وكان جستان بن شرمزن تحصّن بسور أرمية وكان وهسوذان بالطرم ويضرّب بين أولاد المرزبان كما حكينا فيما تقدّم.
وكان جستان بن المرزبان قبض على وزيره النعيمي واتّفق بين النعيمي وبين كاتب جستان بن شرمزن وهو أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه مصاهرة.
فلمّا قبض جستان بن المرزبان على النعيمي استوحش صهره أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه وحمل صاحبه على مكاتبة أخي جستان وكان يومئذ بأرمية وأطمعه في أموال عظيمة ووعده أن يقوم بين يديه وينصره بجيشه الذين جمعهم ويقيم مقام أخيه.
فعمل إبراهيم على ذلك وأشار عليه نصحاؤه بألّا يفعل فخالفهم وركب هواه وسار إلى أرمية واجتمع مع جستان بن شرمزن وكاتبه أبو الحسن عبيد الله بن حمدويه ووعدهما بكل ما سكنا إليه فصاروا إلى المراغة واستولوا عليها.
وقد كان جستان بن المرزبان صار إلى برذعة. فلمّا عرف خبر أخيه إبراهيم وانحيازه إلى جستان بن شرمزن عاد إلى أردبيل فراسل ابن شرمزن وكاتبهما ومنّاهما ووعدهما بإطلاق النعيمي وبذل لهما كل ما اقترحاه، فعادا إلى موالاته وتركا إبراهيم وانصرفا عنه إلى أرمية وأخلفاه في كلّ ما كانا بذلاه.
فلمّا رأى إبراهيم ذلك عاد إلى أرمية وبقي جستان بن شرمزن وكاتبه يطمعان كل واحد من الأخوين أعنى إبراهيم وجستان ابني المرزبان أنّهما معه حتى استكملا بناء سور أرمية وقلعة في داخلها منيعة واستكثرا من جمع الأقوات والآلات.
وظهر للأخوين معا نيّة ابن شرمزن في النفاق والعداوة فتراسلا وتصالحا وعملا على أن يجتمعا ويقصداه.
واتفق أن هرب أبو عبد الله النعيمي من حبس جستان بن المرزبان وصار إلى موقان وكاتب ابن عيسى بن المكتفي بالله المتلقب بالمستجير بالله، وأطمعه في الخلافة وأن يجمع له من الرجال من يستولى بهم على آذربيجان فإذا قوى بالمال والرجال قصد العراق.
فسار المستجير بالله في نحو ثلاثمائة رجل من المسوّدة ولم يكن بعد تمكّن ولا اجتمع له من الرجال ما أراد.
فلمّا أطمعه النعيمي صار إليه واجتمع معه وصار أيضا إليه جستان بن شرمزن في عسكره فقوى به وقلّده أمر عسكره وبايعه الناس.
وسار إليه جستان وإبراهيم ابنا المرزبان في جموعهما. فلمّا عبّى جستان عسكره تقدّم إليهم بأن يلزموا مصافّهم ويحفظوا نظامهم ولا يحملوا حتى يأذن لهم.
وكان معهم الفضل بن أحمد الكردي القحطانى وهم صنف من الأكراد ومع جستان الصنف الآخر من الأكراد الذين يعرفون بالهدايانية وتلقاهم الهدايانية وابتدأوا بالحرب فانتقض على جستان بن شرمزن صفوفه فخرج من موضعه الذي كان فيه مع الديلم لينكر على الفضل مخالفته إيّاه ويردّه إلى موضعه فوجده قد أبعد فاتبعه فما شكّ أصحابه في انهزامه فاقتفوا أثره وصحت الهزيمة.
وركب الهدايانية وأصحاب جستان وإبراهيم أكتافهم وأضطر جستان بن شرمزن إلى الانصراف إلى أرمية وظفر بإسحاق بن عيسى بن المكتفي بالله ولم يدر ما فعل به إلّا أنّى سمعت بقتله وسمعت بموته حتف أنفه في الحبس.
