وفيها دخل ابن رائق بغداد وانهزم كورنكيج واستتر.
ذكر الخبر عن هزيمة كورنكيج واستتاره باتفاق وحرب

لمّا قرب ابن رائق من بغداد خرج كورنكيج منها وانتهى إلى عكبرا وقلّد لؤلؤ الشرطة ببغداد وخلع عليه وانتهى ابن رائق إلى كورنكيج وابتدأت الحرب واتّصلت أياما متتابعة كانت على ابن رائق.
فلمّا كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة دخل ابن مقاتل بغداد ومعه قطعة من جيش ابن رائق. وفي ليلة الخميس لتسع بقين منه دخل ابن رائق بجميع جيشه من الجانب الغربي ونزل في النجمى وعبر في غداة غد هذا اليوم إلى دار السلطان ولقي المتقي لله وسلّم عليه واستركبه فركب معه في دجلة إلى زقّة الشمّاسية وانحدرا من وقتهما إلى دار السلطان فصعد المتقي لله إليها وعبر ابن رائق إلى النجمى.
ولمّا كان بعد الظهر من هذا اليوم وافى كورنكيج في جيشه من عكبرا على الظهر بغداد هو وأصحابه وهم في نهاية التهاون بابن رائق ومن معه وكانوا ينهرون ويقولون: « أين نزلت هذه القافلة الواردة من الشام. » ولمّا وصل كورنكيج إلى دار السلطان دفع عنها وكان فيها لؤلؤ وبدر الخرشنى فانصرف كورنكيج ونزل في الجزيرة التي بين يدي إصطبل مربط الجمال وخزانة الفرش ويعرف اليوم بدار الفيل.
فتحدّث أبو بكر ابن رائق بعد ذلك أنّه كان عمل على الانصراف والرجوع إلى الشام لمّا دخل كورنكيج بغداد وأنّه حمّل ثقله وابتدأ بالمسير.
قال: ثم قلت في نفسي أنصرف وأسلّم هذا الأمر. فلم تطب نفسي وقلت لفاتك حاجبي: استوقف الناس. فاستوقفهم فلم يقفوا حتى بادر إلى بغل من بغال النقل فعرقبه. فوقف حينئذ الناس وعبرت نحو من مائة رجل من أصحابي مع محمّد بن جعفر النقيب على الظهر إلى الجانب الشرقي وعبرت أنا في سميريّة ومعي سباشى الخادم التركي ونحو من عشرين سميريّة فيها غلمان، واتفق مجيئي مجيء أصحابي على الظهر في وقت واحد. فلمّا رشقنا الديلم بالنشاب سمعوا من ورائهم الزعقات من أصحابي ومن العامّة، فاضطربوا ونخبت قلوبهم وقدّروا أنّ الجيش قد وافاهم من خلفهم وأنّهم قد ملكوا ظهورهم فانهزموا وأخذهم الرحمة من العامّة وطرحت السُّتر عليهم وهرب كورنكيج واستتر. وقيل: ما عرف أصحابه أيّ طريق أخذوا وثبت أمرنا.
ذكر الخبر عن قتل الديلم وإمارة ابن رائق

لمّا استتر كورنكيج وتقطّع جيشه وبطل أمره ظهر أبو عبد الله أحمد بن عليّ الكوفي لابن رائق وعاد إلى خدمته. وأمر ابن رائق بقية الديلم المستأمنة بطرح أسلحتهم وأنفذ خاتمه إلى جماعة منهم كانوا تحصّنوا في حصن بالقرب من جسر النهروان فرجعوا ودخلوا الدار المعروفة بدار الفيل فكانوا نحو أربعمائة رجل لم يجسروا أن يتفرّقوا.
فلمّا كان يوم الاثنين لخمس بقين من ذي الحجّة وجّه ابن رائق برجّالته السودان إلى دار الفيل ووضعوا السيف فيمن اجتمع هناك من الديلم فقطعوهم فلم يسلم منهم إلّا رجل يقال له: خذاكرد، وقع بين القتلى وحمل في جملة المقتولين في الجوالقات إلى دجلة ورمى به مع غمرة فعاش مدّة طويلة بعد ذلك.
وكان ابن رائق استأسر من قوّاد الديلم بضعة عشر قائدا. فوجّه بهم إلى دار فاتك حاجبه وأمره بضرب أعناقهم فضربت أعناقهم صبرا في داره.
وكان من المنهزمين من الديلم قوم مضوا في الهزيمة إلى طريق خراسان.
فلمّا تجاوزوا جسر النهروان باتوا في بعض الخانات، فسقط عليهم الخان بالليل فمات أكثرهم.
ولمّا كان يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجّة خلع المتقي لله على ابن رائق وطوّقه وسوّره بطوق وسوار مرصّعين بالجوهر وعقد له لواء وقلّده إمرة الأمراء وألزم أبو جعفر الكرخي بيته وكانت وزارته هذه ثلاثة وخمسين يوما.
ودبّر الأمور أبو عبد الله أحمد بن عليّ الكوفي كاتب الأمير أبي بكر ابن رائق من غير تسمية بوزارة وأطلق أبو إسحاق القراريطي إلى منزله، ووجد كورنكيج فأخذ وحمل إلى دار السلطان.
ودخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة

واستوحش ابن رائق من بنى البريدي لأنّهم ما حملوا شيئا من مال واسط والبصرة. فلمّا كان يوم الثلاثاء لعشر خلون من المحرّم انحدر ابن رائق وهرب البريديون إلى البصرة وسفر بينهم الكوفي إلى أن ضمن البريدي البقايا بواسط بمائة وسبعين ألف دينار ثم بستمائة ألف دينار في كلّ سنة مستأنفة وأصعد ابن رائق إلى بغداد.
وفيها دخل العبّاس بن شقيق ومعه رأس ما كان بن كاكى الديلمي مع هدايا صاحب خراسان إلى المتقي لله من غلمان أتراك وطيب وشهابى، وشهر رأس ما كان في شذاءة وكان على الرأس خوذة وفيه سهم قد نفذ في الخوذة والرأس ومرّ من الجانب الآخر من الخوذة.
وفيها شغّب الأتراك على ابن رائق وخرجوا إلى المصلّى ومعهم توزون ونوشتكين وأخذوا في طريق التجنّى عليه ورحلوا سحر يوم الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الآخر إلى البريدي بواسط. فلمّا وصلوا إليه قوى بهم جانبه واحتاج ابن رائق إلى مداراته.
ذكر وزارة أبي عبد الله البريدي

فكاتب أبا عبد الله البريدي بالوزارة للنصف من شهر ربيع الآخر وأنفذ إليه الخلع مع الطيب ابن سوسن، واستخلف له أبا جعفر ابن شيرزاد بالحضرة وأوصله إلى المتقي لله إلّا أنّ المدبّر للأمور كلّها أبو عبد الله الكوفي.
ووردت الأخبار بعزم البريدي على الإصعاد إلى بغداد. فأزال ابن رائق عنه اسم الوزارة وعزله بأبي إسحاق القراريطي ولزم أبو جعفر ابن شيرزاد منزله واستتر.
وركب المتقى على الظهر ومعه ابنه أبو منصور وابن رائق والوزير أبو إسحاق القراريطي والجيش. وساروا على الظهر وبين أيديهم المصاحف المنشورة والقرّاء واستنفر العامّة لقتال البريديين. ثم انحدروا إلى داره في دجلة من باب الشماسية واجتمع خلق من العيّارين بالسكاكين المجرّدة في جميع محالّ الشرقي من بغداد. وفي يوم الجمعة لعّن بنو البريدي على المنابر في المساجد الجامعة ببغداد.
ذكر أبي الحسين البريدي في إصعاده إلى بغداد

خرج أبو الحسين من واسط مصعدا في الجيش إلى بغداد ومعه غلمان أخيه أبي عبد الله والأتراك والديلم. فلمّا قرب من بغداد استأمن كلّ من كان معه من القرامطة إلى ابن رائق واستعدّ ابن رائق للقتال وعمل على أن يتحصّن في دار السلطان فسدّ أكثر أبواب دار السلطان والثلم في سورها ونصب العرّادات والمنجنيقات على السور وعلى شاطئ دجلة في فناء الدار وطرح حول الدار الحسك والحديد واستنهض العامّة وفرض بعضهم. فصار ذلك سببا لتوزّع العصبيات بينهم واتصال الحروب وافتتن الجانب الغربي وأحرق نهر طابق ممّا يلي دار البطيح واتصلت الكبسات بالليل والنهار على قوم ذوي أموال واستقفى الناس نهارا وليلا وقتل بعضهم بعضا قتلا ظاهرا وفتح الحبس ودامت الفتنة.
وبرزت خيم السلطان إلى نهر ديالى وخرج ابن رائق إلى الحلبة والقوّاد معه. فلمّا كان يوم الاثنين للنصف من جمادى الآخرة عبر أصحاب أبي الحسين البريدي نهر ديالى وكان لؤلؤ مقيما على شاطئ النجمى وبدر الخرشنى بالمصلّى وما زالت الحرب بين البريدي وابن رائق إلى وقت الظهر وما زالت الحرب في الماء منذ ذلك اليوم إلى يوم السبت لتسع بقين من جمادى الآخرة، فاشتدّت الحرب على الظهر وفي الماء، وأوقع الديلم بالعامّة الذين فرصوا ودخل الديلم من أصحاب البريدي دار السلطان من جهة الماء وملكوا الدار فخرج المتقى وابنه منها هاربين في نحو عشرين فارسا فخرجا إلى باب الشمّاسية ولحق بهما ابن رائق وجيشه ولؤلؤ ومضوا إلى الموصل.
واستتر القراريطي الوزير فكانت مدّة وزارته أحدا وأربعين يوما.
وقتل الديلم من وجدوا في دار السلطان ونهبوها نهبا قبيحا ودخل الديلم دور الحرم. وأقام البريدي أبو الحسين في حديدية أيّاما على باب الخاصّة ووجد في دار السلطان ابن سنجلا وعليّ بن يعقوب فأطلقا. وأمّا كورنكيج فقيّده وحدره إلى أخيه أبي عبد الله فكان آخر العهد به. ووجد القاهر في محبسه فأقرّ فيه من دار السلطان.
فلمّا كان بعد أيّام صعد أبو الحسين البريدي ونزل في دار مونس وهي التي كان ينزلها ابن رائق وقلّد أبا الوفاء توزون الشرطة في الجانب الشرقي ونوشتكين الشرطة في الجانب الغربي وأخذ الديلم في النهب والسلب وكبست الدور وأخرج أهلها ونزلت ولم يزل الناس على ذلك إلى أن تقلّد توزون ونوشتكين الشرطة، فإنّ الفتنة سكنت قليلا. وأخذ أبو الحسين البريدي حرم توزون وابنيه وعيالات أكثر القوّاد والأتراك وأنفذهم إلى أخيه ليكونوا رهائن في يده.
وغلت الأسعار ببغداد وظلم البريدي الظلم المعروف لهم وافتتح الخراج في اذار فخبط التنّاء حتى تهاربوا وافتتح الجوالى وخبط أهل الذمة وأخذ الأقوياء بالضعفاء ووظف على كرّ من الحنطة سبعين درهما وعلى سائر المكيلات وعلى الزيت وقبض على نحو خمسمائة كرّ كان للتجار ورد من الكوفة وادعى أنّه للحسن بن هارون المتقلّد كان للناحية وهرب خجخج إلى المتقي لله وكان أخرج إلى برزج سابور والراذانين.
وكان توزون ونوشتكين والأتراك تحالفوا على كبس أبي الحسين البريدي فغدر نوشتكين بتوزون ونمى الخبر إلى أبي الحسين البريدي فتحرّز وأحضر الديلم داره واستظهر بهم. وقصد توزون دار أبي الحسين فحاربه من كان فيها من الديلم وغلّقت الأبواب دونه وانكشف لتوزون غدر نوشتكين فلعنه وانصرف ضحوة يوم الثلاثاء ومضى مع قطعة وافرة من الأتراك إلى الموصل واضطرب العامّة وقاتلوا البريدي.
