فأمّا الخليفة الطائع لله فإنّه كان نافرا من بختيار للحروب التي جرت بينه وبينه ولأنّ انتصابه في الخلافة جرى على يد غيره في غير أيّامه وسكن إلى عضد الدولة وذمامه.
فلمّا اتصل به ما اختاره بختيار لنفسه من الخلع سكنت نفسه وهو حينئذ مع الأتراك وعند ألفتكين بتكريت فجرت بينه وبينهم مناظرات في الرجوع الى بغداد فسألوه الامتداد معهم إلى الشام فلم يمكن ذلك لأنّ القوم منهزمون وعلى حال اضطراب فوعدهم من نفسه إذا ثبتت أقدامهم وكان له قوة وفيهم منعة أن يحتال لهم ويعود إليهم أو يدبر لهم في الاجتماع معهم.
فاتفقوا على ذلك وانكفأ الطائع لله إلى داره ورحل الأتراك الى الشام.
عضد الدولة يأمر بعمارة دار الخلافة

وتقدم عضد الدولة بعمارة دار الخلافة وتطرئتها وتجديد فرشها وآلتها وترتيب أسباب الخدمة فيها والتزم في ذلك مالا جليلا وأخرج الجيش إليه متلقّين واستقبله بنفسه يوم الخميس لثمان خلون من رجب سنة أربع وستّين وكان أول اجتماعهما وانحدر معه في حديديّ كان أنفذه إليه ودخلا بغداد.
وكان طرح لعضد الدولة بين يديه كرسيّ وقد كان قبّل عضد الدولة الأرض له وجلس على الكرسيّ وأطافت بهما الزبازب والطيارات في الماء وسار الجيش على شاطئ دجلة ودخل الخليفة داره واستقرّ على سريره.
وأنفذ عضد الدولة إلى خزائنه مالا كثيرا وثيابا وفرشا جليلا من جميع الأصناف وعدة من الخيل والمراكب والرقيق والآلات وقرّر يده في ضياع الخدمة المرسومة بالخلفاء وقد كانت متشذبة قد تحيفها أسباب معز الدولة ثم أسباب بختيار فمنهم من تغلب على حدودها ومنهم من استقطع الخيلفة بعضها ومنهم من ضمن منها ما لم ينصفه من نفسه فيه ولم يسهل إخراج يده عنه فردّ عضد الدولة ذلك كله إلى حقّه.
فأمر الطائع لله بإنشاء الكتب عنه إلى النواحي باستقامة أحوال السلطان وتعفّى آثار الفتنة وتألف الشمل وكتبت وفرّقت في الممالك كلها.
خبر عصيان المرزبان ابن بختيار بالبصرة وعصيان ابن بقية بواسط

أما المرزبان فإنّ عضد الدولة سام بختيار أن يكاتبه بالاصعاد وكان متوليا البصرة ليرضى بما رضى به أبوه من خلوّ الذرع من تدبير الجند والرعية فكاتب وأنفذ كتابه على يد ثقة من ثقاته يعرف بعلي بن محمد الجوهري وكان صحبه من شيراز ووصّاه بموافقة محمد بن دربند وكان اسفهسلار جيش البصرة وهو قريب للحسين بن إبراهيم وهو متقدم في جيش عضد الدولة.
ولم يقع في نفس أحد أنّ المرزبان يمتنع ويحدث نفسه بالعصيان لصباه وصغر سنه ولأنّ جيشه من الديلم وهذا المدبر للجيش الذي ذكرناه يهوى هوى عضد الدولة ويرى رأيه.
فلقى علي بن محمد الجوهري في طريقه صاحب دواة لعز الدولة بختيار يقال له: عيسى بن الفضل الطبري، قد كان أصعد عن البصرة فعرّفه الصورة واستعمل في إخراج هذا الحديث إليه غير الحزم والصواب فثنى وجهه عائدا إليه إلى البصرة وسبق إلى المرزبان بالخبر فأشعره الوحشة وأعلمه أن أتاه مكرهة ولقّنه العصيان.
