أقول: المعلوم دينًا وعقلًا أن الأخبار إنما تحظر روايتها إذا ترتبت عليها مفسدة، وقد كثر في القرآن والسنة حكاية ما هو حق من الإسرائيليات وحكاية ما هو باطل مع بيان بطلانه، فدل ذلك على جواز ما كان من هذا القبيل، وبقي المحتمل، وما لا تظهر مفسدة في روايته على أنه محتمل.
قال أبو رية: (روى أحمد عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي ص بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي ص فغضب وقال: «أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني» وفي رواية: «فغضب وقال: جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به»).
أقول: هذا من رواية مجالد عن الشعبي عن جابر، ومجالد ليس بالقوي، وأحاديث الشعبي عن جابر أكثرها لم يسمعه الشعبي من جابر كما مر (ص38) وعلى فرض صحته فالغضب من المجيئ بذاك الكتاب كان لسببين: الأول: إشعاره بظن أن شريعتهم لم تنسخ، ولهذا دفع ذلك بقوله: «لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني». والثاني: أنه قد سبق للمشركين قولهم في القرآن والنبي : { أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا }. وفي اعتياد الصحابة الإتيان بكتب أهل الكتاب وقراءتها على النبي ترويج لذاك التكذيب، والسببان منتفيان عمن اطلع على بعض كتبهم بعد وفاة النبي كعبد الله بن عمرو.
أما قوله: «لا تسألوا…إلخ» فقد بين أن العلة هي خشية التكذيب بحق أو التصديق بباطل، والعالم المتمكن من معرفة الحق من الباطل ومن المحتمل بمأمن من هذه الخشية، يوضح ذلك أن عمر رضي الله عنه وهو صاحب القصة كان بعد النبي ص يسمع من مسلمي أهل الكتاب وربما سألهم، وشاركه جماعة من الصحابة ولم ينكر ذلك أحد.
قال: (وروى البخاري عن أبي هريرة: لا تصدقوا… إلخ).
أقول: الذي في صحيح البخاري: عن أبي هريرة قال: «كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله ص: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم… إلخ».
87
فلم ينه عن السماع والاستماع، وإنما نهى عن التصديق والتكذيب، ولا ريب أن المنهي عنه هو التصديق المبني على حسن الظن بصحفهم، والتكذيب المبني على غير حجة، فلو قامت حجة صحيحة وجب العمل بها.
قال: (وروى البخاري… عن ابن عباس أنه قال: «كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على رسول الله أحدث الكتب تقرءونه محضًا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه... إلخ».
أقول: هذا من قول ابن عباس، وقد علمنا أنه كان يسمع ممن أسلم من أهل الكتاب وقد روي أنه سأل بعضهم، وأبو رية يسرف في هذا حتى يرمي ابن عباس بأنه: (تلميذ لكعب)، وبالتدبير يظهر مقصوده، ففي بقية عبارته: (لا والله ما رأينا رجلًا منهم يسألكم عن الذي أنزل إليكم) فدل هذا أن كلامه في أهل الكتاب الذين لم يسلموا، فأما الذين أسلموا فعمل ابن عباس يقتضي أنه لا بأس للعالم المحقق مثله أن يسأل أحدهم.
قال (ص125): وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود قال: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا. إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل».
أقول: في سنده نظر، فإن صح فقد تقدم معناه في حديث جابر وأثر ابن عباس.
قال: «ولكن ما لبث الأمر أن انقلب بعد أن اغتر بعض المسلمين بمن أسلم من أحبار اليهود خدعة (؟) فظهرت أحاديث رفعوها إلى النبي تبيح الأخذ وتنسخ ما نهى عنه، فقد روى أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهما أن رسول الله ص قال: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج».
أقول: صح هذا من حديث أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وأبي سعيد الخدري؛ وليس بمخالف لما تقدم، كيف والحجة مما تقدم إنما هي في حديث أبي هريرة، فأما حديث جابر فلم يصح، وأثر ابن عباس من قوله. وقد بينه سياقه وفعله، وأثر ابن مسعود إن صح فقد تقدم حمله، ولو كان مخالفًا لكان رأي صحابي قد خالفه غيره، فالحجة في حديث أبي هريرة فقط، وهو بين في الإذن بالسماع والاستماع، ولم ينه إلا عن التصديق أو التكذيب بلا حجة، والرواية إما في معنى السماع والاستماع فيدل الحديث على الإذن فيها، وإما مسكوت عنها فتبين أن حديث: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» غير مخالف لحجة، ولو كان مخالفًا فأيما أولى أن يؤخذ به؟ أدلة المنع قد عرفت حالها، أما أدلة الجواز فصنيع القرآن والسنن الثابتة، وحديث صحيح صريح يرويه جماعة من الصحابة، وعمل عمر وعثمان وجماعة من الصحابة.
88
قال: (وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو من تلاميذ كعب الأحبار).
أقول: لم يتعلما من كعب شيئًا وإنما سمعا منه شيئًا من الحكايات ظنًا أو جوزا صحتها فنقلاها، والذي يصح عنهما من ذلك شيء يسير، وكأن أبا رية يريد أنهما لما سمعا من كعب أحبا أن يرويا عنه فخافا أن ينكر الناس عليهما فافتريا -والعياذ بالله- على النبي ص ذاك الحديث يدفعان به إنكار الناس، وساعدهما على ذلك غيرهما من الصحابة كأبي سعيد الخدري. كأن أصحاب محمد ص جماعة من اللصوص لا يزَعهم دين ولا حياء وكأن صحبتهم له ومجالستهم وحفظهم للقرآن والسنن ومحافظتهم على الطاعة طول عمرهم لم تفدهم في دينهم وأخلاقهم شيئًا بل زادتهم وبالًا، فقد كانوا في جاهليتهم يتحاشون من الكذب. ولا ريب أن مثل هذا لا يقوله مسلم عاقل يعرف محمدًا ص ويؤمن بالقرآن وما فيه من الثناء البالغ على الصحابة ويعرف الصحابة أنفسهم، ولو أريد من ثلاثة معروفين من أصحاب السيد رشيد رضا أن يتفقوا على الكذب عليه لغرض من الأغراض لعز ذلك مع الفارق العظيم بين هذا وذاك من وجوه عديدة، هذا وسبيل المؤمنين الذي جرى عليه العمل في حياة النبي ص وفي عهد أصحابه قبول خبر الصحابي الواحد، فإن عرض احتمال خطأ أو نحو فقام صحابي آخر فأخبر بمثل ذاك لم يبق إلا القبول، كما يروى في خبر محمد بن مسلمة بمثل ما أخبره به المغيرة في ميراث الجدة فأمضاه أبو بكر، وكشهادة أبي هريرة لحسان بانشاده الشعر في المسجد في حياة النبي ص فأقره عمر، وكخبر أبي سعيد الخدري بمثل خبر أبي موسى في الاستئذان فاطمأن إليه عمر، وقد قال الله تبارك وتعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }.