أهلها قد نصبوا على سورها عرّادات ومنجنيقات، فحاربوه وقتلوا من أصحابه، فانصرف عنها إلى ناحية الكوفة، وورد الخبر بذلك فأخرج بنيّ بن نفيس وهارون بن غريب على مقدّمة نصر.
وجاءت خيل القرمطي ومعها ابن سنبر إلى قصر ابن هبيرة وعبروا الفرات بمخاضة فقتلوا جماعة من أهل القصر. فخرج نصر الحاجب ومعه القوّاد والرجّالة المصافيّة يريدون مواقعة أبي طاهر وحمّ نصر حمّى حادّة فلم يمنعه ذلك من المسير إلى سورا. ووافى أبو طاهر إلى شاطئ سورا وقت المغرب، فلم يكن في نصر نهوض للركوب لشدّة علّته، فاستخلف أحمد بن كيغلغ وأنفذ معه الجيش فانصرف القرمطي قبل أن يلقاه أحمد بن كيغلغ.
واشتدّت علّة نصر وجفّ لسانه من شدّة الحمّى فردّ إلى بغداد في عمارية ومات في الطريق. فخرج شفيع المقتدري برسالة المقتدر إلى الجيش الذي كان مع نصر بأنّه قد جعل الرئيس