فلمّا ورد الجوهري على أثره البصرة بدأ بمحمد بن دربند وأوصل ما كان معه من الكتب إليه فصار به وبها إلى المرزبان وعندهما أنّه غافل فوجده مستعدا للخلاف وقبض عليهما جميعا وأظهر الخلاف وكاتب ركن الدولة بالبكاء والنوح وأعلمه ما جرى على أبيه بختيار وعمومته وأنّ جميع ما يكاتب من جهة عضد الدولة ووزيره أبي الفتح ابن العميد عن بختيار إنّما هو تمويه وأنّ الحيلة استمرت وتمت لهما على القبض على أبيه وأنّه امتنع ثقة بتداركه إياه ومعه وأنفذ قاصدين عدّة بكتب متوالية.
وكان لمحمد بن بقية خليفة بالأهواز من جنسه في الانسلاخ من صناعة الكتابة يقال له محمد بن عبدان الأهوازي. فلمّا بلغه ما جرى احتوى على ما قدر عليه من المال وأثبت عدة من الرجال وصار الى البصرة داخلا في سواد أهل العصبية فغلب على المرزبان وشحذ بصيرته في العصيان ودخل في وزارته ووعده الكفاية.
وأما محمد بن بقية فقد ذكرنا حاله في البعد من كل فضيلة وكان يتموّه أمره في أيام بختيار فأما في دولة عضد الدولة فما كان أبعده من أن يكون عريفا من عرفاء الرجالة ببابه فضلا عن أن يختلط بوزرائه وكتّابه. ولكن أظهر مساعدة كثيرة لعضد الدولة فيما كان يدبره وخدمة فيما كان يراه، وإنّما فعل ذلك حذرا على نفسه وخوفا أن يردّ الى مرتبته وعلما بأن بختيار إن عادت يده في التدبير قبض عليه وطمع فيه وعامله بما عامل به وزراءه الكفاة عند حاجته إلى المال وكره عضد الدولة أن يخلطه بوزرائه الكفاة مثل نصر بن هارون وكان معه في هذه الوقعة وهو شيخ الكتّاب قد سلّم له صناعة الحساب خاصة فينسبه الناس الى قلة المعرفة بالرجال ونقصان الرعاية لأهل السابقة والتقدم في الكفاية وكره أيضا أن يصرفه صرفا قاطعا فيكون قد خيّب ظنه وأكذب تأميله فاستوزره لابنه أبي الحسين ابن عضد الدولة وعرض عليه ما يشاء أن يتقلده من الأعمال فاختار واسطا وتكريت وعكبرا وأوانا وقاطع على هذه الأعمال ووفّر على ما كان العمال يدخلون فيه زيادة عظيمة، فأمر عضد الدولة أن يعقد عليه جميع ذلك.
واقترح ابن بقية إقرار اللقب والتكنية السلطانية ولباس القباء عليه.
فأجيب الى ذلك وخلع عليه خلعا نفيسة وحمل على دواب بمراكب ذهب وأقطع خمسمائة ألف درهم ورسم له حضور مجالس المؤانسة والمنادمة ولم ينقصه من جميع عاداته إلّا اسم الوزارة لأنّه بالحقيقة لم يكن يتولاها على رسوم الوزراء فيخاطب بها فأظهر سرورا عظيما وشكرا كثيرا ودعاء متصلا وكل ذلك على دخل وغلّ قد أضمره وانحدر الى واسط.
وقد كان عمران صاحب البطائح مستوحشا فأحبّ أن يتعلق مع تجدد ملك عضد الدولة بذمام، فأنفذ كاتبه يلتمس عهدا ومنشورا وعقدا وتقريرا، فأجيب إلى ذلك.
والتمس أبو تغلب ابن حمدان صاحب الموصل مثل ذلك وضمن حمل المال الذي كان يحمله قديما إلى بختيار فأجابه عضد الدولة الى ما سأل وأعفاه من حمل المال لمكاتبة قديمة كانت بينهما ومودة سالفة، وعقدت أعمال الأهواز على سهل بن بشر النصراني وخلع عليه فشخص إليها وكان محبوسا في يد بختيار وقد جازفه وصادره. وفرقت أعمال السواد على العمال ودبر الأمور كلّها أبو منصور نصر بن هارون.
