كان حمدان بن ناصر الدولة خرج معه وسار بمسيره فلمّا صار إلى عكبرا ذكّره أمر نفسه ووعده بأموال ابني ناصر الدولة وما جمعه في القلاع وما خلّفه لهم ناصر الدولة وكان بالحقيقة كثيرا جدا وزعم أنّه لا يلابس مملكة هي أسهل شوكة من مملكة أبي تغلب وأنّه يتولى حربه ويثق بمصير خلق من رجاله إليه وكذلك من إخوته وأسبابه. فعاهد حمدان على أنّه يمنعه من جميع ما يمنع نفسه ذبّا وحماية وحلف له بأيمان البيعة وجرت بينهما شروط والتزماها ودخلا فيها.
فلمّا صار بتكريت صار إليه عليّ بن عمرو كاتب أبي تغلب بهدايا يسيرة وأنزال من قضيم وطعام وسار معه إلى الحديثة وخلا به ودعاه إلى القبض على حمدان وتسليمه إلى أبي تغلب على أن يجتمع معه وينفق أمواله ويبذل سلاحه وآلاته وذخائره وعسكره ورجاله ويعود معه إلى بغداد ويستخلص له ملكه من يد عضد الدولة.
فالتوى بختيار واضطرب وذكر أنّه لا يستجيز ذلك مع ما حصل لحمدان في عنقه من اليمين الغموس ومع ما عليه من عهد عضد الدولة فلم يزل يعاوده ويستعين عليه بوالدته وأخيه أبي إسحاق وحاجبه إبراهيم بن إسماعيل وبجماعة من استولى عليه من أسبابه.
واستولى كاتب أبي تغلب هذا أعنى أبا الحسن عليّ بن عمرو على بختيار وتسمّى بالوزارة وجمع لنفسه كتابة بختيار مع كتابة أبي تغلب واستخلف عليه ابنه. واجتهد في أمر حمدان وإسلامه وذلك أنّ أبا تغلب وأخته المسماة جميلة كانا طالبين عنده بثأر أخيهما أبي البركات.
وأقام بختيار على الامتناع إلى أن صار أبو إسحاق إلى الموصل واجتمع مع أبي تغلب وتقرر الأمر بينهما على القبض على حمدان من حيث لا يدخل بختيار في ذلك لئلا يحنث في يمينه فرجع إلى الحديثة.
وعسف بختيار في المخاطبة وأعلمه أنّه متى لم يفعل ذلك قصده أبو تغلب وحاربه ولم يقاومه وأنّه إن ساعده صافاه وواخاه وأعاده إلى بغداد وأنفق أمواله وذخائره واستدعى الرجال إلى ذلك من كل وجه مع ما عنده من الاستقلال بعسكره ورجاله.
فضعف بختيار في يده على رسمه في ضعف العزيمة ولين العريكة فقبض على حمدان وأسلم إلى خصومه وحبس في قلعة وهرب ابنه المكنى أبا السرايا إلى عضد الدولة.
وجمع أبو تغلب الرجال وفتح قلاعه واجتهد وبالغ واجتمع مع بختيار على ظهور الدواب فتحالفا وتعاهدا. فلمّا فرغا من الاستعداد انحدرا من الموصل وكانت عدّة أصناف الرجال معهما خمسة وعشرين ألف رجل.
وبلغ عضد الدولة أخبار الجماعة ولم يكن ممن تخفى عليه أمور أعدائه وأوليائه يوما بيوم، فبرز عن مدينة السلام في جيوشه المنصورة وقدّم مقدّمته مع أبي القاسم سعد بن محمد الحاجب إلى تكريت. وكان أولئك أنفذوا إليها جيشا مع إبراهيم بن إسماعيل حاجب بختيار فأوقع به أبو القاسم وقتل كثيرا من رجاله وكاد إبراهيم يؤخذ أسيرا إلّا أنّه نجا إلى تكريت واستتر عند بعض أهلها ثم هرب منها ولحق بأصحابه.
وفي هذا الوقت قتل ابن بقية وصلب ببغداد
ذكر الحال في ذلك
كان حمل مسمولا على ما ذكرناه إلى عضد الدولة عند نزوله بالزعفرانية فتقدّم بأن يشهر في العسكر على جمل ثم طولب بالمال فلم يذعن بشيء منه فطرح بحضرة العسكر بباب حرب الى الفيلة وأضريت عليه فقتلته شر قتلة وصلب لوقته على شاطئ دجلة في رأس الجسر بالجانب الشرقي وذلك في يوم الجمعة لست خلون من شوال سنة سبع وستّين وثلاثمائة، ثم نقل إلى الجانب الغربي فصلب بإزاء ذلك الموضع من الشرقي وبقي فيه.
