هذا وسند الخبر غير صحيح، ولفظه في البداية: (قال أبو زرعة الدمشقي حدثني محمد بن زرعة الرعيني حدثنا مروان بن محمد حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله بن السائب… إلخ) ومحمد بن زرعة لم أجد له ترجمة، والمجهول لا تقوم به حجة، وكذا إسماعيل إلا أن يكون الصواب إسماعيل بن عبيد الله (بالتصغير) ابن أبي المهاجر فثقة معروف لكن لا أدري أسمع من السائب أم لا؟ وفي البداية عقبه: (قال أبو زرعة: وسمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحوًا منه لم يسنده). أقول: وسعيد لم يدرك عمر ولا السائب، هذا ومخرج الخبر شامي،
111
ومن الممتنع أن يكون عمر نهى أبا هريرة عن الحديث البتة ولا يشتهر ذلك في المدينة ولا يلتفت إلى ذلك الصحابة الذين أثنوا على أبي هريرة ورووا عنه وهم كثير كما يأتي، منهم ابن عمر وغيره كما مر (ص106)، هذا باطل قطعًا. على أن أبا رية يعترف أن كعبًا لم يزل يحدث عن الأول حياة عمر كلها، وكيف يعقل أن يرخص له عمر ويمنع أبا هريرة؟ هذا باطل حتمًا، وأبو هريرة كان مهاجرًا من بلاد دوس والمهاجر يحرم عليه أن يرجع إلى بلده فيقيم بها، فكيف يهدد عمر مهاجرًا أن يرده إلى البلد التي هاجر منها؟ وقد بعث عمر في أواخر إمارته أبا هريرة إلى البحرين على القضاء والصلاة كما في فتوح البلدان للبلاذري (ص92-93)، وبطبيعة الحال كان يعلمهم ويفتيهم ويحدثهم.
قال أبو رية (ص16): (ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدرة، إذ أصبح لا يخشى أحدًا بعده).
أقول: لم يمت الحق بموت عمر، وسيأتي تمام هذا.
قال: (ومن قوله في ذلك: «إني أحدثكم أحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة، وفي رواية: لشج رأسي»).
أقول: يروى هذا عن يحيى بن أيوب عن ابن عجلان عن أبي هريرة، وابن عجلان لم يدرك أبا هريرة. فالخبر منقطع غير صحيح.
قال: (وعن الزهري عن أبي سلمة سمعت أبا هريرة يقول: «ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله حتى قبض عمر»، ثم يقول: «أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذًا لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله»).
أقول: إنما رواه عن الزهري إنسان ضعيف يقال له: صالح بن أبي الأخضر، قال فيه الجوزجاني -وهو من أئمة الجرح والتعديل-: (اتهم في حديثه). وهناك أخبار وآثار تعارض هذا وأشباهه، إلا أن في أسانيدها مقالًا فلم أنشط لذكرها وبيان عللها تجد بعضها في ترجمة أبي هريرة من الإصابة.
وبعد فإن الإسلام لم يمت بموت عمر، وإجماع الصحابة بعده على إقرار أبي هريرة على الإكثار، مع ثناء جماعة منهم عليه، وسماع كثير منهم منه، وروايتهم عنه كما يأتي؛ يدل على بطلان المحكي عن عمر من منعه، بل لو ثبت المنع ثبوتًا لا مدفع له لدل إجماعهم على أن المنع كان على وجه مخصوص أو لسبب عارض أو استحسانًا محضًا لا يستند إلى حجة ملزمة. وعلى فرض اختلاف الرأي فإجماعهم بعد عمر أولى بالحق من رأي عمر.
ثم حكى أبو رية عن صاحب المنار قال: (لو طال عُمر عمر حتى مات أبو هريرة، لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة).
112
أقول: وما يدريك لعل عمر لو طال عمره حتى يستحر الموت بحملة العلم من الصحابة لأمر أبا هريرة وغيره بالإكثار وحث عليه، وحفظُ الله تبارك وتعالى لشريعته وتدبيره بمقتضى حكمته فوق عمر وفوق رأي عمر في حياة عمر وبعد موت عمر.
ثم قال أبو رية (ص164): (كيف سوغ كثرة الرواية؟ كان أبو هريرة يسوغ كثرة الرواية عن النبي بأنه ما دام لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا فإنه لا بأس من أن يروي).
أقول: هذه دعوى من أبي رية، فهل من دليل؟
قال: (وقد أيد صنيعه هذا بأحاديث رفعها إلى النبي، ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «إذا لم تحلوا حرامًا ولا تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس»).
أقول: ههنا مآخذ:
الأول: أن هذا لم يروه أبو هريرة ولا رواه الطبراني عنه، إنما رواه الطبراني من طريق يعقوب بن عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي عن أبيه عن جده قال: «أتينا النبي فقلنا له: بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، إنا نسمع منك الحديث فلا نقدر أن نؤديه كما سمعنا. فقال: إذا لم… إلخ») وهو في مجمع الزوائد (1: 154) وقال: (رواه الطبراني في الكبير، ولم أر من ذكر يعقوب ولا أباه).
الثاني: أن هذا الخبر إنما يدل على إجازة الرواية بالمعنى لقوله فيه: «وأصبتم المعنى» وقد تقدم الكلام في الرواية بالمعنى (ص52) فما بعدها، ودعوى أبي رية هنا شيء آخر كما يأتي.
الثالث: أن الخبر لا يثبت عن صحابيه لجهالة يعقوب وأبيه، ولهذا أعرضت عنه فلم أستشهد به في فصل الرواية بالمعنى وإن كان موافقًا لقولي.
قال: (وقال أيضًا إنه سمع النبي يقول: «من حدث حديثًا هو لله عز وجل رضا فأنا قلته، وإن لم أكن قلته» روى ذلك ابن عساكر في تاريخه).
أقول: أخذ أبو رية هذا من كنز العمال (5: 223) وهناك أن ابن عساكر أخرجه عن البختري بن عبيد عن أبيه عن أبي هريرة. أقول: البختري كذاب، وأبوه مجهول.
قال أبو رية: (وفي الإحكام…. لابن حزم) (2: 78) أنه روى عن رسول الله :
113
«إذا حُدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به، حدثت به أو لم أحدث»).
أقول: إنما ذكره ابن حزم من طريق أشعث بن براز، ثم قال ابن حزم في ذلك الموضع نفسه: (و أشعث بن براز كذاب ساقط).
قال: (وروى عن رسول الله: «إذا بلغكم عني حديث يحسن بي أن أقوله فأنا قلته، وإذا بلغكم حديث لا يحسن بي أقوله فليس مني ولم أقله»).
أقول: عزاه إلى توجيه النظر (ص278) وهناك عقبه قول أبي حاتم: (الحديث منكر، الثقات لا يرفعونه) يريد لا يصلونه، فإنه ذكره من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، وقد جاء من وجه آخر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن النبي ص مرسلا، ذكره البخاري في التاريخ (2/1/434) ثم ذكر أن بعضهم قال: (عن أبي هريرة) قال البخاري: (وهو وهم، ليس فيه أبو هريرة). ورواه بعضهم عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة. ذكره ابن حزم في الإحكام عقب الحديث السابق وقال: (عبد الله بن سعيد كذاب مشهور). وفي ألفاظه في الروايات اختلاف، وسأشرح بقية حاله في التعليق على موضوعات الشوكاني إن شاء الله تعالى.