ودخلت سنة أربعين وثلاثمائة

وفيها لحق ركن الدولة بابن قراتكين غلام صاحب خراسان وواقعه بروذبار من خان النجان سبعة أيام متوالية فانهزم ابن قراتكين وذلك في المحرم من هذه السنة.
ابتداء ذكر مشاهدات مسكويه صاحب هذا الكتاب وما يجرى مجرى مشاهداته

قال الأستاذ أبو عليّ أحمد بن محمد مسكويه صاحب هذا الكتاب:
أكثر ما أحكيه بعد هذه السنة فهو عن مشاهدة وعيان أو خبر محصّل يجرى عندي خبره مجرى ما عاينته، وذلك أنّ مثل الأستاذ الرئيس أبي الفضل محمّد بن الحسين بن العميد - رضي الله عنه - خبّرنى عن هذه الواقعة وغيرها بما دبّره وما اتّفق له فيها، فلم يكن أخباره لي دون مشاهدتى في الثقة به والسكون إلى صدقه، ومثل أبي محمّد المهلّبي - رحمه الله - خبّرنى بأكثر ما جرى في أيامه وذلك بطول الصحبة وكثرة المجالسة.
وحدّثني كثير من المشايخ في عصرهما بما يستفاد منه تجربة وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره منه وما شاهدته وجرّبته بنفسي فسأحكيه أيضا بمشيئة الله.
فحدّثني الأستاذ الرئيس أبو الفضل ابن العميد - رضي الله عنه - عن هذه الوقعة وأنا أحكى أولا السبب في ورود ابن قراتكين:
ذكر السبب في ورود ابن قراتكين الري

كان ركن الدولة عند وفاة أخيه عماد الدولة بنواحي جرجان وذلك أنّه قصد وشمكير وهزمه وتبعه إلى جالوس فلمّا بلغه وفاة أخيه اضطرب وجزع وعلم أنّ فارس ستضطرب على ابنه فسارع إلى المسير إليها لتوطئة الأمور وانصرف إلى الريّ فاستخلف بها عليّ بن كامه واتسع خناق أعدائه ببعده عن ممالكه وكلّ حدّث نفسه بأمر.
وكتب ركن الدولة إلى معزّ الدولة بما عزم عليه ومما كان من وفاة أخيهما فكتب معز الدولة إلى وزيره أبي جعفر الصيمري وهو يومئذ منازل لعمران بن شاهين بالبطائح بان يخلّى ما هو بسبيله ويصير إلى فارس لخدمة ركن الدولة ففعل وسبق وصوله وصول ركن الدولة فحسن موقع ذلك من ركن الدولة.
فلمّا وصل إلى شيراز ابتدأ بزيارة قبر أخيه بباب إصطخر فمشى حافيا حاسرا ومشى أهل عسكره وعسكر فارس على تلك السبيل ولزم المصيبة ثلاثة أيّام إلى أن خاطبه الرؤساء وسألوه أن يرجع إلى المدينة ففعل وأقام ستة أشهر.
وأنفذ نصيبا من تركة عماد الدولة إلى أخيه معزّ الدولة وكان في جملتها مائة وسبعون غلاما ومائة وقر من السلاح ثم ما يجرى مجرى ذلك من الثياب والآلات واقتطع من أعمال فارس أرجان - وهي كورة من كور فارس - إلى أعماله وخلّف وزيره هناك وانقلب إلى الريّ.
وحدّت أطماع من ذكرت وامتدّت إلى الريّ والجبل وإصبهان وتسرّبت العساكر إليها فمن ذلك مسير صاحب جيش خراسان إلى الريّ ومعه محمد بن ماكان من جهة الحسن بن الفيروزان وسار شيرج بن ليلى من قبل وشمكير ثم جمهور عسكر خراسان وكان أبو الحسن عليّ بن كامه قد انحاز إلى إصبهان وتفرّق قوّاد عسكر ابن قراتكين في ولايات أعمال الجبل وكان منهم بهمذان ينال قام وفي كل بلد من بلدان الجبل مثله.
وكان ركن الدولة قد كاتب أخاه معزّ الدولة وهو بعد بفارس يستدعى من يدفع معرّات هؤلاء فأمدّه بسبكتكين الحاجب في عسكر ضخم من الأتراك والديلم وفيهم جماعة من الأتراك القدماء التوزونيّة وجماعة من العرب وكان مسيره من بغداد سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فدبّر سبكتكين تدبيرا جيّدا.
ذكر تدبير صواب تمكن به سبكتكين من أول عدو لقيه بقرميسين

