بختيار يصالح عمران ويعود إلى بغداد
وصالح بختيار عمران كما حكينا أمره فيما تقدم وطمع في مال الصلح واستضعفه. ورجع بختيار إلى بغداد وهي خراب بكثرة الفتن واستطالة العامة وحدوث الحروب فيها وإغارة بعضها على بعض وكثرة رؤسائهم الناجمين فيهم حتى حصل في كل محلة عدة رؤساء من العيّارين يحامون على محلتهم ويجبونهم الأموال ويحاربون من يليهم فهم لذلك متحاقدون يغزو بعضهم بعضا نهارا وليلا ويحرق بعضهم دور بعض ويغير كل قوم على إخوانهم وجيرانهم.
تسحب الأتراك
فأمّا الأتراك فمتسحّبون مقترحون ما لا يتمكّن منه متجاوزون حدود العامة في سفك الدماء والطمع في الأموال والفروج حتى قتلوا صاحب شرطة كان لبختيار يقال له خمار، لشيء حقير كان حقده على بعض أصاغر الأتراك فلقيهم راكبا في موكبه فحملوا عليه وألجئوه إلى الهرب والدخول إلى دار بختكين المعروف بجعدمويه وكان رئيسا معظما في الأتراك فهجموا عليه وأخرجوه وقتلوه قتلة الكلاب خفقا بالسيوف واللتوت ثم سلموا جثته إلى العامة ففصلوه آرابا حتى أخذ كبده بعض السفهاء وقلبه آخر وكل جارحة منه وجد في يد سفيه ثم أحرقوا باقى جثته بالنار.
وفتحوا السجون وأطلقوا أهل الدعارة منها وقلعوا أبوابها ونقضوا حيطانها وعجز بختيار عن تدبير أمرهم وخاف معرة الأتراك فاستدعى الديلم إلى داره فحضروه بالسلاح وتكلموا في أمر المقتول أعنى خمار وأنكروا تبسط الأتراك وتحركت الأحقاد بينهم وعمل الديلم على قصد دار سبكتكين الحاجب ومنازل الأتراك وأحسوا بهم فتحرزوا واستعدوا وتعصب العامة معهم فسكّن بختيار تلك الثورة وأغضى عن قتل صاحبه خمار.
تعصب سبكتكين للسنة على الشيعة
ثم عوّل على الحاجب سبكتكين في تسكين العامة لأن هيبته كانت في نفوسهم أكبر وقلّد سبكتكين الشرطة ببغداد حاجبا له فسكنت الفتنة مدة أيامه إلا أنّه تعصّب للطائفة المنتسبة إلى السنّة على الشيعة فثار أهل التشيع وعادت الحروب والفتن كأعظم ما كانت. فكانت الأموال تنتهب والقتل بين العامة يستمرّ في كل يوم حتى صار لا ينكر ولا يمكن حسمه، وظهر نقصان الهيبة وعجز السلطان.
وعطف بختيار على وزيره أبي الفضل العباس بن الحسين بمطالبة الأموال وإعطاء الرجال وإرضاء طبقات الجند وكان لا ينظر في دخل ولا خرج وإنّما يلزم وزيره تمشية الأمور من حيث لا يعينه ولا ينصره ولا يمنع أحدا من جنده شيئا يلتمسه ولا يقبض يده ولا لسانه عن كلّ ما يفسد حاله وشأنه ويحبّ أن تقضى أوقاته في الصيد والأكل والشرب والسماع واللهو واللعب بالنرد وتحريش الكلاب والديكة والقباج. فإذا وقفت أموره قبض على وزيره واستبدل به فلا يلبث الأمر أن يعود من الالتياث والانحلال إلى أسوأ ما كان.
فلمّا بلغ الأمر بوزيره أبي الفضل هذا المبلغ ولم تبق له حيلة في درهم يأخذه من وجهه عدل إلى طلب الأموال من الوجوه المذمومة التي تقبح الأحدوثة بها وتحرم ولا تحلّ في شيء من الأديان.
فبعث بختيار على مطالبة المطيع لله بمال يوهمه أنّه من وراء ثروة ومال وأنّه يحتاج إلى إخراجه في طريق الغزو وأنّ ذلك واجب على الإمام.
