أقول: ومن قال إن النخسة دعاء إلى الشر؟ بل إن كانت للإيلام فقط فذلك من خبث الشيطان مكن منها كما مكن مما أصاب أيوب، وكما يمكن الكفار من قتل المسلمين -حتى الأنبياء- وذبح أطفالهم. وإن كانت لإحداث أمر من شأنه أن يورث القلب قبولًا ما للوسوسة بعد الكبر فهذا لا يستدعي معرفة الخير والشر في الحال، والتمكين من هذا كالتمكين من الوسوسة والتزيين، وذلك من تمام أصل الابتلاء.
99قال: (الثاني: أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم).
أقول: من أين يلزم من التمكن من حمل رجل التمكن من حمل جبل؟ والشيطان لا يتمكن إلا أن مكنه الله تعالى فإذا مكنه الله تعالى من أمر خاص فمن أين يلزم تمكنه من غيره؟
قال: (والثالث: لم خص بهذا الاستثناء مريم وعيسى…؟).
أقول: قد تقدم الجواب عن هذا.
قال: (الرابع: أن ذلك النخس لو وجد لبقي أثره، ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء).
أقول: أرأيت إذا عركت أذن الطفل فألم وبكى، أيستمر الألم والبكاء؟
ثم ذكر عن الشيخ محمد عبده كلامًا فيه: (فهو من الأخبار الظنية؛ لأنها من رواية الآحاد، ولما كان موضوعها عالم الغيب، والإيمان بالغيب من قسم العقائد وهي لا يؤخذ فيها بالظن لقوله تعالى: { إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } كنا غير مكلفين الإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا).
أقول: لا نزاع أن الدليل الظني لا يوجب الإيمان القاطع، لكنه يوجب التصديق الظني، وكيف لا وظن ثبوت الدليل يوجب ضرورة ظن ثبوت المدلول. أما قوله تعالى: { إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا } فلي فيه بحث طويل حاصله أن تدبر مواقع (يغني) في القرآن وغيره، وتدبر سياق الآية يقضي بأن المعنى أن الظن لا يدفع شيئًا من الحق، وبعبارة أهل الأصول: الظني لا يعارض القطعي. [27]
قال (ص148) (ابن جريج… إلخ).
أقول: راجع (ص: 68).
ثم قال: (ومن شاء أن يستزيد من معرفة الإسرائيليات والمسيحيات وغيرها في الدين الإسلامي فليرجع إلى التفسير والحديث والتاريخ، وإلى كتب المستشرقين أمثال جولدزيهر وفون كريمر وغيرهما).
أقول: هذا موضع المثل: (صدقني من بكرة) وقوله: (في الدين الإسلامي) لها مغزاها، فأبو رية -كما تعطيه هذه الكلمة والله أعلم- يرى في القرآن نحو ما جهر به من الحديث، وتقديمه لجولدزيهر اليهودي يؤيد ما قدمته (ص94)، وكتب جولدزيهر في الطعن في الإسلام والقرآن والنبي معروفة، وقد أحالك أبو رية عليها، والله المستعان.
100أبو هريرة
وقال أبو رية (ص151): (أبو هريرة: لو كانت أحاديث رسول الله كلها من الدين العام كالقرآن لا يقوم إلا عليها ولا يؤخذ إلا منها، وأنه يجب على كل مسلم أن يعرفها ويتبع ما فيها، وكان النبي قد أمر أصحابه أن يحفظوا هذه الأحاديث لكي تؤثر بعده، لكان أكثر الصحابة رواية لها أعلاهم درجة في الدين…).