رأى سبكتكين أن يخلّف عسكره وما ثقل من سواده وينتخب من الفرسان من يثق به ويسرى إلى قرميسين وكان فيها قائد من قوّاد الأتراك الخراسانية يقال له: بجكم الخمارتكينى، وكان ينال قام أنفذه إلى همذان واليا عليها فكبسه سبكتكين وهو في الحمّام وأخذه أسيرا وأوقع برجاله وأصحابه وأنفذه إلى معزّ الدولة فاعتقله مدّة طويلة ثم أطلقه.
ولمّا بلغ ولاة أعمال الجبل ما جرى على بجكم هذا فارقوا مراكزهم واجتمعوا إلى ينال قام بهمذان.
فلمّا سار سبكتكين نحوهم ساروا من همذان بأجمعهم فلم يحاربوا وورد سبكتكين همذان وأقام بها منتظرا ركن الدولة وذاك أنّ كتب ركن الدولة كانت ترد عليه أنّه يسير من فارس على طريق الجبل ثم تأخّر انتظارا لانحسار الثلوج ثم ورد همذان وتقدّم إلى سبكتكين بالمسير على مقدّمته.
فشغب الصنف من الأتراك التوزونية وأظهروا التضجّر بالمقام الطويل فتوسّط الأستاذ الرئيس أبو الفضل - رحمه الله - بينهم وداراهم وسكّنهم فسكنوا في الوقت ثم عاودوا من الغد وطال ذلك منهم حتى اتّهموا.
فسمعت أبا الفضل ابن العميد - رحمه الله - يقول:
إني قلت للأمير ركن الدولة: هؤلاء أعداؤنا وقد كاشفونا فكيف نسير بهم إلى أعدائنا؟ فاتّفق الرأي بيننا أن نسكّنهم فإن سكنوا وإلّا حاربناهم وفرغنا من العدو الأقرب فلمّا عملنا على ذلك عملوا على الحرب فأوقعنا بهم ومضوا مفلولين. وسبق خبرهم إلى معزّ الدولة فكتب إلى أبن أبي الشوك الكردي وسائر وجوه الأكراد المقيمين في أعمال حلوان بطلبهم والإيقاع بهم ففعلوا ذلك وطلبوهم وأسروا منهم وقتلوا. فأمّا الأسارى فأنفذهم إلى بغداد وأمّا الفلّ فصاروا إلى الموصل بحال سيّئة.
وأقام ركن الدولة بهمذان لتعرّف خبر ابن قراتكين إلى أن صحّ عنده مسير ابن قراتكين من الريّ نحو همذان فبثّ جواسيسه وطلائعه لتعرّف خبره.
فأتاه الخبر بأنّه عدل عن سمت همذان وأخذ على طريق يؤدّى إلى إصبهان.
فسار ركن الدولة في أثره يقفوه حتى انتهى إلى جرباذقان ووصل ابن قراتكين إلى إصبهان فعاث بها عيثا كثيرا مدة ما أقام ثم عرف قرب ركن الدولة منه فسار إلى طرف مفازة بقرب من إصبهان.