ذكر الرسائل والجوابات التي دارت بين المطيع وبين بختيار وما آل إليه أمر أبي الفضل من الهلاك
أجابه المطيع لله بانّ:
« الغزو يلزمني إذا كانت الدنيا في يدي واليّ تدبير الأموال والرجال وأمّا الآن وليس لي منها إلّا القوت القاصر عن كفايتي وهي في أيديكم وأيدى أصحاب الأطراف فما يلزمني غزو ولا حجّ ولا شيء مما تنظر الأئمة فيه وإنّما لكم مني هذا الاسم الذي يخطب به على منابركم تسكنون به رعاياكم. فإن أحببتم أن أعتزل اعتزلت عن هذا المقدار أيضا وتركتكم والأمر كلّه. » وتردّدت المخاطبات في ذلك والمراسلات حتى خرجت إلى طرف من أطراف الوعيد واضطر إلى التزام أربعمائة ألف درهم باع بها ثيابه وبعض أنقاض داره.
وشاع الخبر ببغداد بين الخاصّ والعام وعند من ورد من حاجّ خراسان وغيرهم من الواردين عن الأقطار:
« إنّ الخليفة صودر. » وكثرت الشناعات. وعوّل أبو الفضل الوزير فيما يحتاج إليه من مال الجند والإقامات التي تلزمه للأتباع والحاشية على مصادرات الرعية والتجار والتأويل عليهم بالمحال. وابتدأ بأهل الذمّة ثم ترقّى إلى أهل الملّة فأخذ أموال الشهود ووجوه البلد من أهل السّتر وبثّ السعاة والغمازين وسمّاهم العمال وأجرى عليهم الأرزاق وكثر الدعاء عليه في المساجد الجامعة وفي الكنائس والبيع وفي المحافل والمجالس وزادت العامة على ما ذكرت من حالها في الإغارة والإقدام على النهب والحرق وأسرفت في ذلك حتى بطلت الأسواق وانقطعت المعايش وتعذّر على أكثر الناس الوصول إلى ماء دجلة حتى شربوا ماء الآبار وحصلوا في شبه الحصار.
ورام الوزير أبو الفضل تسكينهم فتعذّر عليه حتى أركب إليهم طائفة من الجيش فواقعوهم وكسروهم ونقصت الهيبة أكثر مما كانت عليه وركب أبو الفضل بنفسه لقتال العيارين وواقعهم فلم يقدر عليهم.
وكان في حجابه رجل يعرف بصافى ذميم الأخلاق دنيّ النفس يتعصب لأهل السنة. فضرب محلة الكرخ وهي مجمع الشيعة ومعظم التجار بالنار فعظم الحريق وتلفت البضائع وصارت المضرّة على الرعية فيما دبّره سلطانها أعظم مما جناه سفهاؤها.
الوزير يصرف نقيب الطالبيين
وكان بين أبي أحمد الموسوي - وهو الحسين ابن موسى ويتولى نقابة الطالبيين - وبين أبي الفضل الوزير مناظرة فيما جرى على الشيعة فأظهر امتعاضا وخرج في المناظرة إلى المهاترة. فصرفه الوزير عن النقابة بأبي محمد بن الناصر وهو الحسن بن أحمد العلوي وحصل أبو أحمد الموسوي من أعداء أبي الفضل المكاشفين له المثربين عليه وحصل أبو الفضل فريدا لا ناصر له.
سبب عداوة سبكتكين للوزير أبي الفضل
أمّا سبكتكين فيطلب عنده ثأر أبي قرّة وفي نفسه عليه ما كان منه في استدعاء بختكين آزاذرويه من الأهواز إلى واسط ليقيم مقامه ويجعله ضدّا له، وشيء آخر كان عظيما عنده قبيحا وهو أنّ سبكتكين كان يختصّ غلاما تركيا من غلمانه، فغضب عليه وأمر ببيعه في السوق فنصب الوزير أبو الفضل من اشتراه له بضعف قيمته وتحظّاه ونزل عنده منزلة من كان في نفسه منه عشق ثم موّله وأعطاه شيئا كثيرا حتى صار أجلّ وأيسر من غلمان سبكتكين. فلحقت سبكتكين من ذلك غيرة شديدة وفسد عليه غلمانه الذين في داره بما وصل إليه هذا الغلام.
فهذه أسباب عداوة سبكتكين وقد حكينا عداوة الجرجرائي له، وعداوة أبي أحمد الموسوي النقيب له، ثم عداوة محمد بن بقية له. وكان ابن بقية قد ملك قيادة بختيار وكان سبب عداوته له أنّ أبا نصر المعروف بابن السراج - واسمه إبراهيم بن يوسف وهو من الأشرار المعروفين بالسعاية - قد جمع بالمكسب الخبيث مالا عظيما وأعتقد ضياعا جليلة فشعثها أبو الفضل تشعيثا يسيرا أخرجه به إلى عداوته والسعى على دمه وكان يجتمع مع المعروف بمحمد بن أحمد الجرجرائي كاتب شرمزن الذي قدمنا خبره وسبب عداوته لأبي الفضل، ويداخلان محمد بن بقية ويعرضانه للمكاسب الجليلة والفوائد العظيمة ولم يزالا به حتى غيّرا رأيه في الوزير أبي الفضل وأوهماه أنّه ساع عليه وأنّه لن يبعد أن يضمنه من بختيار بمال عظيم ثم تجاوزا ذلك إلى أن أشارا عليه بتقلّد الوزارة وأن يسبقه إلى القبض عليه والراحة منه.
ذكر السبب في تقلد ابن بقية الوزارة
لم يكن ابن بقية يستقلّ ولا يكمل لحمل دواة بين يدي وزير ولا يطمع في شيء من هذه المراتب ولكنه تقدم عند بختيار وقت خلافته لصاحب المطبخ في توفير وفّره، وخدمة في جملتها تمسخر. وكان مستخرجا عسوفا شديد القسوة جاهلا وفيه مع ذلك سماحة وسعة صدر وهو في هذه السيرة متشبه بأهل الشطارة والفتاك والدعار وليس يسلك طريقة أهل الكرم والرياسة ولما أشار عليه هذان بالدخول في الوزارة والقبض على أبي الفضل قبل أن يسبقه إلى ذلك، دهش وعلم أنّه يعجز عمّا أشارا به عليه.
ذكر كلام سديد لابن بقية في تلك الحال
إنّه أجابهما بأن قال:
« لا صناعة لي ولا توجّه فيما تدعوانى إليه ولى عند صاحبي منزلة كبيرة تحتاج الوزراء إليّ معها وأخاف أن أدخل فيما ليس من عملي واتهجّن ويقدح في منزلتي وأحطّ عنها من غير أن أنتفع بالوزارة. » فشجّعاه وجسّراه، وضمن له محمد بن أحمد الجرجرائي أن يخلفه ويكفيه العمل كله ثم صارا إلى سبكتكين الحاجب وذكراه بأفعال الوزير أبي الفضل وحملاه على الشروع في صرف أبي الفضل ونكبته فقال لهما:
« إني لم أزل معتقدا لذلك وإنّما كان توقفى عنه طلبا لمن يقوم مقامه ويسدّ مسدّه. إذ كان محمد بن العباس قريب العهد بالصرف ولم يكن مرضيّا في وزارته ولا ناهضا بها وقد حفظت على الأمير بختيار أيمان البيعة بأن لا يقلّده وزارته. » فخاطباه في تقليد ابن بقيّة وضمنا عنه أن ينهض ويغنى ويكفى وأنّهما يعضدانه ويشدّان منه في التدبير والنظر في الأمور. فاستروح سبكتكين إلى ذلك وجمع به التشفي من أبي الفضل وفساد أمر بختيار، وتجشّم احتمال الغضاضة في توفية محمد بن بقية حقوق الوزارة بعد أن لم يكن ممن يجوز أن يعدّه من أصاغر خدمه ولا يطمع في دخول داره وإنّما تجرّع ذلك وطابت به نفسه لعظيم ما كان في قلبه من أبي الفضل. فراسل بختيار في ذلك وقد كان بختيار ساء رأيه في أبي الفضل جدّا فاستجاب إليه.
وقد كان أبو سهل ديزويه العارض مرموقا بمال عظيم ولم يتمكن منه لمصاهرة كانت بينه وبين شيرزاد بن سرخاب. فلما نفى شيرزاد احتيج إليه في تسكين الجند مديدة فتدافعت نكبته. ثم إنّ أبا الفضل همّ في هذا الوقت بالقبض عليه فأحبّ ابن بقية أن يتولى أبو الفضل القبض عليه ثم يتسلمه هو ويستخرج أمواله.
فجرى الأمر على ذلك فقبض أبو الفضل على أبي سهل ديزويه في يوم الخميس وقبض ابن بقية على أبي الفضل يوم الأحد. فكان بينهما ثلاثة أيام واستتمّ القبض على جميع كتّابهما ومن يتصل بهما من أسبابهما وكان ذلك في سنة اثنتين وستّين وثلاثمائة.
الصلح والمصاهرة بين عضد الدولة وبين منصور بن نوح صاحب خراسان
وفي سنة إحدى وستّين وثلاثمائة وقع الصلح بين عضد الدولة وبين أبي صالح منصور بن نوح صاحب خراسان ووقعت المصاهرة فتزوج منصور بن نوح بابنة عضد الدولة ونفذ في ذلك عابد بن علي مع عشرة أنفس مختارين من الأشراف والقضاة والشيوخ المذكورين وتكلّف صاحب خراسان مؤونة عظيمة للرسل والشيوخ وحمل هدايا كثيرة لم تحمل مثلها قطّ إلى عضد الدولة وكتب بينهما كتاب اتفاق بين الجهتين وكتب فيه شهود العراق الحاضرون وشهود خراسان خطوطهم.
