قال: (وأخرج ابن ماجه عن عبد الله بن أبي ليلى قال: «قلت لزيد بن أرقم: حدثنا عن رسول الله قال: كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله شديد». أقول: أحاديث زيد موجودة في الكتب، وقد قدمنا أنهم كانوا لا يحبون أن يحدثوا بدون حضور حاجة، ويتأكد ذلك عند خشية الخطأ - وانتظر.
قال: (وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله ص كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي عنه شيئًا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة) قال أبو رية: (ولو أنك تصفحت البخاري ومسلم لما وجدت فيهما حديثًا واحدًا لأمين هذه الأمة أبي عبيدة عامر بن [عبد الله بن] الجراح. وليس فيهما كذلك حديث لعتبة بن غزوان وأبي كبشة مولى رسول الله وكثيرين غيرهم) ثم قال أبو رية: (كان الخلفاء الراشدون وكبار الصحابة وأهل الفتيا منهم كما علمت يتقون كثرة الأحاديث عن النبي ص، بل كانوا يرغبون عن روايته إذ كانوا يعلمون أن النبي ص قد نهى عن كتابة حديثه، وأنهم إذا حدثوا عنه قد لا يستطيعون أن يؤدوا كل ما سمعوه… على وجهه الصحيح؛ لأن الذاكرة لا يمكن أن تضبط كل ما تسمع وما تحفظه مما تسمعه لا يمكن أن يبقى فيها على أصله… ما كانوا ليرضوا بما رضي به بعضهم ومن جاء بعدهم من رواية الحديث بالمعنى؛ لأنهم كانوا يعلمون أن تغيير اللفظ قد يغير المعنى، وكلام الرسول ص ليس كغيره إذ كل لفظة من كلامه ص يكمن وراءها معنى يقصده).
أقول: كان الصحابة يفتون، وكل من طالت صحبته فبلغت سنة فأكثر فهو من العلماء، وإن كان بعضهم أعلم من بعض، وقد قال الشافعي في الأم (7: 244): «أصحاب النبي ص كلهم ممن له أن يقول في العلم) وتبليغ الأحاديث فرض كفاية كالفتوى، فأما الصديق فقل حديثه وفتواه؛ لأنه اشتغل بالخلافة حتى مات بعد سنتين وأشهر، وكان يكفيه غيره الفتوى والتحديث. وأما أبو عبيدة فشغل بفتح الشام حتى مات سنة 18 وكان معه في الجيش كثير من الصحابة كمعاذ بن جبل وغيره يكفونه الفتيا والتحديث. وقد جاءت عنه عدة أحاديث لم يتفق أن يكون منها ماهو على شرط الشيخين مما احتاجا إليه. وأما الزبير والعباس فكانا مشتغلين بمزارعهما غير منبسطين لعامة الناس، فاكتفى الناس غالبًا ببقية الصحابة وهم كثير. وأما سعيد بن زيد
43
فكان منقبضًا مقبلًا على العبادة. وأما عتبة بن غزوان فحاله كحال أبي عبيدة بقي في الجهاد والفتوح حتى مات سنة 17، وأما أبو كبشة فقديم الموت، توفي يوم مات أبو بكر أو بعده بيوم. وكما قلّت أحاديث هؤلاء قلت فتاواهم، مع العلم بأن الفتوى فرض كفاية، وأنه إذا لم يوجد إلا مفتٍ واحد والقضية واقعة تعينت عليه، وكما كانوا يتقون الفتوى في القضايا التي ليست واقعة حيننئذ حتى روي عن عمر أنه لعن من يسأل عما لم يكن. وأنه قال وهو على المنبر: وأحرج بالله على من سأل عما لم يكن، فإن الله قد بين ما هو كائن» أخرجهما الدارمي وغيره. وروي أنهم كانوا يتدافعون الفتوى، كل واحد يود أن يكفيه غيره، فكذلك كان شأنهم في التحديث حين كان الصحابة متوافرين، وعامة من تقدم أنه قليل الحديث أو أنه سئل أن يحدث فامتنع، قد ثبتت عنهم أحاديث بين مكثر ومقل، وذلك يبين قطعًا أن قلة حديثهم إنما كانت لما تقدم. ويوضح ذلك أنه لم يأت عن أحد منهم ما يؤخذ منه أنه امتنع من التحديث بحديث عنده مع حضور الحاجة إليه وعدم كفاية غيره له. إنك لا تجد بهذا المعنى حرفًا واحدًا، فاختيارهم أن لا يحدثوا إلا عند حضور الحاجة إلى تحديثهم خاصة هو السبب الوحيد لاتقاء الإكثار ولما يصح في الجملة من الرغبة عن الرواية، أما النهي عن الكتابة فقد فرغنا منه البتة فيما تقدم (ص22)، وأما خشية الخطأ فهذا من البواعث على تحري أن لا يحدثوا إلا عند الحاجة. راجع (ص31) قوله: إن ما وعته الذاكرة (لا يمكن أن يبقى فيها على أصله) إن أراد بذلك ألفاظ الأحاديث القولية فليس كما قال، بل يمكن أن يبقى بعض ذلك، بل قوله: إن (الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة وأهل الفتيا… لم يكونوا ليرضوا بما رضي به بعضهم… من رواية الحديث بالمعنى) اعتراف منه بأن ما ثبت عن هؤلاء روايته من الأحاديث القولية قد رووه بلفظ النبي ص على وجهه الصحيح. وإن أراد الأحاديث الفعلية ومعاني القولية فباطل، بل يبقى فيها الكثير من ذلك كما لا يخفى على أحد. قوله: (إن تغيير اللفظ قد يغير المعنى) قلنا: قد، ولكن الغالب فيمن ضبط المعنى ضبطًا يثق به أنه لا يغير. قوله: (كل لفظة من كلامه ص يكمن وراءها معنى يقصده) أقول: نعوذ بالله من غلو يتذرع به إلى جحود، «كان ص يكلم الناس ليفهموا عنه، فكان يتحرى إفهامهم، إن كان ليحدث الحديث لو شاء العاد أن يحصيه أحصاه» كما في سنن أبي داود عن عائشة، وأصله في الصحيحين. «وكان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تفهم» كما في صحيح البخاري عن أنس. ويقال لأبي رية: أمفهومة كانت
44
تلك المقاصد الكامنة وراء كل لفظة للصحابة، أم لا؟ إن كانت مفهومة لهم أمكنهم أن يؤدوها بغير تلك الألفاظ. وإلا فكيف يخاطبون بما لا يفهمونه؟ فأما حديث: «فرب مبلغ أوعى من سامع» فإنما يتفق في قليل كما تفيد كلمة (رب)، وذلك كأن يكون الصحابي ممن قرب عهده بالإسلام ولم يكن عنده علم فيؤديه إلى عالم يفهمه على وجهه، والغالب أن الصحابة أفهم لكلام النبي ص ممن بعدهم.
تشديد الصحابة في قبول الأخبار