وكان ابن قرابة يظهر للمقتدر ولمفلح الأسود أنّه يمشّى أمر الوزارة وأنّ الوزراء لا يتمّ أمرهم من دونه وكان يلزم دار الكلوذانى ويقرضه عن بنى البريدي وغيرهم بربح درهم في كلّ دينار فأقرضه مائتي ألف دينار مشّى بها أمر الكلوذانى وبمال المصادرات.
مرداويج يملك الجبل بأسره

وفيها ورد الخبر بوقعة كانت بين هارون بن غريب وبين مرداويج بنواحي همدان وأنّ هارون انهزم وملك مرداويج الجبل بأسره إلى حلوان ونزل هارون بدير العاقول.
قصد لشكري الديلمي إصبهان

وفيها قصد لشكري الديلمي إصبهان وحاربه أحمد بن كيغلغ فانهزم أحمد وملك لشكري إصبهان وهذا لشكري من أصحاب أسفار بن شيرويه، فلمّا قصد هارون بن غريب ابن الخال أسفار استأمن إليه لشكري، ثم لمّا انهزم ابن الخال انهزم لشكري بانهزامه إلى قنسرين، فلمّا تأهّب ابن الخال ثانيا وجهزت إليه العساكر من بغداد لحرب مرداويج أنفذ لشكري إلى نهاوند من الدينور مع جماعة من الغلمان لحمل مال إليه ورسم أن يحمل المال إلى همذان ويقيم بها حتى يلحقه هناك فلمّا صار لشكري إلى نهاوند رأى يسار أهلها وكثرة أموالها وطمع فيهم وصادرهم على نحو ثلاثة آلاف ألف درهم واستخرجها في مدّة أسبوع وأثبت جندا ثم خرج إلى الكرج ففعل مثل ذلك.
واتّصل الخبر بابن الخال فطلبه فرحل من بين يديه وسار حتى وقع إلى إصبهان والوالي عليها أبو العبّاس أحمد بن كيغلغ.
ذكر اتفاق حسن لأحمد بن كيغلغ بعد هزيمته ودخول أصحاب لشكري إصبهان

حكى أبو الحسن المافرّوخى أنّه كان بإصبهان في الوقت وأنّ أحمد بن كيغلغ انهزم أقبح هزيمة ثم لجأ إلى بعض القرى في ثلاثين نفسا معه وراء حصنها.
ودخل أصحاب لشكري إصبهان ونزلوا في الدور والخانات والحمّامات وتأخّر لشكري بنفسه عن العسكر ثم سار قليلا ونزل عن دابّته لإهراق ماء فرأى كوكبة أنكرها وقال: « ما هذه؟ »
فقيل: « شرذمة من الكيغلغية. » فركب في الوقت يريدها فلمّا قرب منها أسرع أحمد بن كيغلغ إليه بعد أن علم أنّه هو فتناوشا وكاد لشكري يستأسره فخرج أهل تلك القرية فزعقوا به فضعفت نفس لشكري وتقارب وهو أحمد فضربه أحمد بسيفه ضربة قدّ المغفر والخوذة ونزل السيف في رأسه فقتله وخرّ لشكري ساقطا فنزل أحمد إليه وحزّ رأسه وعرف أصحابه الخبر فطاروا هاربين وكان فتحا طريفا واتفاقا عجيبا. وكانت سنّ أحمد بن كيغلغ يومئذ تجاوز سبعين سنة.
وفيها صرف الكلوذانى عن الوزارة وقلّدها الحسين بن القاسم.
ذكر السبب في تقلد الحسين بن القاسم الوزارة وما تم له من الحيلة فيها

كان أبو القاسم ابن زنجي يحكى في توصّل الحسين بن القاسم إلى الوزارة خبرا طريفا ويقول: كان أبو عليّ الحسين بن القاسم يعرف بأبي الجمال وكان لي صديقا يسكن إليّ ويستدعينى إلى الموضع الذي كان مستترا فيه ويشاورني فالزمنى بذلك حقّا وحرمة فاجتهدت في السعى له والتوصّل بكلّ سبب وحيلة إلى أن تقلّد الوزارة.
فكان من أنجع ما عملته أنّ رجلا بمدينة السلام يعرف بالدانيالى كان يلزمني ويبيت عندي ويخرج إليّ بسرّه ويحدّثني أنّه يظهر كتبا ينسبها إلى دانيال بخطّ قديم ويودع تلك الكتب أسماء قوم من أرباب الدولة على حروف مقطّعة إذا جمعت فهمت واستوى له بذلك جاه وقامت له به سوق.