فنزل منها على زرّين روذ ليكون وصول ركن الدولة إليه مع عسكره، وقد قطعوا المفازة ومسّهم التعب والعطش ولا يصلون إلى الماء. فرأى ركن الدولة أن يعدل إلى خان النجان ليلزم سمت قرى زرين روذ ولا يعدم الماء واتصل ذلك بابن قراتكين فانقلب عن موضعه معترضا له لئلا يملك عليه ظهره. فالتقيا في الموضع المعروف بالروذبار وبينهما زرّين روذ ولكنّه يخيض ولا يمنع الراجل ولا الفارس العبور وذاك أن الفصل كان ضيّقا. فدامت الحرب بينهما سبعة أيّام واشتدت في اليوم السادس خاصة ثم انهزم ابن قراتكين في اليوم السابع.
وعاد الحديث إلى حكاية أبي الفضل ابن العميد - رضي الله عنه - عن هذه الوقعة. حكى أنّه لحقه وركن الدولة وسائر الجيش من الاضاقة وعوز الميرة والعلوفات وتعذّر جميع الأقوات ما لم يلحقها مثله وذاك أن الأكراد أحدقوا بنا فلم يتمكّن أحد من اطّلاع رأسه عن المعسكر.
وانقطعت عنّا المواد وكنا نصل إلى أقواتنا مما تحمله الأكراد إلينا ويبيعوناه بأوفر الأثمان وكذلك العلوفات فكان يجيئنا الكردي بجراب أو مخلاة أو وعاء فيه دقيق فيبيعناه بحكمه فإذا أخذناه ونفضناه وجدنا قدر الدقيق فيه مقدار ما رأيناه في رأس الوعاء وأسفله كلّه تراب ثم يختلط ذلك القدر اليسير بالتراب فلا ينتفع بشيء منه وكذلك يفعل بالشعير والحنطة وكانت لهم حيل تجرى هذا المجرى كثيرة.
قال: فكنّا ننحر الجمل أو الدابّة فنتوزّع لحمه بين عدد كبير ونتبلّغ به على عادة الديلم وصبرهم على المجاعة والشدّة في الحرب وكان أعداؤنا الأتراك في مثل حالنا إلّا أنّهم لا يصبرون كما نصبر ولا يقنعون بما نقنع، فإذا ذبحنا نحن جزورا ذبحوا أضعافا كثيرة. ثم إنّ أصحابنا يعودون إلى نشاطهم في الحرب ويتسخط أولئك ويشغبون على صاحبهم ولا يناصحونه في الحرب إلى أن ملّوا.
وأصبحنا يوما وقد رحلوا من معسكرهم فتركوا خيمهم بإزائنا وأتانا الخبر برحيلهم فما صدّقنا به حتى عبر جماعة وتلاهم العسكر أوّلا أوّلا وأشفقنا أن يكون لهم كمين أو مكيدة فلم يكن إلّا هزيمة وذهبوا على وجوههم.
ذكر خبر عجيب واتفاق غريب