ابن معز الدولة يلقب عمدة الدولة
وفي سنة اثنتين وستّين وثلاثمائة خلع المطيع لله على أبي إسحاق إبراهيم بن معزّ الدولة وكنّاه ولقبه عمدة الدولة.
ذكر وقعة بين الدمستق وبين هبة الله بن ناصر الدولة
وفي هذه السنة جرت وقعة بين الدّمستق وبين هبة الله بن ناصر الدولة بناحية ميّافارقين وكانت عدة الدمستق عظيمة كثيفة لكنه اتفق أن لقيه في مضيق لا تجول فيه العساكر وكان الدمستق في أول عسكره على غير أهبة تامّة فانهزم الروم وأخذ الدمستق أسيرا وتمكن المسلمون منهم وأعزّ الله دينه وكثر القتل والأسر حتى أنفذ إلى بغداد الرءوس والأيدى وكانت كثيرة فشهرت وكانت هذه الوقعة في آخر يوم شهر رمضان سنة اثنتين وستّين وثلاثمائة وحبس أبو تغلب الدمستق إلى أن جرح به جراح عظيم فبطّ وتأدت الحال به إلى الموت بعد أن كان أحسن ضيافته واجتهد في علاجه وقدّر أن يبلغ به من ملك الروم ما يريد.
وزارة محمد بن بقية
وفي هذه السنة خلع ثاني يوم قبضه على أبي الفضل وهو يوم الاثنين السابع من ذي الحجة سنة اثنتين وستّين وثلاثمائة على محمد بن بقيّة وكان إلى هذا اليوم يقدم الطعام إليه ويحمل الغضائر بيده ويتشح بمناديل الغمر ويذوق الألوان عند تقديمه ايّاها على رسم من يخدم في المطبخ خدمته.
فلما وزر عاد يريد الخدمة في ذلك فنهاه بختيار.
وتعجّب الناس من وزارته. كان دنيّا لا يقع عينه إلّا على من كان فوقه ولا يرى نفسه إلّا دون كلّ أحد فازدادت دولة بختيار به سقوطا وإخلاقا وتضاحك صغار الناس به قربا وبعدا.
واستخلف حين وزر محمد بن أحمد الجرجرائي وناط الأمور به وبالمعروف بأبي نصر السرّاج واستقصى على أبي الفضل في المطالبة بالمال حتى تقرر أمره على مائة ألف دينار. فلمّا صحّ أكثرها سلّم إلى أبي الحسن محمد بن عمر بن يحيى العلوي الكوفي على أن يخرجه إلى الكوفة ويحبسه عنده فتسلّمه وعاش عنده مديدة وتلف فلم يشكّ أحد أنّه مات مسموما.
وقبل ذلك توفّيت زينة بنت أبي محمد المهلّبي - رحمه الله - وقد كان أخوها أبو الغنائم تقدمها وأكثر أهلها وانقرضت الجماعة ثم تبعهم جميع من اشترك في دم أبي الفضل قتلا من غير أن طال بهم الأعمار وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله.
ذكر ما دبر به ابن بقية أمره حتى تماسك مديدة
إنّه جدّ في مطالبة أبي الفضل وأسبابه من خلفائه وحجّابه وغلمانه وكل من انتسب إليه وإلى ديزويه العارض حتى استصفى أموالهم واتسع بما وصل إليه مديدة ومشت الأمور بين يديه فتبجّح بذلك وادعى حسن الأثر وتوصل إلى أن كنّاه المطيع ولقّبه الناصح فخلع عليه الخلع السلطانية بأمر بختيار وإذنه. وكثر ذمّه لأبي الفضل والطعن عليه وادّعى العدل والإنصاف فلم تمض إلّا أيام حتى ارتكب من الظلم والغشم وإثارة الفتن ما صارت أيام أبي الفضل بالقياس إلى أيّامه جارية مجرى أيام العمرين وكل ذلك لسوء نظر بختيار وإهماله الأمور وإقباله على الشهوات واستثقاله مباشرة التدبير حتى سقطت الهيبة وانبسطت العامة وأغار بعضها على بعض وظهرت الأهواء المختلفة والنيّات المتعادية وفشا القتل حتى كان لا يعدم في كل يوم عدة قتلى لا يعرف قاتلوهم وان عرفوا لم يتمكّن منهم فانقطعت مواد الأموال وخربت النواحي المتباعدة بخراب دار المملكة وظهر في كل قرية رئيس منها مستول عليها وتباغوا بينهم وحصل السلطان صفر اليد والرعية هالكون والدور خراب والأقوات معدومة والجند متهارجون.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)