وتمّ لوهسوذان تفريق كلمة بنى أخيه وذلك أنّه استزار إبراهيم.
فلمّا صار إليه أكرمه ووصله بجوائز كثيرة وحمله على دوابّ وكاتب ناصرا واستغواه حتى صار إلى موقان مفارقا لأخيه ووجد الجند سبيلا إلى إقامة سوقهم والمطالبة بالأموال ففارق أكثرهم جستان وصاروا إلى ناصر فقوى وسار إلى أردبيل فملكها والجأ أخاه جستان إلى القلعة المعروفة بالنير.
ثم اجتمع الديلم والأكراد على ناصر يطالبونه بما لا يفي به وقعد به عمّه وهسوذان فعلم حينئذ أنّ وهسوذان عمّه كان يغويه وعرفا جميعا مغزاه فتراسلا وتصالحا وسلم ناصر الأمر إلى أخيه جستان فنزل من قلعته وصارا جميعا إلى أردبيل على إضاقة شديدة لنفاد الأموال وكثرة المتغلّبين على الأطراف. فاضطرّا إلى الخروج الى عمّهما وهسوذان مع والدة جستان بعد أن توثّقوا منه بالأيمان الغليظة والعهود.
فلمّا حصلوا تحت قبضته حبسهم ونكث واستولى على العسكر وعقد الإمارة لابنه إسماعيل بن وهسوذان وسلّم إليه أكبر قلاعه شميران وأخرج الأموال وأرضى الجند وجعل أبا القاسم شرمزن بن ميشكى صاحب جيشه وأخرجه إلى أردبيل.
وكان إبراهيم قد صار إلى أرمينية فتأهّب لمنازعة إسماعيل ومحاربته ولاستنقاذ أخويه جستان وناصر من محبس عمّهما وهسوذان وكان وهسوذان قد ضيّق عليهما وأساء كل الإساءة إليهما.
فلمّا عرف وهسوذان اجتماع إبراهيم على حرب إسماعيل واجتماع خلق من الديلم معه بادر بقتل جستان وناصر وأمّهما وأتى على كل من يقرب منهم ويخاف ناحيتهم وكاتب جستان بن شرمزن والحسين بن محمد بن الورّاد بقصد إبراهيم وأنفذ إليهما مددا من جهته فاستجابا له وزحفا إليه وزحف إسماعيل فهرب إبراهيم إلى أرمينية وكان جستان بن شرمزن قريبا منه فاستولى على عسكره وملك المراغة وأضافها إلى أرمية.
غزو سيف الدولة الروم
وفيها غزا سيف الدولة في جمع كثير فأثّر في بلدان الروم آثارا عظيمة وأحرق وفتح حصونا وحصل في يده سبى كثير وأسارى وانتهى في غزوه إلى خرشنة فلمّا أراد الخروج أخذ الروم عليه المضايق فما تهيّأ له أن يتخلّص إلّا بجهد عظيم هو ونحو ثلاثمائة غلام وهلك باقى أصحابه أسرا وقتلا وارتجع منه السبي كلّه والأسارى والغنيمة وأخذ جميع خزائنه وسلاحه وكراعه وقتل من الوجوه الذين معه حامد بن النمس وموسى بن سياكان والقاضي أبو حصين وكان معه من المسلمين ثلاثون ألفا وخرج أهل طرسوس من طريق آخر فسلموا.
ذكر السبب في سلامتهم ومصاب سيف الدولة
كان هذا الرجل أعنى سيف الدولة معجبا يحبّ أن يستبدّ برأيه وألّا تتحدث نفسان أنّه عمل برأى غيره وكان أشار عليه أهل طرسوس بأن يخرج معهم لأنّهم علموا أنّ الروم قد ملكوا عليه الدرب الذي يريد الخروج منه وشحنوه بالرجال فلم يقبل منهم ولجّ فأصيب المسلمون بأرواحهم وأصيب هو بماله وسواده وغلمانه.