حكى الأستاذ أبو الفضل ابن العميد - نضر الله وجهه - أنّ ركن الدولة دعاه في اليوم السابع وقد نفد صبره وصبر أصحابه وشكا إليّ شدّة الأمور وصعوبته عليه وكأنّه يفكّر في حيلة للانهزام وإن كانت متعذّرة عليه فقلت:
« أيّها الأمير، إنّك كنت منذ أسبوع مالك أكثر، تملك سرير الخليفة فينفذ أمرك في أكثر بلاد الإسلام ومن لم يكن من الملوك في سائر الأرض تحت أمرك وولايتك فهو أيضا تحت حكمك حشمة لك يقبل أمرك تجمّلا ويطيعك تهيبا وقد أصبحت اليوم وأنت لا تملك من الأرض إلّا ما عليه مضربك وقد اجتمع عليك هؤلاء الأعداء ليغصبوك عليه ويمنعوك منه ولا مفزع لك إلّا إلى الله - عز وجل - فأخلص نيّتك له واعقد عزيمتك على ما بينك وبينه تعالى يطلع على صدقها ويعرف صحّتها وانو للمسلمين خيرا ولكافة الناس مثله وعاهده على ما تعمله وتفيء به من الأعمال الصالحة والإحسان فيما تلى إلى من تلى عليه فإنّ الحيل البشرية كلّها انقطعت بنا ولم يبق لنا إلّا هذا الذي نصحتك به. »
قال: فتبسّم وقال:
« يا أبا الفضل قد سبقتك إلى ما أشرت به. » وجرى في هذا الباب ما يجرى مثله من النذور وصدق النيّة، وبتنا تلك الليلة على حالنا. فلمّا كان في الثلث الأخير من الليل جاءتني رسله متقاطرة فصرت إليه وهو مسرور قويّ النفس بخلاف ما عهدته وقال:
« يا أبا الفضل أنت تعرف مناماتى وصدقها وقد رأيت ما أرجو أن يكون تأويله قريبا غير بعيد. » قلت: « وما ذاك. » قال: « رأيت كأنّى على دابّتى المعروف بفيروز وقد انهزم عدوّنا وأنت تسير إلى جانبي وتذكر لي نعمة الله علينا فيه وأن الفرج جاءنا من حيث لا نحتسب. فبينا نحن في هذا الحديث وشبهه حتى مددت عيني بين غبرة الموكب إلى الأرض فرأيت خاتما يتلألأ قد سقط إلى الأرض عن صاحبه بين التراب فقلت للركابى الذي بين يدي: يا غلام هات ذاك الخاتم.
فتطأطأ ورفعه إليّ فإذا خاتم فيروزج فأخذته وجعلته في اصبعى السبّابة وتبرّكت به وانتبهت وقد تفألت به وأيقنت بالظفر. » وذاك أن الفيروزج معناه الظفر إذا عرّب وكذلك لقب دابّته الذي رآه فيروز.
قال أبو الفضل ابن العميد رحمه الله:
فو الله ما أضاء الصبح حتى جاءنا الخبر والبشرى بأنّ العدوّ قد رحل فما صدّقنا به ولا التفتنا إليه حتى تواترت الأخبار وعبر سرعان الخيل وعادوا إلينا مستبشرين فقمنا حينئذ وركبنا متعجّبين لا نعرف سبب هزيمته حتى عبرنا على حذر من كمين أو مكيدة.
فبينا نحن نسير وأنا إلى جانب ركن الدولة وقد تعمّد ركوب دابّته فيروز ليصدّق رؤياه إذ صاح الأمير بغلام بين يديه:
« يا غلام ناولني ذلك الخاتم. » فتطأطأ وناوله من الأرض خاتم فيروزج: فأخذه ولبسه في سبّابته والتفت إليّ وقال:
« هذا بلا تأويل هو الخاتم الذي حدّثتك بحديثه منذ ساعة. » فهذا من طرائف الأخبار ولولا صدق محدّثه وجلالة قدر من حكاه لي وبعده عن التزيد لما سطّرته في كتابي هذا.
من حوادث هذه السنة

