قراءتهم، بأن يجتمع فيها الأمران: النقل الثابت بالسماع من النبي ، واحتمال رسم المصاحف العثمانية. وبذلك خرجت من القراءات الصحيحة تلك التغييرات التي كان يترخص بها بعض الناس وبقي من الأحرف الستة المخالفة للحرف الأصلي ما احتمله الرسم53ولعله غالبها إن لم يكن جميعها مع أنه وقع اختلاف يسير بين المصاحف العثمانية، وكأنه تبعًا للقطع التي كتب فيها القرآن بحضرة النبي ، كأن توجد الآية في قطعتين كتبت الكلمة في إحداهما بوجه وفي الأخرى بالآخر، فبقي هذا الاختلاف في القراءات الصحيحة. ونخرج مما تقدم بنتيجتين:
الأولى: أن حفظ الصدور لم يكن كما يصوره أبو رية بل قد اعتمد عليه في القرآن وبقي الاعتماد عليه وحده بعد حفظ الله عز وجل في عهد النبي وعمر وسنين من عهد عثمان؛ لأن تلك القطع التي كتب فيها في عهد النبي كانت مفرقة عند بعض أصحابه لا يعرفها إلا من هي عنده، وسائر الناس غيره يعتمدون على حفظهم، ثم لما جمعت في عهد أبي بكر لم تنشر هي ولا الصحف التي كتبت عنها، بل بقيت عند أبي بكر، ثم عند عمر، ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين حتى طلبها عثمان، ثم اعتمد عليه في عامة المواضع التي يحتمل فيها الرسم وجهين أو أكثر، واستمر الاعتماد عليه حين استقر تدوين القراءات الصحيحة.
النتيجة الثانية: أن حال الأميين قد اقتضت الترخيص لهم في الجملة في القراءة بالمعنى، وإذا كان ذلك في القرآن مع أن ألفاظه مقصودة لذاتها؛ لأنه كلام رب العالمين بلفظه ومعناه، معجز بلفظه ومعناه، متعبد بتلاوته، فما بالك بالأحاديث التي مدار المقصود الديني فيها على معانيها فقط؟
وإذا علمنا ما تقدم أول هذا الفصل من التيسير مع ما تقدم (ص20، 21، 32) وعلمنا ما دلت عليه القواطع أن النبي ص مبين لكتاب الله ودينه بقوله وفعله، وأن كل ما كان منه مما فيه بيان للدين فهو خالد بخلود الدين إلى يوم القيامة، وأن الصحابة مأمورون بتبليغ ذلك في حياة النبي ص وبعد وفاته (راجع ص12، 36، 45، 49) وأن النبي ص لم يأمرهم بكتابة الأحاديث وأقرهم على عدم كتابتها، بل قيل: إنه نهاهم عن كتابتها كما مر بما فيه، ومع ذلك كان يأمرهم بالتبليغ لما علموه وفهموه، وعلمنا أن عادة الناس قاطبة فيمن يلقى إليه كلام المقصود منه معناه ويؤمر بتبليغه أنه إذا لم يحفظ لفظه على وجهه وقد ضبط معناه لزمه أن يبلغه بمعناه ولا يعد كاذبًا ولا شبه كاذب، علمنا يقينًا أن الصحابة إنما أمروا بالتبليغ على ماجرت به العادة: من بقي منهم حافظًا على وجهه فليؤده كذلك، ومن بقي ضابطًا للمعنى ولم يبق ضابطًا للفظ فليؤده بالمعنى. هذا أمر يقيني لا ريب فيه، وعلى ذلك جرى عملهم في حياة النبي وبعد وفاته.
فقول أبي رية: (لما رأى بعض الصحابة.. استباحوا لأنفسهم) إن أراد أنهم لم يؤمروا بالتبليغ ولم يبح لهم أن يرووا بالمعنى إذا كانوا ضابطين له دون اللفظ، فهذا كذب عليهم وعلى الشرع54والعقل كما يعلم ما مر. وتشديده ص في الكذب عليه إنما المراد به الكذب في المعاني، فإن الناس يبعثون رسلهم ونوابهم ويأمرونهم بالتبليغ عنهم. فإذا لم يشترط عليهم المحافظة على الألفاظ فبلغوا المعنى فقد صدقوا، ولو قلت لابنك: اذهب فقل للكاتب: أبي يدعوك. فذهب وقال له: والدي -أو الوالد- يدعوك، أو يطلب مجيئك إليه، أو أمرني أن أدعوك له، لكان مطيعًا صادقًا، ولو اطلعت بعد ذلك على ما قال فزعمت أنه عصى أو كذب وأردت أن تعاقبه لأنكر العقلاء عليك ذلك. وقد قص الله عز وجل في القرآن كثيرًا من أقوال خلقه بغير ألفاظهم؛ لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحد المعجز، ومنه ما يكون عن لسان أعجمي، ومنه ما يأتي في مواضع بألفاظ وفي آخر بغيرها، وقد تتعدد الصور كما في قصة موسى، ويطول في موضع ويختصر في آخر. فبالنظر إلى أداء المعنى كرر النبي ص بيان شدة الكذب عليه، وبالنظر إلى أداء اللفظ اقتصر على الترغيب فقال: «نصر الله امرءًا سمع منا شيئًا فأداه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع» جاء بهذا اللفظ أو معناه مطولًا ومختصرًا من حديث ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأنس، وجبير بن مطعم، وعائشة، وسعد، وابن عمر، وأبي هريرة، وعمير بن قتادة، ومعاذ بن جبل، والنعمان بن بشير، وزيد بن خالد، وعبادة بن الصامت، منها الصحيح وغيره. وكان النبي ص يتحرى معونتهم على الحفظ والفهم كما مر (ص43).
