وورد الخبر بذلك إلى الراضي فأنكره وتقدّم إلى الوزير أبي عليّ بالتأهّب للخروج إلى الموصل والإيقاع بالحسن بن عبد الله بن حمدان والنائب عنه بالحضرة. فذكر أنّ عليّ بن عيسى كتب إلى الحسن بن عبد الله بن حمدان بخطّه عن أمير المؤمنين الراضي بالله بالانفراج عن ضمانه وألّا يحمل شيئا إلى الحضرة من ماله وأن يمنع من حمل الميرة إلى بغداد فأخذ أبو عليّ ابن مقلة خطّة بذلك وأحضر جماعة من الشهود حتى شهدوا عليه.
وسلّم الوزير الكتاب إلى ابن سنجلا ليعرضه على الراضي بالله. فلمّا كان من غد وهو يوم الأربعاء انحدر الوزير أبو عليّ إلى دار السلطان وانصرف إلى منزله. فوجّه الراضي براغب وبشرى خادميه إلى عليّ بن عيسى فحملاه إلى الوزير أبي عليّ فلم يوصله إليه واعتقله في حجرة من داره وراسله عليّ بن أحمد بن عليّ النوبختي وعرّفه ما أشهد به سهل بن هاشم على نفسه وأنّ الخليفة أنكر فعله. وما زالت المراسلات تتردد بينهما إلى أن ألزمه أبو عليّ مصادرة خمسين ألف دينار على أن يجعل في باب أبي جعفر بن شيرزاد صاحب ديوان النفقات للأتراك عشرة آلاف دينار وتؤخذ منه عقار وضياع بعشرة آلاف دينار فالتزم أبو الحسن ذلك.
فيقال: إنّ طليبا الهاشمي كان قال لعليّ بن عيسى عن الراضي بالله أن يكاتب الحسن بن عبد الله عنه ويتوسّط بينهما على أن يحمل إليه سرّا سبعين ألف دينار في نجوم، وشرط عليه الحسين أن يحميه ويمنع منه ومن تشعيث أمره ويقرّه على ضمانه ولا يقبل زيادة عليه فحمل بعض تلك النجوم وأخّر باقيها وأنكر الخليفة كلّ ما جرى في هذا الباب وذكر أنّه لم يصل إليه شيء.
وأخرج مضرب الوزير أبي عليّ وخرج على مقدمته نقيط الصغير وابن بدر الشرابي وجماعة من الحجريّة وغيرهم وخلّف ابنه الوزير أبا الحسين بالحضرة في خدمة السلطان وتدبير الأمور. وقبل شخوصه أطلق أبا الحسن عليّ بن عيسى وأخرجه إلى ضيعته بالصافية وأحلفه على أنّه لا يسعى في مكروهه ولا يتكلّم فيه بما يقدح في حاله ولا فيما يفسد أمره ولا يسعى في الوزارة لنفسه ولا لغيره من سائر الناس. فحلف وخرج من وقته إلى الصافية.
ولمّا قرب الوزير أبو عليّ من الموصل رحل عنها أبو محمّد وتبعه الوزير إلى أن صعد جبل التنين ودخل بلد الزوزان فعاد حينئذ أبو عليّ إلى الموصل وأقام بها يستخرج مال البلد ويستسلف من التجّار المجهزين للدقيق مالا على أن يطلق لهم به غلّات البلد فاجتمع له من ذلك أربعمائة ألف دينار.
ولمّا طال مقام الوزير بالموصل احتال سهل بن هاشم كاتب أبي محمّد بن حمدان فبذل للوزير أبي الحسين ابن الوزير أبي عليّ عشرة آلاف دينار حتى كتب إلى أبيه بأنّ الأمور بالحضرة قد اضطربت عليه وأنّه متى تأخّر وروده الحضرة لم يأمن حدوث حادثة يبطل بها أمرهم.
فانزعج الوزير من ذلك وقلّد عليّ بن خلف بن طناب أعمال الخراج والضياع بالموصل وديار ربيعة وقلّد أعمال المعاون بها ماكرد الديلمي من الساجيّة وتقدّم بتوفية التجّار ما استسلفه منهم من المال، وانحدر إلى الحضرة وخرج لتلقّيه الأمير أبو الفضل وأصحاب الدواوين والقوّاد ولقي الخليفة وانصرف إلى منزله وخلع عليه من الغد وعلى ابنه خلع منادمة وحمل إليهما ألطاف وشراب وطيب وبلّور.
وكان الوزير أبو عليّ كتب إلى الوزير ابنه قبل أن ينحدر من الموصل بإزالة التوكيل عن أبي الحسن عليّ بن عيسى وأن يكتب إليه أجمل خطاب ويخيّره بين الانصراف إلى مدينة السلام وبين المقام بالصافية، فكتب إليه الوزير أبو الحسين بذلك.
وكان السبب فيما كتب به الوزير أبو عليّ من ذلك أنّه كان كتب إلى أبي محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان كتابا يدعوه فيه إلى الطاعة ويبذل له الأمان فقبل الكتاب وقال للرسول:
« ليس بيني وبين هذا الرجل عمل - يعنى ابن مقلة - ولا أقبل ضمانه لأنّه لا عهد له ولا وفاء ولا ذمّة ولا أسمع منه شيئا. اللهم إلّا أن يتوسّط أبو الحسن عليّ بن عيسى بيني وبينه ويضمن لي عنه فاسكن إلى ذلك وأقبله. » وكان أبو عبد الله أحمد بن علي الكوفي مقيما بالحضرة في وقت خروج أبي على ابن مقلة إلى الموصل ويلزم مجلس الوزير أبي الحسين يظهر له النصيحة والموالاة ويجتهد في التخلّص منه والبعد عنه إلى أن ورد كتاب أبي عبد الله البريدي يوئس فيه من حمل مال إلى الحضرة في ذلك الوقت. فغلظ على الوزير أبي الحسين ذلك لأنّه كان أعدّ ما يحمله لوجوه فأقرأ أبا عبد الله الكوفي كتاب البريدي فاستعظم ما فيه وأشار بأن يخرج هو إلى الأهواز ليواقف البريدي على أمر الرجال الذين أحال بصرف المال إليهم ويعرضهم ويطلق ما يجب لهم ثم يحمل إلى الحضرة مالا عظيما ويحمل ساعة وصوله مائة ألف دينار.
فكتب الوزير أبو الحسين إلى أبي عبد الله البريدي بأنّه لا يقبل في تأخّر المال عنه عذره وقد أحوجه إلى إنفاذ أبي عبد الله أحمد بن عليّ الكوفي لمواقفته على أمر المال ومطالبته بحمله ونفذ الكتاب وتبعه أحمد بن عليّ إلى الأهواز. فلمّا حصل عند أبي عبد الله البريدي لم يمكنه مخالفته على ما يريد وكتب أنّه لم يتمكّن من عرض الرجال ولا المواقفة على أمر المال، وأقام عنده إلى أن انظر أبو بكر ابن رائق في الأمور بالحضرة.
واستوحش أبو عبد الله الكوفي من البريدي وخافه وأراد البعد منه وخاف بوادره فأطمعه في إفساد أمر الحسين بن عليّ النوبختي مع ابن رائق.
وكان الحسين بن عليّ من أعدى الناس للبريديين فقبل منه وأطلقه وواقفه على ما يعمل به ويبذله من المال لإزالة أمر الحسين بن عليّ النوبختي. وكان أبو عبد الله الكوفي عند مقامه عند أبي عبد الله البريدي يصغّر في نفسه أمر الحضرة ويصف له إدبارها بسوء تدبير ابن مقلة وإبطاله مال واسط والبصرة بابن رائق وبإيقاعه ببني ياقوت وما دبّر في أمر الحسن ابن عبد الله بن حمدان وباجتثاثه أصل الخلافة دفعة واحدة وقال في ذلك وأكثر وقال في عرض ذلك: