« إنّ الأمير قد ثار المرار به من خمار لحقه. » وفي هذه السنة خرج عسكر الأمّة المعروفة بالروس إلى أذربيجان وقصدوا برذعة وملكوها وسبوا أهلها.
شرح أخبار الروسية وما آل إليه أمرهم

هؤلاء أمة عظيمة لهم خلق عظام ولهم بأس شديد لا يعرفون الهزيمة ولا يولّى الرجل منهم حتى يقتل أو يقتل. ومن عادة الواحد منهم أن يحمل آلة السلاح ويعلق على نفسه أكثر آلات الصنّاع من الفاس والمنشار والمطرقة وما أشبهها ويقاتل بالحربة والترس ويتقلد السيف ويعلق عليه عمودا وآلة كالدشنيّ ويقاتلون رجالة لا سيما هؤلاء الواردين.
وذلك انهم ركبوا البحر الذي يلي بلادهم وقطعوه الى نهر عظيم يعرف بالكرّ يحمل من جبال آذربيجان وأرمينية ويصبّ الى البحر وهو نهر برذعة الذي يشبّهونه بدجلة. فلما وصلوا إلى الكرّ توجه إليهم صاحب المرزبان وخليفته على برذعة وكان معه ثلاثمائة رجل من الديلم ونحو من عددهم صعاليك وأكراد واستنفر العامة فخرج معه من المطوّعة نحو خمسة آلاف رجل لجهاد هؤلاء وكانوا مغترّين لا يعرفون شدتهم وحسبوا أنّهم يجرون مجرى الأرمن والروم.
فلمّا صافّوهم الحرب لم تكن إلّا ساعة حتى حملت الروسية حملة منكرة فهزموا العسكر وولّت المطوّعة بأسرهم وسائر العسكر إلّا الديلم. فإنّهم ثبتوا ساعة فقتلوا كلّهم إلّا من كان بينهم فارسا، واتبعوا الفلّ الى البلد فهرب كل من كان له مركوب بجملة من الجند والرعية وتركوا البلد فنزلته الروسية وملكوه.
فحدثني أبو العبّاس ابن ندار وجماعة من المحصّلين أنّ القوم بادروا إلى البلد ونادوا فيه وسكنّوا الناس وقالوا لهم:
« لا منازعة بيننا وبينكم في الدين وانما نطلب الملك وعلينا ان نحسن السيرة وعليكم حسن الطاعة. » ووافتهم العساكر من كل ناحية فكانوا يخرجون إليهم ويهزمونهم وكان أهل برذعة يخرجون معهم فإذا حملوا عليهم المسلمون كبّروا ورجموهم بالحجارة فكانت الروسية تتقدم إليهم بأن يضبطوا أنفسهم ولا يدخلوا بين السلطان وبينهم فيقبل أهل السلامة منهم خاصّة فأمّا العامة ومعظم الرعاع فكانوا لا يضبطون أنفسهم ويظهرون ما في نفوسهم ويتعرضون لهم إذا حمل عليهم أصحاب السلطان.
فلمّا طال ذلك عليهم نادى مناديهم بألّا يقيم في البلد أحد من أهله وأجلوهم ثلاثة أيام من يوم ندائهم فخرج كل من كان له ظهر يحمله ويحمل حرمه وولده وهم نفر يسير وجاء اليوم الرابع والأكثر مقيمون فوضعت الروسية فيهم سيوفهم فقتلوا خلقا عظيما لا يحصى عددهم وأسروا بعد القتل بضعة عشر ألف رجل وغلام مع حرمهم ونسائهم وبناتهم وجعلوا النساء والصبيان في حصن داخل المدينة وهي شهرستان القوم وكانوا نزلوه وعسكروا به وتحصنوا فيه. ثم جمعوا الرجال الى المسجد الجامع ووكلوا بأبوابه وقالوا لهم: « اشتروا أنفسكم ».
ذكر تدبير صواب أشار به بعضهم فلم يقبلوا منه حتى قتلوا بأجمعهم واستبيحت أموالهم وذراريهم

كان بالبلد نصرانيّ له رأي سديد يعرف بابن سمعون وكان يسعى في السفارة بينهم ووافق الروسية ان يبتاع كل رجل منهم بعشرين درهما فتابعه على ذلك عقلاء المسلمين وخالفه الباقون وقالوا:
« إنّما يريد ابن سمعون أن يلحق المسلمين بالنصارى في أداء الجزية. » فأمسك ابن سمعون وتوقف الروسية عن قتل الرجال طمعا في هذا القدر اليسير أن يحصل لهم من جهتهم فلما لم يحصل لهم شيء وضعوا فيهم السيوف فقتلوهم عن آخرهم الا عددا يسيرا خرجوا في قناة ضيقة كانت تحمل الماء الى المسجد الجامع والّا من افتدى نفسه بذخيرة كانت له.
فربما وافق الواحد من المسلمين الروسيّ على مال يفدى به نفسه فحضر معه إلى منزله أو حانوته فإذا استخرج ذخيرته وكانت زائدة على مال موافقته لا يمكن صاحبها منها وإن كانت أضعافا مضاعفة عليه وعطف بالمطالبة حتى يجتاحه فإذا علم أنّه لم يبق له عين ولا ورق ولا جوهر ولا فرش ولا كسوة أفرج عنه وأعطاه طينا مختوما يأمن به من غيره فاجتمع لهم من البلد شيء عظيم يجلّ قدره ويعظم خطره وكانوا قد حازوا النساء والصبيان ففجروا بهنّ وبهم واستعبدوهم.
فلمّا عظمت المصيبة وتسامع المسلمون في البلدان بخبرهم تنادوا بالنفير وجمع المرزبان بن محمد عسكره واستنفر الناس وأتاه المطوّعة من كل ناحية فسار في ثلاثين ألف رجل فلم يقاوم الروسية مع إجماع هذه العدّة ولا أمكنه أن يؤثّر فيهم أثرا فكان يغاديهم القتال ويراوحه وينقلب عنهم مفلولا واتصلت الحرب بينهم على هذه الصورة أياما كثيرة فكانت الدبرة أبدا على المسلمين.
فلمّا أعيا المسلمين أمرهم ورأى المرزبان الصورة التجأ الى الحيلة والمكيدة واتفق له أن الروسية لما حصلوا بالمراغة تبسّطوا في الفاكهة وهناك أنواع كثيرة منها فمرضوا ووقع فيهم الوباء لأنّ بلادهم شديدة البرد ولا ينبت فيها شجر وإنّما يحمل إليهم الشيء اليسير من البلاد الشاسعة عنهم.
فلمّا تمحّق عددهم وفكر المرزبان في الحيلة وقع له أن يكمن لهم ليلا وواطأ عسكره ان يبادروا الحرب فإذا حمل عليهم القوم انهزم هو وانهزموا معه وأطمعهم بذلك في العسكر والمسلمين فإذا تجاوزوا موضع الكمين عطف المرزبان ورجاله عليهم وصاحوا بالكمين بشعار اتفقوا عليه فإذا حصل الروسية في الوسط تمكنوا منهم.
فلمّا أصبحوا على هذه المكيدة تقدّم المرزبان وأصحابه وبرز الروسية وأميرهم راكب حمار وخرج رجاله واصطفّوا للحرب فجروا على عادتهم وانهزم المرزبان والمسلمون واتبعهم الروسية حتى تجاوزوا موضع الكمين واستمر الناس على هزيمتهم.
فحكى المرزبان بعد ذلك أنّه لمّا رأى الناس كذلك وصاح بهم واجتهد بهم أن يراجعوا الحرب فلم يفعلوا لما تمكن في قلوبهم من هيبتهم علم أنّه ان استمر الناس على هزيمتهم عاد القوم فلم يخف عليهم موضع الكمين فيكون ذلك هلاكهم. قال:
« فرجعت وحدي مع من تبعني من أخي وخاصّتى وغلماني ووضعت في نفسي الشهادة فحينئذ استحيا أكثر الديلم فرجعوا وكررنا عليهم ونادينا « الكمين » فخرجوا من ورائهم فصدقناهم الحرب وقتلنا منهم سبعمائة نفس فيهم أميرهم وحصل الباقون في الحصن الذي كانوا فيه من البلد وقد كانوا نقلوا اليه غلّات كثيرة وميرا عظيمة وحصّلوا فيه السبي والأموال. » فبينما المرزبان في منازلتهم وهو لا يقدر لهم على حيلة سوى المصابرة إذ ورد عليه الخبر بدخول أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان آذربيجان وانتهائه الى سلماس واجتماعه مع جعفر بن شكّويه الكردي في جماهير الهدايانية واضطرّ الى أن خلف على حرب الروسية أحد قوّاده في خمسمائة من الديلم وألف وخمسمائة فارس من الأكراد وألفين من المطوّعة وسار إلى أوران ولقي أبا عبد الله فاقتتلا قتالا خفيفا وسقطت ثلجة عظيمة واضطرب أصحاب أبي عبد الله لأنّ معظمهم أعراب وساروا عنه فسار بسيرهم إلى بعض المدن الحصينة فلقيه في طريقه كتاب من ابن عمه ناصر الدولة يعلمه فيه وفاة توزون بمدينة السلام واستئمان رجاله إليه وأنّه قد عمل على الانحدار معهم إلى بغداد ومحاربة معزّ الدولة لأنّه كان دخلها فاستولى عليها بعد إصعاد توزون عنها ويأمره بالتخلية عن أعمال آذربيجان والانكفاء إليه ففعل.
سنتهم في دفن موتاهم

فلم يزل أصحاب المرزبان عن قتال الروسية وحصارهم إلى أن ضجروا واتفق أن زاد الوباء عليهم فكان إذا مات الرجل منهم دفنوا معه سلاحه وثيابه وآلته وزوجته أو غيرها من النساء وغلامه إن كان يحبه على سنة لهم.
فاستثار المسلمون بعد زوال أمرهم مقابرهم فاستخرجوا منها سيوفا يتنافس فيها إلى اليوم لمضائها وجودتها.
فلمّا قلّ عددهم خرجوا ليلا من الحصن الذي كانوا فيه وحملوا على ظهورهم كل ما أمكنهم من المال والجواهر والثياب الفاخرة وأحرقوا الباقي وساقوا من النساء والصبيان والصبايا ما شاءوا ومضوا إلى الكرّ وكانت السفن التي خرجوا فيها من بلادهم معدّة فيها مع ملّاحهم وثلاثمائة رجل من الروسية كانوا يمدونهم بإقساطهم من غنائمهم فجلسوا فيها ومضوا وكفى الله المسلمين أمرهم.
شاهد يروى ما رءاه

فسمعت ممن شاهد هؤلاء الروسيّة حكايات عجيبة من شدّتهم وقلّة مبالاتهم بمن يجتمع عليهم من المسلمين فمن ذلك خبر شاع في الناحية وسمعته من غير واحد أنّ خمسة نفر من الروسية اجتمعوا في بستان ببرذعة وفيهم غلام أمرد وضيء الوجه من أولاد رؤسائهم ومعهم نسوة من السبي وأنّ المسلمين لمّا عرفوا خبرهم أحاطوا بالبستان واجتمع عدد كثير من الديلم وغيرهم على حرب أولئك النفر الخمسة واجتهدوا في أن يحصل لهم أسير واحد فلم يكن إليه سبيل لأنّه كان لا يستسلم أحد منهم ولم يمكن قتلهم حتى قتلوا من المسلمين أضعافا كثيرة لعدّتهم وكان ذلك الأمرد آخر من بقي. فلمّا علم أنّه يؤخذ أسيرا صعد شجرة كانت بالقرب منه ولم يزل يجرح نفسه بخنجر معه في مقاتله إلى أن سقط ميّتا.
وفي هذه السنة ظهر للمتقى من بنى حمدان ضجر به وبمقامه عندهم وشهوة لمفارقته فراسل توزون في الصلح فتلقّى توزون ذلك بنهاية الرغبة فيه والحرص عليه ووردت رسالة المتقي لله إلى توزون مع الحسن بن هارون وأبي عبد الله بن أبي موسى الهاشمي وتوثّقا من توزون واستحلفاه أيمانا مؤكدة للمتقى وللوزير أبي الحسين ابن مقلة وأحضر توزون القضاة والعدول والعباسيين والطالبيين ومشايخ الكتّاب حتى حلف بحضرتهم للمتقي لله وكتب بذلك كتاب وأحكم ووقعت فيه الشهادة من جميع من حضر على توزون.
ودخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة

ولمّا كان يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرّم وصل الأخشيد إلى حضرة المتقي لله وهو بالرقة ولقيه بها وأعظمه المتقى نهاية الإعظام ووقف الأخشيد بين يديه وقوف الغلمان وفي وسطه سلاح ثم ركب المتقى فمشى بين يديه الأخشيد فأمره أن يركب فلم يفعل ولم يزل على تلك الحال مختلطا بالغلمان إلى أن نزل من ركوبه وحمل إليه هدايا ومالا وحمل إلى أبي الحسين ابن مقلة عشرين ألف دينار ولم يدع كاتبا ولا حاجبا إلّا برّه.
واجتهد بالمتقي لله أن يسير معه إلى مصر والشام فيكون بين يديه فلم يجبه إلى ذلك وأشار عليه بالمقام مكانه فلم يقبل فلمّا امتنع عليه من الأمرين عدل إلى الوزير أبي الحسين وأشار عليه بأن يسير معه إلى مصر وضمن له إنفاذ أمره وترك الاعتراض عليه في شيء يدبّره فخالفه.
وكان أبو الحسين بعد ذلك يظهر التندّم ويقول:
« نصحنى الأخشيد فلم أقبل. » وكانت دنانير الأخشيد في صندوق أبي الحسين إلى أن انتهبت لمّا قبض على المتقي لله.
ولمّا توثّق المتقي لله من توزون انحدر من الرقّة يريد بغداد في الفرات ومعه غلامان من غلمان الأخشيد ومحمد بن فيروز ونقط فلمّا وصل إلى هيت أقام بها وأنفذ القاضي الخرقى وابن شيرزاد حتى جدّدا على توزون الأيمان والعهود والمواثيق وأكرم المتقي لله توزون ولقّبه المظفّر وعاد القاضي إلى هيت وعرّف المتقى أنه قد أحكم الأمر مع توزون.
وخرج توزون لليلة بقيت من صفر إلى البثق الذي كان بالسندية ونزل الوزير أبو الحسين على شاطئ الفرات وبين توزون والمتقى نحو فرسخ فلمّا همّ بالانحدار استقبله توزون وترجّل له وقبّل الأرض بين يديه ووكّل به وبالوزير وبالجماعة وأنزل بهم في مضرب نفسه مع حرم المتقي لله وارتجّت الدنيا فسمله. وحكى ثابت أنّ توزون سملة بحضرة قهرمانة المستكفي بالله.
وانحدر توزون من الغد وفي قبضه الجماعة فكانت مدّة وزارة أبي الحسين ابن مقلة سنة واحدة وخمسة أشهر واثنى عشر يوما.
خلافة المستكفي بالله

ذكر السبب في القبض على المتقى وخلافة المستكفي بالله

قال ثابت: حدثني أبو العبّاس التميمي الرازي وكيله، قال: وكان خصيصا بتوزون مستوليا عليه، قال:
كنت أنا السبب فيما جرى على المتقى وذاك أنّ إبراهيم بن الربنبذ الديلمي لقيني يوما وسألنى أن أصير إلى دعوته فاستأذنت توزون في ذلك فأذن لي فيه ومضيت إليه وهو ينزل في دار القراريطي على دجلة فوجدت داره مفروشة منضّدة فسألته عن السبب في ذلك وقلت: أحسبك قد تزوّجت.
فقال: أنا أحدّثك عن أمري:
اعلم أنّى خطبت إلى قوم وتجمّلت عندهم بأن ادّعيت أنّ لي محلّا من الأمير واختصاصا به فقالت لي المرأة: إذا كنت بهذه المنزلة فهل لك أن تسفر في شيء يجمع صلاح الأمير وصلاحك وصلاح المسلمين؟ فقلت لها: نعم.
قالت: هذا الخليفة (يعنى المتقي لله) قد عاداكم وعاديتموه وكاشفكم وكاشفتموه وليس يجوز أن تصفو نيته لكم آخر الدهر وقد اجتهد في بواركم فلم يتم له فمرّة ببني حمدان ومرّة ببني بويه وهاهنا رجل من ولد الخلافة من فهمه وعقله ودينه ورجلته كيت وكيت تنصبونه في الخلافة وتزيلون المتقي لله وهو يثير لكم أموالا جليلة لا يعرفها غيره ولا يقدر عليها سواه وتكونون أنتم قد استرحتم من عدوّ تريدون أن تحرسوه وتحترسون منه وتخافونه ويخافكم وتقيمون رجلا من قبلكم يرى أنّكم قد أحسنتم إليه وأنّ روحكم مقرونة بروحه.