أقول: قد سرّح عمر من المدينة إلى العراق نصر بن حجاج لغير ذنب إلا أنه كان بارع الجمال وكان بالمدينة كثير من النساء يغيب أزواجهن في الجهاد وقد ذكرت إحداهن نصرًا في شعر لها، وجلد عمر صبيغ بن عسل ونفاه إلى العراق وكتب أن لا يجالسه أحد، لأمر واحد وهو أنه يكثر من السؤال عن كلمات من القرآن لا تتعلق بالأحكام؛ ونصر سلمي وصبيغ تميمي لم يكن لهما عرق في يهودية ولا نصرانية. وكعب حميري حديث العهد باليهودية لا منعة له ولا حاجة بالمسلمين إليه، فهل يعقل أن يشعر الفاروق منه بأن إسلامه مدخول وأنه داهية ذو أغراض خبيثة ثم يدعه معه بالمدينة يدخل إليه مع أصحابه ويتكلم في مجلسه وربما يستشيره لا يحذره ولا يحذر الناس منه؟ أما قصة الصخرة فرواها الإمام أحمد من طرق حماد بن سلمة عن أبي سنان [عيسى بن سنان القسملي] عن عبيد بن آدم قال (سمعت عمر يقول لكعب: «أين ترى أن أصلي؟ قال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، وكانت القدس كلها بين يديك. فقال عمر: ضاهيت اليهودية، لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله »).
عبيد هذا لم يذكر له راو إلا أبو سنان، وأبو سنان ضعفه الإمام أحمد نفسه وابن معين وغيرهما، وقال أبو زرعة: (مخلط ضعيف الحديث)، ولا ينفعه ذكر ابن حبان في الثقات لما عرف من تساهل ابن حبان، ولا قول العجلي: (لا بأس به) فإن العجلي قريب من ابن حبان أو أشد، عرفت ذلك بالاستقراء. ومع هذا فليس في القصة ما يشعر بسوء دخيلة، عرف كعب فضيلة بيت المقدس في الإسلام بنص القرآن، وعلم أنه كان قبلة المسلمين أولًا فظن أنه الأفضل للمصلي هناك أن يجعله كله بينه وبين الكعبة، ورأى عمر أن في هذا مضارعة -أي: مشابهة لليهودية – فيما علم من الإسلام خلافه، وهو صلاة النبي . هذا على فرض صحة الرواية. وذكر أبو رية (ص126-127) رواية أخرى عن تاريخ الطبري. وهي في التاريخ منقطعة الأول والآخر، إنما قال: (وعن رجاء بن حيوة عمن شهد) والسند إلى رجاء مجهول، وشيخ رجاء مجهول، ومثل هذا لا يثبت به شيء.
قال أبو رية: (فإن شدة دهاء هذا اليهودي غلبت على فطنة عمر وسلامة نيته) كذا رجع أبو رية فسلب عمر ما ذكره أولًا بقوله: (بحزمه وحكمته وينفذ… بنور بصيرته)، وهذا شأن من يتظنى الباطل. [24]
76قال: (فظل يعمل بكيده في السر والعلن).
أقول: كلمة (العلن) هذه تأتي على بقية ما جعله لعمر سابقًا وتبين أن مقصوده بقوله: (سلامة نيته) الغفلة. قال: (حتى انتهى الأمر بقتل عمر بمؤامرة اشترك فيها هذا الدهي).