وعاد الحديث إلى تمام خبر الوقعة بين بختيار ومن جمع وبين عضد الدولة بقصر الجص اتصل بعضد الدولة أنّ القوم أجمعوا على أنّ يتفرقوا بعد عبور النهر المعروف بالإسحاقى ويأخذوا في عدّة وجوه إلى بغداد فسار بجميع عساكره إلى قصر الجصّ حتى نزل فوق الغاية التي عزموا على أن يتفرقوا منها وذلك بعد أن استخلف وزيره أبا القاسم المطهر بن عبد الله في جيش كثيف ببغداد والتقى القوم غداة يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شوال واشتدّت الحرب وثبت القوم بعضهم لبعض وتصابر الفريقان من الديلم فحمل عضد الدولة حملة صادقة فانهزموا وتبعهم الجند يقتلون ويأسرون وقد كان بختيار عمل على الهزيمة فمنعه أصحابه وخاف من الحصول في الأسر أو القتل، فلمّا تحققت الهزيمة ظفر به بعض الأكراد من العسكر فأخذ سلبه وهو لا يعرفه ثم عرفه غلام تركي يقال له: ارسلان كورموش، فضربه بلتّ وأراد أن يثنّى عليه فتعرّف إليه باسمه واستأسر له وقال:
« احملنى إلى حضرة ابن عمى وخذ جائزتك. » ولحقه في الحال تركي آخر فحملاه إلى القرب واستأذناه فتوقف، وكان أبو الوفاء طاهر بن إبراهيم حاضرا فأشار بالفراغ منه فلم تطب نفس عضد الدولة به ولحقته دهشة وأراد استبقاءه فألحّ عليه أبو الوفاء وقال:
« ما تنتظر به أن يعود ثالثا وإلى متى يثير علينا هذه الفتن التي لعلنا نكون من صرعاه في بعضها افرغ منه! » وعلا صوته وأظهر من النصيحة في هذه الباب والمراجعة الشديدة ما لو قصّر فيه لجاز.
فرفع عضد الدولة [ يده ] إلى عينه يمسحها من الدموع وقال:
« أنتم أعلم. » وكان هناك أبو القاسم سعد الحاجب حاضرا فبادر إليه مع صاحب له واحتزّ رأسه وكان قد جهده العطش حتى كاد يأتى عليه الموت لو ترك لحظة.
وقتل في هذه الوقعة خلق كثير من القواد والأمراء ومن واساه بنفسه وفيهم إبراهيم بن إسماعيل صاحبه وحاجبه وأسر خلق كثير سوى من قتل.
ولحقت أبا تغلب ضربة في منهزمه ولم يكن باشر الحرب بل طلب تلعة بالقرب فوقف عليها وكان دبّر عسكره بأن يقفوا كراديس. فكلما حمل منها كردوس وأبلى وتعب، عاد وحمل كردوس آخر، وغرّه كثرة القوم وكان بختيار عبّى خيله تعبئة الديلم ليلقى بنفسه ويباشر الحرب وتلحقه المعونة من كل وجه فجرى الأمر على ما ذكرت.
أمر عجيب
ومن عجيب ما جرى قبل ذلك أنّ أحد الأمراء من عسكر بختيار يعرف بالحسن بن فيلسار أشار عليه وهو ببغداد ألّا يخرج عنها ولا يسلمها إلّا بحرب وإبلاء كثير، فأبى عليه بختيار فاعتزله وشخص الى جسر النهروان مع طائفة كانوا يرون رأيه. فلمّا اجتمعوا هناك عقدوا له الرئاسة على أنفسهم وحدّث نفسه بالمسير إلى جهة شعبانا أو طرف من الأطراف. فبلغ عضد الدولة خبره فلما بلغ إلى القرب من بغداد جرّد خلفه خيلا فلحقوه ووقف للحرب فانجلت عنه أسيرا وبه ضربات فلبث يسيرا ومات وأسر كثير من أصحابه وانفضّ ذلك الجمع.
عضد الدولة يتمم المسير إلى الموصل
فأمّا عضد الدولة فإنّه لمّا فرغ من وقعة قصر الجص تمم المسير إلى الموصل فملكها وسائر ما يتصل بها من الأعمال والديار وظن أبو تغلب أنّه يلبث فيها يسيرا ثم يضطر إلى العود إلى بغداد على سيرة من كان قبله.
وذلك أنّ رسم الحمدانية إذا ضعفوا عن مقاومة من يقصدهم أن ينقلوا الغلّات والميرة وسائر الأموال والذخائر إلى قلاعهم، وينقلون الكتّاب والدواوين أيضا إليها ويخرجون في أصحابهم إلى حول الموصل متفرقين في أعمالها فإذا حصل بالموصل عدوّهم المتغلب عليهم لم يجد بها شيئا غير ما عند الرعية فيضطرون إلى العلوفات والمير ويخرج من يخرج في طلبهم وينقضّون عليهم من أمكنة غريبة وطرق لا يعرفها الغرباء من العساكر فيأخذون بغالهم وجمالهم ويقتلون ويأسرون من يمانعهم، فإذا صبروا على ذلك أياما يسيرة وجهدوا ولم يجدوا حيلة ولا معينا من كاتب بلديّ ولا غيره طلبوا الصلح وقاربوهم للضرورة التي ذكرتها وانصرفوا عنه فيعودون إلى ممالكهم.
ولم يكن عضد الدولة ممن يسلك هذه السبيل بل احتاط ونقل من الميرة والعلوفة والأزواد ما تمكن منه وحمل من رجال الموصل وكتّابها الموجودين ببغداد وبتكريت وسائر الأطراف من يرشد ويخدم وكذلك كتاب بغداد كان فيهم من أقام بالموصل وعرف وجوه الأعمال فصبر وأقام إلى أن صار أبو تغلب إلى الشام بعد نوائب نابته وقتل هناك كما سنشرح أمره إن شاء الله.
خروج الطائع لله مع عضد الدولة لمشاهدة الحرب
وفي هذه السنة خرج الطائع لله مع عضد الدولة لمشاهدة الحرب بينه وبين أولئك الذين قدّمنا ذكرهم أعنى بختيار وأبا تغلب وكان بروز عضد الدولة إلى معسكره بباب حرب من أعلى الجانب الغربي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شوال سنة سبع وستّين، وبرز الطائع لله يوم الخميس لخمس خلون منه. فلمّا انهزم بختيار وأبو تغلب من الوقعة بحضرة قصر الجص عاد الطائع لله إلى منزله ببغداد وسار عضد الدولة كما ذكرنا فيما قبل إلى الموصل. فنزل بظاهرها يوم الأربعاء العاشر من ذي القعدة ودخل الدار يوم الجمعة الثاني عشر.
أبو تغلب يلتمس الصلح
وترددت الرسل من أبي تغلب إلى عضد الدولة في التماس الصلح وحمل مال فامتنع عضد الدولة وقال:
« إنّا إذا ملكنا ناحية بالسيف وبعد الحرب والمقارعة لم نصالح عليها. » وتشدد في ذلك حتى صرح لرسله بأنّ الموصل وديار ربيعة أحبّ إليه من العراق وأنّه ليس يبيعها أبدا.
وكانت الموصل وأكثر أعمالها ملكا لأبي محمد ناصر الدولة وكان رسمه أن يضايق أصحاب المعاملات من التّناء وأصحاب العقار من أهل البلد ويخاشنهم ويتأول عليهم حتى يلجئهم إلى البيع ويشترى أملاكهم بأوكس الأثمان وطالت حياته وامتدت أيامه حتى استولى على الناحية ملكا وملكا.
فلما صار جميع ذلك في قبض عضد الدولة لم يفرج عنها وطلب أبو تغلب وأسريت إليه السرايا فلم يمكنه المطاولة ولا أن يسير بسيرته التي حكيناها فيما تقدم، فسار إلى نصيبين وسيّر عضد الدولة خلفه أبا الوفاء طاهر بن محمد على طريق سنجار.
كان في جملة من انهزم معه المرزبان بن بختيار ووالدة بختيار وابناها أخوا بختيار ومن أفلت من وقعة قصر الجصّ. فلمّا لحقهم أبو الوفاء نهضوا منهزمين إلى ميافارقين ثم افترقوا.