ولمّا صار توزون وخجخج والأتراك إلى الموصل وقوى بهم ابن حمدان عمل على أن ينحدر مع المتقي لله إلى بغداد وبلغ ذلك أبا الحسين البريدي وكتب إلى أخيه يستمدّه فأمدّه بجماعة من القوّاد والديلم وأخرج أبو الحسين مضربه إلى باب الشمّاسية وأظهر أنّه يحارب ابن حمدان إن وافى. وذلك كلّه بعد أن قتل محمّد بن حمدان ابن رائق وسنشرح خبره على إثر هذا الحديث.
فلمّا قرب المتقى وأبو محمّد بن حمدان من بغداد انحدر أبو الحسين هاربا وجميع جيشه وأخذ معه من كان معتقلا في يده يطالبه مثل ابن قرابة وأبي عبد الله بن عبد الوهّاب وعليّ بن عثمان بن النفّاط ومن أشبههم.
فاضطرب العامّة ببغداد زيادة اضطراب ونهبت الدور وتسلّح الناس في الطرقات ليلا ونهارا وكانت مدّة أبي الحسين البريدي ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوما.
ولمّا وصل المتقي لله وابناه ومحمّد بن رائق ومن معهم إلى تكريت وجدوا هناك وهم مصعدون إلى الموصل بعد، أبا الحسن عليّ بن عبد الله بن حمدان. وذاك أن ابن رائق لمّا قرب البريدي من بغداد كتب إلى أبي محمّد ابن حمدان يسأله مددا ومعاونة على قتاله. فأنفذ أبو محمّد أخاه فلم يلحقهم إلّا بتكريت وقد انهزموا وأخذوا طريق الموصل.
فلمّا التقوا أقام عليّ بن حمدان للمتقي لله وابنه وابن رائق والقوّاد كلّ ما يحتاجون إليه من الميرة والثياب والفرش والدراهم وما قصر في أمرهم وساروا بأجمعهم إلى الموصل. فلمّا وصلوا إليها حاد عنها أبو محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان وعبر إلى الجانب الشرقي ومضى إلى نواحي معلثايا.
فما زالت الرسل تتردّد بينه وبين محمّد بن رائق إلى أن توثّق بعضهم من بعض بالأيمان والعهود والمواثيق حتى أنس أبو محمّد وعاد فنزل في الشرقي بإزاء الموصل.
ذكر الخبر عن مقتل ابن رائق

فعبر إليه الأمير أبو منصور ابن المتقي لله ومعه أبو بكر ابن رائق يوم الاثنين لتسع بقين من رجب ليسلّموا عليه. فلقيهم أجمل لقاء ونثر على الأمير أبي منصور الدنانير والدراهم. فلمّا أراد الانصراف من عنده ركب الأمير أبو منصور ثم قدّم فرس ابن رائق ليركب من داخل المضرب فأمسك أبو محمّد بن حمدان كمّه وقال له:
« تقيم اليوم عندي لنتحدّث، فإنّ بيننا ما نتجاراه. » فقال له ابن رائق:
« اليوم لا يجوز لأنّى أن أرجع مع الأمير ولكن يكون يوما آخر. » فألحّ عليه ابن حمدان إلحاحا استراب به ابن رائق فجذب كمّه من يده حتى تخرّق، وكان رجله في الركاب فشبّ به الفرس فوقع وقام ليركب فصاح أبو محمّد بغلمانه وأمرهم بالإيقاع به وقال: « ويلكم لا يفوتكم. » فوضعوا عليه السيوف وقتلوه.
وأرسل أبو محمّد ابن حمدان إلى المتقي لله أنّه وقف على أنّ ابن رائق أراد أن يغتاله ويوقع به فجرى في أمره ما جرى فردّ المتقى عليه الجواب يعرّفه أنّه الموثوق به ومن لا يشكّ فيه ويأمره بالمصير إليه فعبر ولقيه.