وفيها تمّ الصلح بين معزّ الدولة وبين عمران بن شاهين وقلّده معزّ الدولة البطائح وأطلق أخوته وعياله وأطلق عمران بن شاهين من استأسر من القوّاد وغيرهم.
فأمّا ابن قراتكين فإنّه عاود حرب الأمير ركن الدولة وجرت بينهما وقائع عظيمة بناحية الريّ ومات ابن قراتكين فجأة وكان سبب وفاته أنّه كان شرب أيّاما متوالية بلياليها فأصبح يوما ميتا وذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة.
وفيها انهزم صاحب عمان من باب البصرة من بين يدي أبي محمّد المهلّبي وأسر جماعة من أصحابه وأخذت عدّة من مراكبه ودخل أبو محمّد المهلّبي بغداد ومعه المراكب والأسارى.
ودخلت سنة احدى وأربعين وثلاثمائة

وفيها ملك الروم مدينة سروج وسبوا أهلها وأحرقوا مساجدها.
ضرب معز الدولة المهلبي بالمقارع

وفيها ضرب الأمير معزّ الدولة أبا محمّد المهلّبي بحضرته بالمقارع وحمله إلى داره وأقرّه على كتابته.
ذكر السبب في ذلك

كان السبب في ذلك أنّ أبا محمّد المهلّبي لمّا خرج إلى عمان وأنفق في ذلك الوجه ما أنفق ثم انهزم تنكّر له معزّ الدولة وهمّ بالقبض عليه. فلمّا حدث بالريّ ما حدث من ورود جيش خراسان إليها شغله ذلك عمّا في نفسه منه.
وكان ورد أبو العبّاس الحنّاط إلى الحضرة برسالة ركن الدولة يطالب بمال يحمل إليه فدفعت الضرورة إلى مكاتبة الوزير المهلّبي وهو بواسط قد وافاها منهزما وأمر بالعدول إلى الأهواز وتسليم ألف ألف درهم إلى أبي العبّاس الحنّاط من القلعة وردّ العوض ممّا يستخرجه وأن يواصل الحمل إلى الحضرة ويسرّب الجيوش إلى الأهواز على طريق إصبهان إلى الريّ فنفذ لذلك كلّه وفي نفس الأمير معزّ الدولة عليه ما فيها.
فلمّا أصعد المهلّبي إلى الحضرة أثّر في أمر يوسف بن وجيه صاحب عمان أثرا كبيرا وذاك أنّه كان قصد البصرة فسبقه أبو محمّد المهلّبي إليها وحاربه وهزمه وأسر أصحابه وأخذ مراكبه كما ذكرنا.
ذكر السبب في طمع ابن وجيه في البصرة ثم انهزامه منها

كنّا ذكرنا ما كان من استيحاش القرامطة من معزّ الدولة ومن جوابه إيّاهم عن رسالتهم واستخفافه بهم. فلمّا عرف ابن وجيه ذلك كاتبهم وأطمعهم في البصرة وسألهم أن يمدّوه من ناحية البرّ فأمدوه بأخيهم أبي يعقوب في سريّة قويّة فورد باب البصرة وأنهض ابن وجيه رجاله في مراكبه من ناحية البحر ونهض هو بنفسه.
ووافق ذلك فراغ المهلّبي من الأهواز فبادر إلى البصرة وأخرج معه من القوّاد والرجال والزبازب والطيارات وآلات الماء كفايته وشحنها بالرجال وأزاح عللهم في الجيش والسلاح وأنفذ إليه معزّ الدولة مددا من بغداد.
وكان المهلّبي رتّب على سور المدينة بالبصرة الرجال يحمونه وجمع إلى نفسه وجوه القوّاد مثل لشكر ورز بن سهلان وموسى فياذه وموسى بن ماكان وأشباههم من وجوه الناس وطبقات الغلمان وحارب ابن وجيه أيّاما ثم هزمه وظفر المهلبي بمراكبه ورجاله وأسر جماعة من وجوه أصحابه فخفّ بذلك بعض ما كان في قلب معزّ الدولة وانجلى همّ كثير كان في نفسه.
فلمّا قدم بغداد تلقّاه معزّ الدولة وجامله مديدة ثم وقف على طازاذ مال من ضمانه له قدر وكان سبّب عليه للأتراك والمهمّات فردّ التسبيبات وطالب أصحاب المال باستحقاقاتهم وأضجر ذلك معزّ الدولة فطالب أبا محمّد المهلبي وهزّ المهلبي طازاذ فاستسلم وأظلمت القصة.
فدخل المهلبي إلى معزّ الدولة فصدقه عن الصورة فاغتاظ من حيرته في الأمر وأثار ما كان في نفسه منه فزبره وطرده من بين يديه وأمره ألّا يعود إليه إلّا بعد أن يستدعيه فانصرف كئيبا. وحرّك طازاذ فصحح له مالا ونهض إلى الأمير معجّبا له من طازاذ بغير استدعاء من الأمير له.
المهلبي يتحمل مائة وخمسين مقرعة

فلمّا حصل بين يديه وأخبره بالصورة بطش به وضربه مائة وخمسين مقرعة يراوح منها بأن يرفع عنه الضرب حتى يوبخه ويبكّته بذنوبه منذ استخدامه ثم يعيد عليه الضرب إلى أن تفسّخ وثقل وقيل له إنّه كالتالف وأراد أن يرمى به إلى دجلة ثم تماسك وردّه إلى منزله ووكّل به.
ضرب طازاذ والعمل على صرف المهلبي دون جدوى