ذكر بعد هذا ما حكي عن المسور بن مخرمة، وعزاها إلى تاريخي ابن جرير وابن الأثير، والثاني مستمد من الأول، وأرى أن أحكيها كما هي عند ابن جرير في أخبار (سنة 23) قال: (حدثني سلمة (الصواب: سلم) ابن جنادة قال حدثنا سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت [عمران] بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثنا أبي عن عبد الله بن جعفر عن أبيه عن المسور بن مخرمة… قال: «خرج عمر بن الخطاب يطوف في السوق فلقيه أبو لؤلؤة... قال [أبو لؤلؤة]: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب، ثم انصرف. فقال عمر: لقد توعدني العبد آنفًا. قال ثم انصرف عمر إلى منزله فلما كان من الغد جاء كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين! اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام. قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب الله عز وجل التوراة. قال عمر: آلله أنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا، ولكن أجد صفتك وحليتك… فلما كان من الغد جاء كعب فقال: … بقي يومان. قال: ثم جاء من غد الغد فقال: … بقي يوم وليلة وهي لك إلى صبيحتها…) وقال فيه: فضرب عمر ست ضربات وفي آخرها: ثم توفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة».
أقول: هل يسمع عمر هذا الوعيد الشديد من عبد كافر ثم لا يحترس منه ولا يأمر بالقبض عليه وسجنه أو ترحيله من المدينة؟ أو على الأقل يضع عليه عيونًا تراقبه، فقد كان لعمر عيون على الناس ترقب أقل من هذا، وكان له عيون على عماله في البلدان البعيدة، أوليس عمر هو الذي رجع عن بلد الطاعون فقال له أبو عبيدة: «أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك يا أبا عبيدة قالها، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله». هب أن عمر لم يبال نفسه، أفلم يكن بقاء ذلك العبد الكافر بين ظهراني المسلمين خطرًا عليهم، وقد جاهر الخليفة بالتوعد، فما عسى أن يكون حاله مع غيره؟ قد يقال: يمكن أن تكون وضعت عليه عيون راقبته مدة فلم ير منه ما ينكر، فترك. لكن77هذه الحكاية تجعل التوعد يوم الجمعة (22) ذي الحجة سنة (23) والقتل بعد ذلك بأربعة أيام.
أضف إلى ذلك أنه قد ثبت أن عمر قال في خطبته في تلك الجمعة: «رأيت ديكًا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه إلا حضور أجلي» وفي بعض الروايات أنه ذكر أن الرؤيا عبرت بأن رجلًا من الأعاجم يعتدي عليه. راجع فتح الباري (7: 50) هل يخبر عمر بهذه الرؤيا في اليوم الذي توعده فيه الأعجمي ثم لا يحترس ولا يقبض على ذاك الأعجمي؟
وفوق هذا تزعم الحكاية أن كعبًا جاء إلى عمر بعد الإخبار بالرؤيا وإيعاد الأعجمي بيوم واحد فقال لعمر ما تقدم. أفلم يكن في اقتران هذه الثلاثة ما يدعو إلى الاحتراس؟
أمر آخر: تقدم (ص46) تشديد عمر على أبي موسى لما أخبر بخبر عن النبي ، فهل يعقل أن عمر هذا الذي شدد على أخيه المؤمن الصادق المهاجر القديم الإسلام لا يشدد على كعب حديث العهد باليهودية ولا صحبة ولا هجرة، مع أن خبره أولى وأحق بأن يستنكر؟
أمر ثالت: عهدنا بهذا الحميري داهيًا فهل يعقل أن يكون واقفًا على المؤامرة ثم يقع منه ما حكته الحكاية؟ المعقول أن يسكت إن كان له هوًى في قتل عمر، وأن يخبره بالمؤامرة على وجهها إن لم يكن له هوى في قتله. أما السكوت فخشية أن يؤدي كلامه إلى حبوط المؤامرة بأن يحترس عمر ويقبض على أبي لؤلؤة، وقد يجر إلى اكتشاف المؤامرة ووقوع كعب نفسه؛ وأما الإخبار بالمؤامرة على وجهها فلأنه بذلك يكون له يد عند عمر والمسلمين ينال بها جاهًا ومكانة. وكلا هذين الغرضين أهم وأعظم من حبه إيهام اطلاعه على بعض أمور المستقبل، على أن هذا قد كان حاصلًا في الجملة، فقد كانوا يعرفون معرفته بصحف أهل الكتاب ويعرفون أن فيها أشياء من ذلك.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)