أقول: قدمنا الكلام في نظرية: (دين عام ودين خاص) (ص 14-17، وص 31-35). ولم يوجب الله تعالى على كل مسلم معرفة القرآن نفسه سوى الفاتحة لوجوبها في الصلاة، وأما الاتباع فطريقته أن العلماء يعرفون ويجتهدون، والعامة تسألهم عند الحاجة فيفتونهم بما علموا من الكتاب والسنة، وكان الصحابة مأمورين بأن يبلغ كل منهم عند الحاجة ما حفظه، والذين حفظوا القرآن كله في عهد النبي ليسوا من أكابر الصحابة، وقد مات أبو بكر وعمر قبل أن يستوفي كل منهما القرآن حفظًا، وكان هناك عملان: الأول: التلقي من النبي ، الثاني: الأداء، فأما التلقي فلم يكن في وسع الصحابة أن يلازموا النبي ملازمة مستمرة، وإذا كان أنس وأبو هريرة ملازمين للنبي لخدمته فلا بد أن يتلقيا من الأحاديث أكثر مما تلقاه المشتغلون بالتجارة والزراعة، على أن أبا هريرة لحرصه على العلم تلقى ممن سبقه إلى الصحبة ما عندهم من الأحاديث، فربما رواها عنهم وربما قال فيها (قال النبي …) كما شاركه غيره منهم في مثل هذا الإرسال لكمال وثوق بعضهم ببعض، وقد ثبت أنه سأل النبي عن أسعد الناس بشفاعته يوم القيامة فقال: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث…» أخرجه البخاري في صحيحه، وتأتي أخبار كثيرة لإثبات هذا المعنى. وأما الأداء فإنما عاش أبو بكر زمن الأداء نحو سنتين مشغولًا بتدبير أمور المسلمين، وعاش عمر مدة أبي بكر مشغولًا بالوزارة والتجارة، وبعده مشغولًا بتدبير أمور المسلمين. وفي المستدرك (1: 98) أن معاذ بن جبل «أوصى أصحابه أن يطلبوا العلم وسمى لهم أبا الدرداء وسلمان وابن مسعود وعبد الله بن سلام، فقال يزيد بن عميرة: وعند عمر بن الخطاب؟ فقال معاذ: لا تسأله عن شيء، فإنه عنك مشغول» وعاش عثمان وعلي مشغولينِ بالوزارة وغيرها، ثم بالخلافة101ومصارعة الفتن. وكان الراغبون في طلب العلم يتهيبون هؤلاء ونظراءهم، ويرون أن جميع الصحابة ثقات أمناء، فيكتفون بمن دون أولئك، وكان هؤلاء الأكابر يرون أنه لا يتحتم عليهم التبليغ إلا عندما تدعو الحاجة، ويرون أنه إذا جرى العمل على ذلك فلن يضيع شيء من السنة؛ لأن الصحابة كثير، ومدة بقائهم ستطول، وعروض المناسبات التي تدعو الحاجة فيها إلى التبليغ كثير، وفوق ذلك فقد تكفل الله عز وجل بحفظ شريعته، وكانوا مع ذلك يشددون على أنفسهم خشية الغلط، ويرون أنه إذا كان من أحد منهم خطأ وقت وجوب التبليغ فهو معذور قطعًا، بخلاف من حدث قبل الحاجة فأخطأ، وكانوا مع ذلك يحبون أن يكفيهم غيرهم، ومع هذا فقد حدثوا بأحاديث عديدة، وبلغهم عن بعضهم أنه يكثر من التحديث فلم يزعموا أنه أتى منكرًا، وإنما حكى عن بعضهم ما يدل أنه يرى الإكثار خلاف الأولى. فأما زعم أبي رية أنهم كانوا (يرغبون عن رواية الحديث وينهون إخوانهم عنها…) فقد تقدم تفنيده (ص30).
وذكر أبو رية كثرة حديث أبي هريرة وقال (ص152) (على حين أنه كان من عامة الصحابة، وكان بينهم لا في العير ولا في النفير). وسيبسط هذا (ص184) وننظر فيه.
وقال (ص152): (الاختلاف في اسمه… إلخ).
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 16 (0 من الأعضاء و 16 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)