ووصلت إليه جملة من القاضي أبي عمر وابنه أبي حسين ووجوه الدولة وغلب على مفلح واختصّ به لأنّه عرّفه أنه وجد في الكتب أنّه من ولد جعفر بن أبي طالب فجاز ذلك عليه ووصل إليه منه برّ كثير.
فانفتح لي أن سألته إثبات فصل في كتب يكتبها بشرح ما أسأله فأجابنى إلى ذلك فوصفت له الحسين بن القاسم واقتصرت من وصفه على ذكر قامته وآثار الجدري في وجهه والعلامة التي في شفته العليا وخفة الشعر هناك وأنّه إن وزر للثاني عشر من خلفاء بنى العبّاس استقامت أموره كلّها وعلا على أعدائه وانفتحت البلاد على يده وعمرت الدنيا في أيّامه.
ودفعت النسخة إلى الدانيالى وواقفنى على عمل دفتر يذكر فيها أشياء ويجعل هذا الباب في تضاعيفها فسألته تقديم ذلك ولم أزال أطالبه حتى أعلمني أنّه لا يستوى على ما يريد حتى لا يشكّ في قدمه وعتقه في أقلّ من عشرين يوما وأنّه يحتاج أن يجعله في التبن أيّاما ثم يجعله في الخفّ ويمشى فيه أيّاما وأنّه يصفرّ ويعتق.
فلمّا بلغ المبلغ الذي قدّر صار إليّ وهو معه وأرانيه فوقفت على الفصل ورأيت دفترا لو لا ما عرفته من الأصل فيه لحلفت على أنّه قديم لا شكّ فيه.
ومضى بذلك إلى مفلح فقرأه عليه في جملة أشياء قرأها، فقال له مفلح:
« أعد عليّ هذا الفصل. » فأعاده. ومضى مفلح إلى المقتدر بالله فذكر له ذلك فطلب الدفتر منه فأحضره إيّاه فقال له:
« من تعرف بهذه الصفة؟ » وأقبل المقتدر يكرّرها فذكر مفلح أنّه لا يعرف أحدا بها وحرص المقتدر على أن يعرف إنسانا يوافق هذه الصفة صفته. فقال مفلح:
« لست أعرف بهذه الصفة إلّا الحسين بن القاسم الذي يقال له: أبو الجمال. » فقال له المقتدر:
« إن جاءك صاحب له برقعة فخذها منه وإن حمّلك رسالة فعرّفنيها واكتم ما يجرى في أمره ولا تعلم أحدا به. » وخرج مفلح إلى الدانيالى فقال له:
« هل تعرف أحدا بهذه الصفة؟ » فأنكر أن يعرف ذلك وقال:
« إنّما قرأت ما وجدته في كتب دانيال ولا علم لي بغير ذلك. » وانصرف إليّ فحدّثني بهذا الحديث فقمت من فورى إلى الحسين بن القاسم فأعدته عليه فسرّ به غاية السرور وابتهج نهاية الإبتهاج وظهر في وجهه استبشار عظيم وقال لي:
« اعلم أنّ أبا بشر الكاتب كان أمس عند مفلح برسالة لي إليه فانصرف كاسف البال ظاهر الانخزال مغموما بما شاهده من إعراضه عنه. » فغمّنى ذلك. فقلت:
« الآن يتبيّن لنا صدق الدانيالى من كذبه. ابعث بأبي بشر في غد إلى مفلح برسالة منك فإنّه سيتبيّن له فيما يعامله به صحّة ما حكاه من بطلانه. » فدعا أبا بشر النصراني كاتبه وحمّله إليه رسالة ووكّد عليه في البكور إليه. فلمّا كان من غد آخر النهار مضيت إليه أتعرّف خبره وما جرى، فدعا أبا بشر وقال له:
« أعد عليه خبرك. »
فأعلمني أنّه دخل إليه وفي مجلسه جماعة فرفعه عليهم فأجلسه إلى جانبه وأقبل عليه يحدّثه ثم استدناه وسأله سرّا عن خبر الحسين بن القاسم واستمع رسالته وقال:
« تقرأ عليه سلامي وتعرّفه تكفّلى بأمره وقيامي به. » وكلاما في هذا المعنى، وأن ينفذ إليه رقعة ليوصلها وينوب معه.
قال لي أبو بشر: وانصرفت وأنا في نهاية قوّة النفس والثقة بالله عز وجل وبتمام ما يسفر فيه. فأعلمت الحسين أنّ الرجل قد صدق فيما ذكره وقد بان لنا أثره.