وفي اليوم الثاني استدعى طازاذ أيضا وضربه وعمل على صرف المهلّبي فلم يرتض خدمة أحد ممّن كان بحضرته في الوقت فترجّح رأيه وصعّد وصوب فلم يقم أحد مقام أبي محمد.
وكان أبو محمد المهلبي شهما قويّ النفس لا يتحرّك لشيء من نوائب الدهر فعمل عملا يشتمل على ثلاثة عشر ألف ألف درهم باقية في الممالك والأعمال وأنفذه إليه وذكر أنّه يقيم باستخراجه وأنّه إن تمادت الأيّام في التوكيل به تمزّقت وطمع فيها فشاور معزّ الدولة من حضره وكان فيهم أبو مخلد عبد الله بن يحيى وقال:
« هل يجوز أن أستنيم إلى هذا الرجل وقد لحقه مني هذا المكروه العظيم؟ » فقال أبو مخلد:
« قد ضرب مرداويج وزيره أبا سهل أعظم من هذا الضرب ولحقه ما لحقك من السوء عنه ثم خلع عليه وردّه إلى أمره وكان لا يطيق المشي لما حلّ به من الضرب فركب عمّاريّة ونثر عليه في الطريق مال ولا يمكنه أن يستقلّ بالجلوس وبقي كذلك مدّة ثم عاود مرداويج الإنكار عليه فنكبه وأتى على نفسه. » فعند ذلك راسله معزّ الدولة بالركوب إليه إذا استقلّ وأزال عنه التوكيل فتجلد المهلّبي وركب بعد أيام يسيرة فخلع عليه وعاد إلى أمره.
حدة معز الدولة واحتمال المهلبي

وكان معزّ الدولة حديدا سريع الغضب بذيّ اللسان يكثر سبّ وزرائه والمحتشمين من حشمه ويفترى عليهم فكان يلحق المهلبي - رحمه الله - من فحشه وشتمه عرضه ما لا صبر لأحد عليه فيحتمل ذلك احتمال من لا يكترث له وينصرف إلى منزله.
وكنت أنادمه في الوقت فلا أرى لما يسمعه فيه أثرا ويجلس لأنسه نشيطا مسرورا، حتى لقد سمعت أبا العلاء صاعد بن ثابت وكان يخلفه ويأنس به يعاتبه ويقول في عرض كلامه:
« إنّ الأمير إذا اتّصل به أنسك وقلة اكتراثك لغضبه وما يلحقك من شتيمته نسبك إلى الاستهانة به فيزيد ذلك في ضرره عليك، فإن أظهرت الانخزال والاستكانة حتى يبلغه تحرّسك وانقباضك كان أحرى أن يقصّر ويندم ولا يشتّم على عادته معك وغضبه منك. » فقال له أبو محمد المهلبي:
« ما يذهب عليّ ما تقول ولكن هذا أمير خرق عجول لا يملك لسانه، فإن ذهبت أظهر الاستيحاش من هذياناته وقع له أنّى قد تنكّرت له وأنّى لا أناصحه وأنّه يتّهمنى بما لا يدور في فكرى فيكون سببا لجائحة ونكبة وليس له غير التغافل والتبسم في وجهه إذا أمكن فإن لم يمكن ذلك خوفا من غضبه فليس إلّا قلّة الفكر فيه فكان الأمر على ذلك. » وحدّثني أبو بكر ابن أبي سعيد رحمه الله: انّ معزّ الدولة وقت مقامه بالبصرة وهزيمته للبريدى افترى على المهلّبي وذكر حرمه وأفحش عليه وكان المافرّوخى حاضرا فلمّا انصرفنا من عنده قال لي المافرّوخى:
« قد ساءني أن أجرى هذا الفحش القبيح بحضرتى على الوزير فكيف الطريق إلى تسليته؟ » وإنّما أراد ألّا يتهمه بالشماتة ولا يراه بعين من علم استهانة الأمير به.
فقلت: « الإمساك في مثل هذا أولى من الكلام. » فأمسك أيّاما لا يركب إليه إلّا مع الناس وقت الاذن ثم اتّفق أن دخل المافرّوخى وأنا معه لمهمّ فوجدناه واجما مطرقا فقال المافرّوخى:
« أرى الوزير واجما فهل تجدّد أمر؟ » فقال: « ويحك أنّى أرى الأمير منذ أيام قد أمسك عمّا كان يتعاهدنا به من برّه بلسانه وأخاف أن يكون مشغول القلب بطارق تطرّقه وأنا مفكر في ذلك. » قال أبو بكر ابن أبي سعيد: فلمّا خرجنا من عنده قال لي المافرّوخى:
« هل رأيت أدهى من هذا الرجل وأذكر منه؟ » فقلت: « لا. »