ولم يبق في نفس عضد الدولة شيء يتعلق به نفسه إلّا انتزاع البصرة من يد المرزبان. فلمّا حصل ابن بقية بواسط خلع الطاعة وأظهر الخلاف وقبض على من ضم اليه من القواد وأظهر أنّه امتعض لصاحبه بختيار وكان هو المشير بجميع ما جرى متابعة لرأى عضد الدولة.
ثم كاتب عمران بن شاهين يستدعى منه المعاضدة ويحذّره تدابير عضد الدولة وأنّه ليس ممن يصبر له على محاورته بتلك الحال فأجابه عمران الى ما سأل.
وكاتب المرزبان ابن بختيار يلتمس منه أن يمدّه بالرجال والمال والسلاح فلم يجد عنده ما يحبّ، لتهمته بالانحراف عنه وعن أبيه وعلم أنّه يريد أن يقيم سوقا لنفسه وأحجم ابن بقية عن المصير إليه لتقلد الأهوازي وزارته فبنى أمره على أنّه متى وقع الطلب له هرب إلى عمران وقصد أعمال نهر الفضل فيتغلب عليها. وكتب إلى سهل بن بشر ما أغواه حتى استجاب له وسلك سبيل إرادته. وقد كان عضد الدولة عزم على إنفاذ عسكر الماء لفتح البصرة فلمّا عصى ابن بقية جعل همّه كله واسطا فأنفذ إليه عسكرا قويا فخرج إليه في آلات الماء فيمن أمدّه بهم عمران من رجاله.
ووردت كتب ركن الدولة على المرزبان بأن يتماسك بالبصرة وشجّعه على مقاومة عضد الدولة ووعده بالمصير إلى بغداد بنفسه لإزعاجه وتمكين بختيار وكذلك فعل في مكاتبة ابن بقية وأبي تغلب ابن حمدان فاضطربت هذه النواحي على عضد الدولة وضاق به الأمر وتجاسر عليه الأعداء من كل وجه وانقطعت عنه موادّ فارس والبحر ولم يبق في يده إلّا قصبة بغداد وتجاسرت العامة عليه وأشرف على صورة قبيحة.
فرأى أن ينفذ أبا الفتح ابن العميد إلى أبيه ركن الدولة متحملا رسالة عنه يصدقه فيها عما جرى ويعلمه فيه بعده عن ممالكه وتضييعه الأموال التي أنفقها، وأنّه قد خاطر مع ذلك بنفسه وجنده كما خاطر هو بوزيره وأكثر جنده، وأنّه قد هذّب مملكة العراق واستعاد الخلافة إلى ممالكه، وأنّ بختيار ليس ممن تستقر بنظره دولة ولا تعتدل على يده مملكة، وأنّه إن خرج عن العراق على تلك الصورة لم يبعد أن تضطرب الممالك كلها ثم لا يمكن تلافيها، ويسأله المدد والإمساك عن نصرة من تفسد على يده مملكته وممالكنا معا وقال لأبي الفتح ابن العميد:
« انظر فإن تيقظ للأمر ونجع فيه هذا القول وأشباهه فاقتصر عليه، وإن رأيته مقيما على رأيه فزد في الرسالة وقل له: إني أقاطعك على أعمال العراق وأحمل إليك عنها ثلاثين ألف ألف درهم وأنت فقير لا مال لك ولا عدة عندك لمثل هذه الحال إن عادت إليك وأنا أعجل لك من جملتها عشرة آلاف ألف درهم وأبعث بختيار وأخوته إليك لتجعلهم بالخيار فإن شاءوا أقاموا في أوساط ممالكك ومكّنتهم من أى البلدان اختاروه، وإن شاءوا أن يصيروا إلى فارس فيختاروا من أعمالها أى البلدان أحبوه إلى ذلك ووسعت عليهم في النفقات وأرغدت عيشهم في أوساط ممالكنا ولم تتركه في هذه الديار التي استضعفه أهلها وعرف