قال: ثم إنّ الدانيالى طالبني بالمكافأة فطيّبت نفسه واستمهلته إلى أن تقلّد الحسين الوزارة فأذكرته حقّ الرجل فقلّده الحسبة ببغداد وأجرى له مائة دينار في كلّ شهر واختصّ به وكان يحضر مجلسه فيجلسه إلى جانب مسورته. ثم مضت أيّام فقال:
« لا يقنعني ما أجرى لي. » وسأله زيادة. فكلّمت الحسين بن القاسم في أمره فأجرى له مائة دينار أخرى تسبّب برسم الفقهاء.
وكان ما ذكرته من حديث الدانيالى من أوكد الأسباب في تقليد الحسين الوزارة مع كثرة الكارهين له والمعارضين في أمره.
وانضاف إلى هذا الخبر الذي أخبر به أبو القاسم ابن الزنجي أنّ الكلوذانى عمل عملا لما يحتاج إليه من مهمّ النفقات وأخذ خطّ صاحبي ديوان الجيش والنفقات بأعمال أخر مفردة عملوها لما يحتاج إليه بزيادة مائتي ألف دينار على ما عمل هو حتى تبيّن للمقتدر بالله وقوع الاحتياط منه فيما عمل واقتصر عليه فكان العجز سبعمائة ألف دينار وعرض ذلك على المقتدر وقال له:
« ليس لي معوّل إلّا على ما يطلقه أمير المؤمنين لأنفقه. » فعظم ذلك على المقتدر. فلمّا بلغ الحسين بن القاسم خبر العمل الذي عمله الكلوذانى كتب رقعة إلى المقتدر يضمن فيها القيام بجميع النفقات من غير أن يطلب منه شيئا وانّه يستخرج سوى ذلك ألف ألف دينار يكون في بيت مال الخاصّة.
فأنفذ المقتدر رقعته إلى الكلوذانى وقال:
« هذه رقعة فلان ولست أسومك الاستظهار بالمال وما أريد منك إلّا القيام بالنفقات فقط. » فقال الكلوذانى:
« قد يجوز أن يتمّ لهذا الرجل ما لم يتمّ لي. » وسأله تقليد من ضمن هذا الضمان فأعفاه من الأمر. فلمّا وقف المقتدر على تبلّح الكلوذانى وحصل في نفسه ما بذله الحسين بن القاسم عمل على أن يستوزره وعلم شدّة كراهية مونس المظفّر لذلك فراسله على يد مفلح بأن يجتهد في إصلاح أعدائه فابتدأ الحسين بنى رائق فكان يمضى بنفسه إلى كاتبهم إبراهيم النصراني ويضمن لهم الضمانات حتى صلحوا له ثم فعل ذلك بأبي نصر الوليد بن جابر كاتب شفيع ثم فعل مثله باصطفن بن يعقوب كاتب مونس وقال له:
« إن تقلّدت الوزارة فأنت قلّدتنيها. » فأشار عليه بملازمة أبي عليّ يحيى بن عبد الله الطبري كاتب يلبق ففعل ذلك. وكان يلبق قد سمع أنّه متّهم في دينه شرير فجمع أبو عليّ الطبري بينه وبين يلبق حتى حلف له الحسين بكلّ يمين يحلف مسلم ومعاهد إنّه مكذوب عليه في كلّ ما يطعن به عليه في ديانته أوّلا ثم في عداوته لمونس وخاصّته وأصحابه لا ينوي لأحد من الناس سوء ولا يأخذ الأموال إلّا من بقايا صحيحة على تجار ملاء كسروا مال السلطان من أثمان الغلّات ومن ضمناء قد ربحوا ربحا عظيما.
وضمن الحسين ليلبق ضياعا جليلة كذلك لكاتبه فسعى له يلبق وسأل مونسا في أمره وسأل مونس المقتدر فتقرّرت الوزارة له وبلغ ذلك الكلوذانى فواصل الاستعفاء.
واتّفق أن دخل خمسمائة فارس كانوا مقيمين بالجبل في ماه الكوفة وحلوان وهذه نواح لم يتغلّب عليها مرداويج وكانت أرزاقهم قد تأخّرت فطالبوا الكلوذانى وأمرهم الكلوذانى بالرجوع لينفق فيهم هناك فلم يسمعوا ورجموه بالآجر وهو منصرف في طيّاره فجعل ذلك حجّة وأغلق بابه وحلف على أنّه لا ينظر في أعمال الوزارة.
فكانت مدّة وزارته شهرين وثلاثة أيّام.