حوادث أخر
وفيها استأمن أبو الفتح المعروف بابى العربان أخو عمران بن شاهين وصار إلى واسط بحرمه وعياله وولده لأنّه خاف أخاه ودخل بغداد في ذي القعدة ولقي معزّ الدولة.
وفيها أملك أبو الفضل العبّاس بن الحسين الشيرازي بابنة الوزير أبي محمّد المهلّبي.
وفيها مات أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن البريدي.
وفيها أسلم من الأتراك نحو مائتي ألف خركاه.
وفيها انصرف حاجّ مصر بعد أن قضوا حجّهم فنزلوا في واد بمكة. فلمّا كان بالليل حملهم الوادي وهم لا يشعرون فغرق أهل مصر وكانوا عددا كثيرا جدّا وكبسهم الماء مع أمتعتهم إلى البحر.
ودخلت سنة خمسين وثلاثمائة
اشتداد علة معز الدولة
فيها اشتدت علّة معزّ الدولة وامتنع عليه البول فاشتدّ جزعه وقلقه واستدعى الوزير أبا محمّد المهلّبي في الليل والحاجب سبكتكين فأصلح بينهما عن وحشة قديمة وبكى وندب على نفسه على عادة الديلم.
فلمّا كان آخر الليل بال دما بشدّة ثم تبعه رمل وخفّ ألمه. فلمّا كان من الغد وهو يوم الخميس لخمس خلون من المحرّم سلّم داره وكراعه وغلمانه إلى ابنه عزّ الدولة وفوّض إليه الأمور وجمع المهلّبي الوزير والحاجب سبكتكين على الوصاة به وخرج في عدّة يسيرة من غلمانه وخاصّته ليمضى إلى الأهواز.
ذكر سبب هذه الحركة والخروج بعد ظهور الصلاح والبرء من المرض
كان سبب ذلك استشعاره أنّ بغداد هي التي أحدثت له الأسقام وهي التي أفسدت عليه صحّته وتذكّر أيّام مقامه بالأهواز وهي أيّام شبابه ووفور قوّته وظنّ أنّ الأهواز هي التي كانت تجلب له الصحّة وأنّها توافقه.
فوصّى الحاجب سبكتكين والوزير المهلبي بابنه عزّ الدولة وبالجيش وغيره ممّا كان في نفسه وانحدر إلى كلواذى.
فلمّا صار بها أشار المهلّبي بأن يقيم ويتأمّل أمره ويفكّر فيه ولا يعجل.
فأقام بكلواذى وأخذ في تقدير بناء قصر ثم انتقل إلى الشفيعى وقدّر هناك البناء ثم انتقل منه إلى قطربّل لأنّها أعلى بغداد والهواء والماء هناك أصفى وأعذب وعمل على أن يبنى من حدّ قطربّل إلى باب حرب قصرا.
ثم صلح من علّته وأبو محمّد المهلبي في كل ذلك يعلّله ويصرف رأيه لعلمه بكثرة المؤن والنفقات التي تلزمه وبكراهة الجند والحاشية لانزعاجهم من أوطانهم ومألفهم ولكراهية تخريب بغداد بانتقال الملك عنها فلم يزل به حتى صرف رأيه. ولمّا علم أنّه لم يكن من البناء بدّ وأن يكون متصلا ببغداد من أعاليها ليكون هواؤه وماؤه أصحّ وأنظف، أنزله في البستان المعروف بالصيمرى وهو في أعلى بغداد من الجانب الشرقي بقصر فرج وأخذ في هدم ما يليه من العقارات وابتياعها من أهلها إلى حدود ربيعة الدور وكلّف أبا القاسم ابن مكرم وأبا القاسم ابن جستان العدلين ابتياع العقارات المجاورة له.