فأمّا والدة بختيار وأخواه وابنه ومن نهض معهم من أسبابهم وبقية الديلم والأتراك المرسومين بهم فإنّهم ساروا إلى دمشق لائذين بألفتكين المعزى وهو الذي حارب عضد الدولة بديالى وانهزم من بين يديه. فلمّا بلغه مسير أولاد مولاه وحرمه وأسبابه إليه تلقّاهم وقضى حقوقهم، وظنّ أنّه يتكثر بهم ويزيد في عدته بمكانهم ويتقوى بهم، فجرى الأمر بالضد وذاك أنّه لما انهزم من العراق إلى دمشق وتغلّب عليها تماسك فيها نحو أربع سنين ودفع جيش المغرب عنها وثبت لعساكر صاحب مصر التي جهّزها إليه واستولى استيلاء قويا وهابه العرب وطار اسمه هناك. فلمّا صار إليه هؤلاء المنهزمون قصدته عساكر مصر على الرسم متضاعفة على العدة التي تقدمت، فسار إليها إلى الرملة ومعه الجماعة للحرب والمقارعة فحين توافت الفرقتان استأمن المرزبان بن بختيار فظهرت المغاربة على ألفتكين وكثروه بعددهم فانهزم وقتل أبو طاهر ابن معزّ الدولة واستأمن أبو إسحاق بن معزّ الدولة في آخر الأمر. ووقع الطلب على ألفتكين فلحقه المفرج بن دغفل بن الجرّاح الطائي وجاء به أسيرا.
وكان صاحب مصر عرف منه ومن الأتراك الذين معه على طول الممارسة بأسا وشدّة فأبقى عليهم وعليه وأحسن إليه وإليهم واتخذهم عدّة وصاحبه ثم اشترى منه ولاءه وصار كالعبد له وحصل أصحابه محصل الجند وأحسن إليهم.
وأمّا أبو تغلب فإنّه أقام بميّافارقين ومعه أخته جميلة وكانت وحدها شريكة له في الأمر والنهى وسائر أخواته الباقيات وحرمه وعياله معه. فلمّا بلغه مسير أبي الوفاء إليه قدّم الحرم والعيال والأموال والسواد إلى حصن بدليس وتوجه بنفسه لاحقا بأسبابه ووصل أبو الوفاء إلى ميّافارقين وهي مغلقة دونه ولها سور وثيق من حجارة سود لا يعمل فيها الحديد وهي من حصون الروم وأبنيتهم القديمة فطواها أبو الوفاء طالبا أبا تغلب وانتهى أبو تغلب إلى أرزن ونزل على نهر يعرف بخويبور ثم عدل من هناك إلى ناحية الحسنية ووصل الى قلاعه واستنزل منها مالا على سبيل المخالسة، فعاد الشيخ أبو الوفاء الى ميافارقين لمنازلتها وافتتاحها.
واتصل بعضد الدولة مخالفة أبي تغلب إلى قلاعه وأخذه ما أخذ منها فنهض من الموصل بنفسه وهرب أبو تغلب من بين يديه وفارقه جمهور عسكره وأعيان رجاله مستأمنين إلى عضد الدولة منهم بختكين آزاذرويه وبقايا الغلمان المعزيّة والغلمان السيفية فعاد إلى الموصل وقد ترك أبا تغلب مسلوب القوة والعدّة.
وسلك أبو تغلب في هزيمته هذه طريق الجزيرة فجرّد عضد الدولة في أثره أبا حرب طغان الحاجب وأمره باتباعه ومناجزته فتنكب أبو تغلب الطريق وتعسف الرجوع إلى بدليس وظنّ أنّه لا يتتبّع فكوتب طغان باتباعه وجرّد أبو سعد بهرام بن أردشير في عسكر مددا له فسار خلفه فهرب من بدليس ودخل بلاد الروم قاصدا ملك الروم المعروف بورد الرومي وهذا رجل تملّك على الروم ثم اختلف الجيش عليه بقسطنطينية ونصبوا أخوين من أولاد ملوكهم وافترقت كلمة الروم وطالت الحرب والمنازعات بين الفريقين وكان ورد هذا قد صاهر أبا تغلب وواصله واعتضد به على خصومه فانعكست الحال بأن صار أبو تغلب هو اللاجئ إليه.
واتفق لأبي تغلب أن كان مسيره في مضايق بين جبال ولحقه عسكر عضد الدولة هناك.
ذكر غلط اتفق بجناية جناها أبو سعد بهرام على العسكر حتى كسر وهزم بعد التمكن من أسر أبي تغلب والظفر به وبمن معه
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)