وزارة الحسين بن القاسم

وكتب المقتدر إلى الحسين بن القاسم توقيعا بتقليد الوزارة وركب إليه وجوه الكتّاب والعمّال والقوّاد وبلغ ذلك أبا الفتح الفضل بن جعفر فصار إليه مع قاضى القضاة أبي عمر محمّد بن يوسف وابنه والقاضي ابن أبي الشوارب وكتب عن المقتدر بخبر تقليده الوزارة إلى خراسان وجميع النواحي والأطراف وكان تقلّده للوزارة يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر رمضان فعدل عن الجلوس للتهنئة وتشاغل بالنظر في أمر المال وما يحتاج إليه في نفقة العيد ولزمه الفضل بن جعفر وهشام بن عبد الله لأنّهما كانا يتولّيان ديوان المشرق وزمامه وديوان بيت المال وأخذ خطوط عدة من العمّال والضمناء بسبعين ألف دينار.
وصار إليه عليّ بن عيسى آخر النهار فهنّأه وقد كان الحسين شرط لنفسه ألّا ينظر عليّ بن عيسى في شيء من الأمور ولا يجلس للمظالم فأجيب إلى ذلك. وتبسط كاتب بنى رائق وكلّ من كان سعى له في الوزارة في طلب الأموال حتى قبضوا على شذاءة وردت من الأهواز فيها مال الأهواز وإصبهان وفارس. فكتب الحسين الوزير إلى المقتدر يشكو هذه الحال فلم ينكر كلّ الإنكار. فوقع الاتفاق بين الحسين وبين ابني رائق على أن يأخذوا من المال النصف ويفرجوا عن الباقي ففعلوا ذلك.
وكانت دمنة جارية المقتدر حظيّة عنده وكانت توصل رقاع الحسين إلى مولاها وتقوم بأمره فحمل إليها جملة عظيمة من المال وبعث إلى ابنها وهو الأمير أبو أحمد إسحاق أيضا جملة. واستأذن المقتدر أن يستكتب له ابنه القاسم بن الحسين فأذن له في ذلك وضمن لدمنة أن تحمل إلى ابنها في كلّ يوم مائة دينار وتدفع عن صرفه.
واختصّ به بنو البريدي وأبو بكر ابن قرابة وقدّم له جملة من المال عن الضمناء بربح درهم في كلّ دينار على رسمه. واختصّ به من القوّاد جعفر بن ورقاء وأبو عبد الله محمّد بن خلف النيرمانى وقلّده أعمال الحرب والخراج والضياع بحلوان ومرج القلعة وماه الكوفة وألبسه القباء والسيف والمنطقة وتسمّى بالأمارة وخوطب بها وضمن أن يجمع الرجال ويفتح أعمال كور المشرق وينتزعها من يد مرداويج.
وكان قد احتجن أموال السلطان من بقايا ضمان كانت عليه في أيّام سليمان بن الحسن لأعمال الضياع والخراج الخاصّة والعامّة وكانت جملة عظيمة. وكان تقلّد كرمان في بعض الأوقات واستخرج من مالها شيئا كثيرا فحملها وانصرف فكتب صارفه أنّه ما أنفق منها درهما واحدا وأنفقت له أشياء تجرى هذا المجرى.
وتجرّد الحسين بن القاسم لإخراج عليّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن إلى مصر والشام فراسل المقتدر عليّ بن عيسى في ذلك ودفع عنه مونس المظفّر وقال:
« هذا شيخ يرجع إلى رأيه ويعتضد بمكانه. » إلى أن تقرّر أمره على أن يخرج إلى الصافية فخرج.
وابتدأ مونس في الاستيحاش والتنكر في يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجّة.
ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك ما بلغه من اجتماع الوزير الحسين بن القاسم مع جماعة من القوّاد على التدبير عليه.
وبلغ الحسين تنكّر مونس له وأنّه عزم على كبسه بجماعة من خواصّه في الليل للقبض عليه فتنقّل في مدّة عشرة أيّام في نحو عشرة مواضع وكان لا يعرف له دار ولا موضع يلقاه فيه أحد وكان لا تلقاه أصحاب الدواوين إلّا إذا طلبهم ثم ختم الأمر بأن أقام في دار الخليفة.
وراسل مونس المظفّر المقتدر بالله في صرف الحسين بن القاسم عن الوزارة فأجابه إلى صرفه والتقدّم إليه بلزوم منزله فلم يقنع مونس بذلك وطالب بالقبض عليه ونفيه إلى عمان فامتنع المقتدر من ذلك وتردّدت بينهما فيه رسائل