وأصلح ميدانا على طول دجلة وبنى الاصطبلات على نهر مهدى وقلع الأبواب الحديد التي على المدينة: مدينة أبي جعفر المنصور، والتي بالرصافة وعلى شارع نهر المعلّى ونقلها إلى داره ونقض قصور الخلافة بسرّ من رأى وسور الحبس المعروف بالحديد وبنى به داره وبالآجرّ الذي استعمله وطبخه في الأتاتين ووثق البناء واختيرت له الآلات والجص والنورة وبالغ في الإحكام وجلب له البناءون الحذّاق المشهورون من جميع البلدان الكبار من الأهواز والموصل وإصبهان وبلدان الجبل وغيرها.
ونزل لبعض الأساسات ستّا وثلاثين ذراعا ورفعها إلى وجه الأرض بالنورة والآجر إلى أن ارتفع فوق الأرض بأذرع.
ولزمه على هذا البناء إلى أن مات ثلاثة عشر ألف ألف درهم صادر فيها أسبابه سوى ما لم يشتره من الآلات التي ذكرناها والتي لم نذكرها.
وكان مقيما طول المدة في بستان الصيمري ثم انتقل إلى الدار التي بناها في يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة سنة خمسين وثلاثمائة قبل أن يستتمّ بناؤها.
موت أبي بكر أحمد بن كامل صاحب الطبري
وفيها مات أبو بكر أحمد ابن كامل القاضي - رحمه الله - ومنه سمعت كتاب التاريخ لأبي جعفر الطبري وكان صاحب أبي جعفر قد سمع منه شيئا كثيرا ولكني ما سمعت منه عن أبي جعفر غير هذا الكتاب بعضه قراءة عليه وبعضه إجازة لي وكان ينزل في شارع عبد الصمد ولي معه اجتماع كثير.
موت قاضى القضاة وما كان من أمر غلامه
وفيها مات قاضى القضاة أبو السائب عتبة بن عبيد الله وقبضت أملاكه وصودر محمّد الحاجب غلامه وضربه الوزير أبو محمّد المهلبي بحضرتى ضرب التلف لما كان بلغه [ عنه ] من التحرّم والتهتّك في أيّام أبي السائب ولم يكن به إلّا التشفّى منه فنثر كعابه ضربا.
وكان هذا الرجل عاهرا يتعرّض لحرم الناس وكان مرسوما بحجبة قاضى القضاة. فكان لا يمتنع عليه من لها خصومة أو حاجة عند قاضى القضاة وكان جميلا مقبول الصورة ويتصنّع مع ذلك ويتهم بفواحش مع صاحبه.
وفيها مات أبو نصر إبراهيم بن عليّ بن عيسى كاتب الخليفة فجأة وتقلّد كتبة الخليفة عن خاص أمره أبو الحسن سعيد بن عمرو بن سنجلا.
قبض معز الدولة على الخازن وصاحبي ديوان
وفيها قبض معزّ الدولة على أبي على الخازن وأبي مخلد وأبي الفرج محمّد بن العبّاس صاحب الديوان وعلى أبي الفضل العبّاس بن الحسين الشيرازي وأبي سهل ديزويه صاحب ديوان الجيش وحملهم إلى دار الوزير المهلّبي وسلّمهم إليه.
ذكر السبب في ذلك
احتيج إلى النفقة على البناء وكان الوزير المهلبي - رحمه الله - يقصد أبا عليّ الخازن لشيء كان بلغه عنه قديما وكذلك أبا مخلد وأبا الفرج فذكر لمعزّ الدولة أنّه يلتزم مالا ويلزم كلّ واحد من هؤلاء مما ادّخره واحتجنه ولا يحتاج إليه مالا يتمّ به أمر البناء.
وكان معزّ الدولة شديد الثقة بأبي عليّ الخازن وكان أبو عليّ كثير التمويه متفاقرا يظهر من الفقر والإقتصاد أكثر مما يحتمل مثله.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 9 (0 من الأعضاء و 9 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)