جنده سيرته فيها وانّ الخلافة تخرج عن يده وأيدينا وهو يضعف عن سياسة جنده ويعتمد في التدبير على الجبايات والمصادرات وتمكين من يرتفع له في الوقت على يده مالا يقع موقعا من حاجته ثم يضطر إلى نكبته واعتماد غيره. على أنّ هذا الباب أيضا قد انسدّ ولم يبق فيه بقية مما عمله قديما وقد عرف ذلك من نفسه ولذلك استعفى من الأمر. وان أحببت أن تحضر بنفسك العراق لتلى التدبير وتكون سائس الخلافة وبيت الملك ووليت الأمر وتردّ بختيار الى الريّ فأنصرف الى فارس، كان ذلك وجها من الرأي صحيحا. » وقال لابن العميد:
« وينبغي أن تتبسط في هذا المعنى فإنّك تجد فيه مقالا واسعا فإن لان لك وعرف صواب قولك وإلّا فزد في الرسالة فصلا ثالثا تجبهه به وهو: إنّك أيّها الوالد السيد مقبول القول والرأي والحكم، ولكن لا سبيل الى إطلاق القوم بعد مكاشفتهم والقبض عليهم وإظهار العداوة لهم. فإنّهم لا يصلحون لي أبدا ولا تنقى جيوبهم ولا تصحّ نياتهم وسيقابلوننى بغاية ما يقدرون عليه فيضطرب الحبل وتنتشر كلمة أهل هذا البيت أبدا. وإن أبيت أن تقبل أحدى الخصال التي عددتها لك وخيرتك فيها وحكمت بانصرافي على هذه الجملة فإني سأضرب أعناق هؤلاء الثلاثة الأخوة - يعنى بختيار وأخويه - وأقبض على من أتهمه من حزبه وأخرج وأترك العراق شاغرة ليدبرها من اتفقت له. » فقال له أبو الفتح ابن العميد:
« هذه رسائل صعبة لا يمكنني أن أتلقى ركن الدولة بها وأنا صاحبه ومدبر أمره فإني أعرف نصرته لمن ينصره من الغرباء وتصميمه عليه وبلوغه غاية جهده فيه فكيف لبنى أخيه! ولكن الصواب أن يتقدمني إليه من يفرغ جميع ذلك في أذنه من جهتك ثم أتلوه شافعا له ومتمما ومشيرا. » فتقرر الأمر على ذلك ونفذ فيه من جهة عضد الدولة [ ونفذ فيه ] ومن جهة أبي الفتح ابن العميد أبو العباس ابن بندار وكان الأمير ركن الدولة يأنس به قديما فتوجهت الرسل وشخص ابن العميد على جمازات عددها مائة يتلوهما.
فلمّا بلغ الرسولان الأولان إلى ركن الدولة وشرعا في تأدية الرسالة وعرف الغرض الأخير منهما لم يمكنهما من إتمام الرسالة ووثب إلى الحربة التي تلى مجلسه فتناولها وهزّها وهرب الرسولان إحضارا من بين يديه.
فلمّا سكن غضبه استعادهما وقال:
« قولا لفلان - يعنى عضد الدولة وسمّاه بغير اسمه -: خرجت إلى نصرة ابن أخي أو الطمع في مملكته؟ أما عرفت أنى نصرت الحسن بن الفيروزان وهو غريب منى مرارا كثيرة أخرج فيها كلها عن ملكي وأخاطر بنفسي وأحارب وشمكير وصاحب خراسان حتى إذا ظفرت وتمكنت من البلاد سلّمتها إليه وعدت من غير أن أقبل منه ما قيمته درهم فما فوقه طلبا للذكر الجميل ومحافظة على الفتوّة؟ أتريد أن تمتنّ أنت عليّ بدرهمين انفقتهما عليّ وعلى أولاد أخي ثم تطمع في ممالكهم! » وخرج هؤلاء الرسل لا يملكون أرواحهم إشفاقا مما رأوا منه ومما ظهر من غيظه وغضبه.