واعلم أن الأحاديث الصحيحة ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار عن أفعال النبي ص وهي كثيرة. ومنها ما أصله قولي، ولكن الصحابي لا يذكر القول بل يقول: أمرنا النبي ص بكذا، أو نهانا عن كذا، أو قضى بكذا، أو أذن في كذا.. وأشباه هذا. وهذا كثير أيضًا. وهذان الضربان ليسا محل نزاع، والكلام في مايقول الصحابي فيه: قال رسول الله كيت وكيت، أو نحو ذلك. ومن تتبع هذا في الأحاديث التي يرويها صحابيان أو أكثر ووقع اختلاف فإنما هو في بعض الألفاظ، وهذا يبين أن الصحابة لم يكونوا إذا حكوا قوله ص يهملون ألفاظه البتة، لكن منهم من يحاول أن يؤديها فيقع له تقديم وتأخير أو إبدال الكلمة بمرادفها ونحو ذلك. ومع هذا فقد عرف جماعة من الصحابة كانوا يتحرون ضبط الألفاظ، وتقدم (ص42) قول أبي رية: إن الخلفاء الأربعة وكبار الصحابة وأهل الفتيا لم يكونوا ليرضوا أن يرووا بالمعنى. وكان ابن عمر ممن شدد في ذلك، وقد آتاهم الله من جودة الحفظ ما آتاهم. وقصة ابن عباس مع عمر بن أبي ربيعة مشهورة. ويأتي في ترجمة أبي هريرة ما ستراه، فعلى هذا ما كان من أحاديث المشهورين بالتحفظ فهو بلفظ النبي ، وما كان من حديث غيرهم فالظاهر ذلك؛ لأنهم كلهم كانوا يتحرون ما أمكنهم، ويبقى النظر في تصرف من بعدهم.
55الحديث ورواته ونقد الأئمة للرواة
قال أبو رية: (ثم سار على سبيلهم كل من جاء من الرواة بعدهم. فيتلقى المتأخر عن المتقدم ما يرويه عن الرسول بالمعنى، ثم يؤديه إلى غيره بما استطاع أن يمسكه ذهنه منه).
أقول: هذه حكاية من يأخذ الكلمات من هنا وهناك، ويقيس بذهنه بدون خبرة بالواقع، فإن كثيرًا من الأحاديث الصحيحة إن لم نقل غالبها يأتي الحديث منها عن صحابيين فأكثر، وكثيرًا ما يتعدد الرواة عن الصحابي ثم عن التابعي، وهلم جرا.
فأما الصحابة فقد تقدم حالهم.
وأما التابعون فقد يتحفظون الحديث كما يتحفظون القرآن كما جاء عن قتادة أنه (كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل حتى يحفظه) هذا مع قوة حفظه، ذكروا أن صحيفة جابر على كبرها قرئت عليه مرة واحدة -وكان أعمى- فحفظها بحروفها، حتى قرأ مرة سورة البقرة فلم يخطئ حرفًا ثم قال: «لأنا صحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة». وكان غالبهم يكتبون ثم يتحفظون ما كتبوه، ثم منهم من يبقي كتبه -راجع (ص28)- ومنهم من إذا أتقن المكتوب حفظًا محا الكتاب، وهؤلاء ونفر لم يكونوا يكتبون، غالبهم ممن رزقوا جودة الحفظ وقوة الذاكرة كالشعبي والزهري وقتادة. وقد عرف منهم جماعة بالتزام رواية الحديث بتمام لفظه كالقاسم بن محمد بن أبي بكر ومحمد بن سيرين ورجاء بن حيوة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 14 (0 من الأعضاء و 14 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)