ابن العميد يحجب عن دار الإمارة

وبلغ ابن العميد الريّ وهو الوزير المقرب والأمين المتمكن وعند نفسه أنّ صورته كما كانت فحجب عن دار الامارة وردّ عنها أقبح ردّ وروسل به:
« إنّك خرجت من عندنا ناصرا لبختيار ومدبرا عسكرنا وعسكر فناخسره حتى يستقيم أمر أولاد أخي ثم تأتينى الآن في صورة فيج تتحمل رسالة فناخسره فيما يهواه حتى يكون مكان أخي وأولاده ويطمع مني في أن أرخص له في القبض عليهم وإزالة نعمهم ويتهددني بالعصيان! أمّا أنت فقد عرفت أنّك اخترته عليّ وسوّلت لك نفسك وزارة العراق ونزهة دجلة! ارجع اليه على حالك فو الله لأصلبن أمّك وأهلك على باب دارك ولأبيدنّ عشيرتك ومن يتصل بك عن وجه الأرض ولأتركنّك وذلك الفاعل (يعنى ابنه) تجتهدان ثم لا أخرج إليكم إلّا بنفسي في ثلاثمائة جمّازة لا يصحبنى إلّا من عليها من الرجال ثم اثبتوا لي إن شئتم. »
وحلف ركن الدولة محلوفة:
« إني إذا بلغت بعض طريقي في قصدي إياكم لا يبقى معكم رجل واحد إلّا تلقّانى وحصل عندي وإنّه لا يتقرب بك وبعضد الدولة إلّا أخص أوليائكما وأوثق عبيدكما في أنفسكما وإنّما أتركك الآن وأنت في يدي لتعود إلى موضعك وتعيد رسالتي وكلامي وتنتظر صحة وعدي ووعيدي. » وأمرّ من هذا الكلام ما هذا جملته وإن كان أكثر من هذا وأشنع.
وكان ركن الدولة قبل هذه الحال وعند سماع حال أولاد أخيه من القبض عليهم رمى بنفسه عن سريره وأقبل يتمرّغ ويزبد ويمتنع من الأكل والشرب أياما ومرض من ذلك مرضا لم يستقل منه باقى حياته وكان يقول:
« إني أرى أخي معز الدولة متمثلا إزائى يعضّ عليّ أنامله ويقول: يا أخي هكذا ضمنت لي أن تخلفني في أهلى وولدي! ». » وكان ركن الدولة يعزّ أخاه عزّا شديدا فيراه بصورة الولد لأنّه ربّاه ومكّنه مما تمكّن منه.
وتوسط الناس بينه وبين أبي الفتح ابن العميد يشفعون له ويقولون:
« إنّه لم يرد فيما ظننته وإنما احتال في الخلاص من عضد الدولة بتحمل رسالته، وغرضه أن يجتمع معك لتدبير الأمر بما تراه و [ هو ] يضمن ضمانا يدخل في تبعته أنّه يقرر الأمر على رضاك بعد أن تسمع كلامه وتمضى له بما يعمل به في هواك. » فأذن له حينئذ وجرى بينهما خطاب طويل تقرر على أن يعود ويفرج عن بختيار وإخوته ويقرر الملك في أيديهم وينصرف كل واحد من عسكر الريّ وعسكر فارس إلى مركزه وموضعه على صورة جميلة وعلى أكثر مما يمكن أن يعمل من الحيلة في مثل هذه الحال.
فأذن له حينئذ ورجع إلى عند عضد الدولة بخلاف ما خرج وخلا به وعرّفه حقيقة الأمر وأنّه ليس ممن يطمع في إصلاحه من جهة ركن الدولة.
فلمّا رأى عضد الدولة انخراق الأمر عليه من كل وجه ونفد ما صحبه من الأموال ولم يصل إليه شيء من ممالكه اضطر إلى الخروج إلى فارس والإفراج عن بختيار وأخويه ففعل ذلك.
وتوسط ابن العميد بينه وبين بختيار وخرج من دار عضد الدولة بعد أن خلع عليه وقبل بساطه وشرط عليه أن يخلفه في تلك الأعمال ويخطب له وخلع على أبي إسحاق ابن معزّ الدولة على أن يلي أمر الجيش وذلك لما كان اعتقده الجند من ضعف بختيار وسوء تدبيره لهم وزوال هيبته مرة بعد أخرى عن قلوبهم. فلمّا خرجوا من داره وأصعدوا إلى منازلهم في طيّاره خلعوا الطاعة من غير انتظار ساعة.
واجتمع الى بختيار جيشه وعوامّ البلد والعيّارون وأثاروا الفتنة وارتفع عياطهم وصياحهم وقد كان عضد الدولة حفظ عليهم خزائنهم وجميع ما وجد لهم من الدواب والأثاث فما شذّ منها شيء حتى تسلموها كهيئتها يوم فارقوها.
وبرز عضد الدولة يوم الجمعة لخمس ليال خلون من شوال سنة أربع وستّين وثلاثمائة عن مدينة السلام قاصدا أعماله بفارس ووافق ابن العميد على المسير في أثره وألّا يقيم ببغداد بعده أكثر من ثلاثة أيام.
ذكر ما جناه أبو الفتح ابن العميد على نفسه وميله الى الهوى واللعب حتى تأدى أمره إلى الهلاك

لما خرج عضد الدولة إلى فارس طابت بغداد لأبي الفتح ابن العميد وأحب الخلاعة والدخول مع بختيار في أفانين لهوه ولعبه ووجد خلوّ ذرع من أشغاله وراحة من تدبير أمر صاحبه ركن الدولة مدة وحصلت له زبازب ودور على الشط وستّارات غناء محسنات وتمكن من اللذات.
وعرف بختيار له ما صنع من الجميل في بابه وأنّه خلصه من مخاليب السبع بعد أن افترسه وأن سعيه بين ركن الدولة وبينه هو الذي ردّ عليه روحه وملكه فبسطه وعرض عليه وزارته وتمكينه من ممالكه على رسمه وألّا يعارضه في شيء يدبره ويراه فلم يجبه إلى ذلك وقال:
« لي والدة وأهل وولد ونعمة قد ربّيت منذ خمسين سنة وهي كلها في يد ركن الدولة ولا أستطيع مفارقته ولا يحسن بي أن يتحدث عنى بمخالفته ولا يتم أيضا لك ذلك مع ما عاملك به من الجميل ولكنى أعاهدك إذا قضى الله على ركن الدولة ما هو قاض على جميع خلقه أن أصير إليك مع قطعة عظيمة من عسكره فإنّهم لا يخالفوننى وركن الدولة مع ذلك هامة اليوم أوغد وليس يتأخر أمره. » واستقر بينهما ذلك سرا لا يطّلع عليه إلّا محمد بن عمر العلوي فإنّه توسط بينهما وأخذ عهد كل واحد منهما على صاحبه ولم يظهر ذلك لأحد حتى حدثني به محمد بن عمر بعد هلاك أبي الفتح ابن العميد.
ولكن الغلط القبيح من أبي الفتح كان أنّه أقام مدة طويلة ببغداد وطمع في أملاك اقتناها هناك وإقطاعات حصّلها وأصول أصّلها على العود إليها. ثم التمس لقبا من السلطان وخلعا وأحوالا لا تشبه ما فارقه عليه عضد الدولة ثم استخلف ببغداد بعض أولاد التنّاء بشيراز يعرف بأبي الحسين ابن أبي شجاع الأرجانى من غير اختبار له ولا خلطة قديمة تكشف له أمره فلمّا خرج كانت تلك الأسرار التي بينه وبين بختيار والتراجم بينهما تدور كلها على يده ويتوسطها ويهدى إلى عضد الدولة جميعها ويتقرب إليه بها.
فلمّا عرف عضد الدولة حقيقة الأمر ومخالفة أبي الفتح ابن العميد له ودخوله مع بختيار فيما دخل فيه مع اللقب السلطاني الذي حصّله وهو ذو الكفايتين ولبسه الخلع وركوبه ببغداد مع ابن بقية في هذه الخلع عرف مكاشفته إياه بالعداوة وكتم ذلك في نفسه إلى أن تمكن منه فأهلكه كما سنذكره في موضعه إن شاء الله.