أقول: قد تقدم أن الصحابة كان يأخذ بعضهم عن بعض، ويقول لأحدهم فيما سمعه من أخبار عن النبي : (قال النبي …) وكان ذلك يفهم على الاحتمال بدون إيهام لاشتهار عرفهم به قبل عرف المحدثين. وقد أخذ أبو هريرة عن غيره من الصحابة في حياة النبي وعقب وفاته ثم طال عمره حتى كانت قضية هذا الحديث في إمارة مروان على المدينة وذلك في خلافة معاوية، وكان معظم الصحابة قد ماتوا، فما الذي يستغرب من أن يكون مخبر أبي هريرة قد مات؟ وقد تقدم بيان الأدلة الواضحة على صدق أبي هريرة وحديثه هذا، لكن انظر إلى عبارة أبي رية في قوله: (فاستشهد… كما قال ابن قتيبة…) ألا ترى أن هذا الخبر يعطي بأن ابن قتيبة قال ذلك من عنده وأنه رأيه، لكن الواقع أن ابن قتيبة إنما حكى ذلك عن النظام بعد أن وصفه بما تقدم ثم رد عليه، فماذا تقول في أبي رية؟
ثم قال (ص168): (وكان علي رضي الله عنه سيئ الرأي فيه، وقال عنه: ألا إنه أكذب الناس، أو قال: أكذب الأحياء على رسول الله لأبو هريرة).
أقول: لم يذكر أبو رية مصدره فنفضحه، وكأنه أخذ هذا من كتاب عبد الحسين الرافضي { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ }. انظر (ص119).
ثم رأيت مصدره وهو شرح النهج لابن أبي الحديد (1: 360) حكاية عن الإسكافي، ومع تهور ابن أبي الحديد والإسكافي فالعبارة هناك: (وقد روي عن علي عليه السلام أنه قال…. ) ولكن أبا رية يجزم. راجع (ص109).
قال: ولما سمع أنه يقول: (حدثني خليلي). قال له: متى كان النبي خليلك؟
أقول: هذا من دعاوي النظام على علي؛ وقد كان أبو ذر يقول هذه الكلمة، والنبي خليل كل مؤمن وإن لم يكن أحد من الخلق خليلًا له لقوله: «لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبي بكر». والخليل كالحبيب فكما أنه لا يلزم من كون إنسان حبيبك أن تكون حبيبه فكذلك الخليل، والخلة أعظم من المحبة فلا يلزم من نفي الخلة نفي المحبة.
قال أبو رية: (ولما روى حديث: «متى استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يضعها في الإناء
123
فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» لم تأخذ به عائشة وقالت: كيف نصنع بالمهراس) وعلق عليه: (المهراس: صخر ضخم منقور لا يحمله الرجال ولا يحركونه يملؤنه ماء ويتطهرون).
أقول: قد أسلفت (ص108) أن عائشة لم تتكلم في هذا الحديث بحرف، وإنما يروى عن رجل يقال له قين الأشجعي، [37] أنه قال لأبي هريرة لما ذكر الحديث: «فكيف تصنع إذا جئنا مهراسكم هذا؟» قال أبو هريرة: «أعوذ بالله من شرك». كره أبو هريرة أن يقول مثلًا: إن المهراس ليس بإناء، والعادة أن يكون ماء الإناء قليلًا، وماء المهراس كثيرًا، أو يقول: أرأيت لو كانت يدك ملطخة بالقذر؟ أو يقول: إن وجدت ماء غيره أو وجدت ما تغرف به فذاك وإلا رجوت أن تعذر، أو نحو ذلك؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه كان يتورع عن تشقيق المسائل، ويدع ذلك لمن هو أجرأ وأشد غوصًا على المعاني منه. وقد كان النبي ص يلتزم في الوضوء أن يغسل يديه ثلاثًا قبل إدخالهما الإناء، ثبت ذلك من حديث عثمان وعبد الله بن زيد، ولا يخفى ما في ذلك من رعاية النظافة والصحة.
قال أبو رية: (ولما سمع الزبير أحاديثه قال: صدق، كذب).
أقول: عزاه إلى البداية (8: 109) وهو هناك عن ابن إسحاق عن عمر -أو عثمان – ابن عروة بن الزبير عن عروة قال: قال لي أبي الزبير: «أدنني من هذا اليماني -يعني أبا هريرة- فإنه يكثر الحديث عن رسول الله ص فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدث، وجعل الزبير يقول: صدق، كذب. صدق، كذب. قال قلت: يا أبتِ! ما قولك: صدق، كذب؟ قال: يا بني! إما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله ص فلا أشك فيه، ولكن منها ما يضعه على مواضعه ومنها ما وضعه على غير مواضعه»).
أقول: في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «إنكم تقرءون هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله ص يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه» انظر تفسير ابن كثير (3: 257): فالوضع على غير الموضع ليس بتغيير اللفظ، فإن الناس لم يغيروا من لفظ الآية شيئًا، وإنما هو الحمل على المحمل الحقيقي، ومثال ذلك في الحديث أن
124
يذكر أبو هريرة حديث النهي عن الادخار من لحوم الأضاحي فوق ثلاث، وحديث النهي عن الانتباذ في الدباء والنقير والمزفت، فيرى الزبير أن النهي عن الادخار إنما كان لأجل الدافة، وأن النهي عن الانتباذ في تلك الآنية إنما كان إذ كانوا حديثي عهد بشرب الخمر، لأن النبيذ في تلك الآنية يسرع إليه التخمر، فقد يتخمر فلا يصبر عنه حديث العهد بالشرب ونحو ذلك. وأن أبا هريرة إذ أخبر بذلك على إطلاقه يفهمه الناس على إطلاقه، وذلك وضع له على غير موضعه، ففي القصة شهادة الزبير لأبي هريرة بالصدق في النقل، فأما ما أخذه عليه فلا يضر، فإن في الأحاديث الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، وقد يعلم الصحابي هذا دون ذاك، فعليه أن يبلغ ما سمعه، والعلماء بعد ذلك يجمعون الأحاديث والأدلة ويفهون كلًا منها بحسب ما يقتضيه مجموعها. وراجع (ص32).
قال أبو رية (ص169) وعن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدث عن رسول الله: «إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار، فطارت شققا ثم قالت: كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم من حدث بهذا عن رسول الله ص، إنما قال رسول الله ص: كان أهل الجاهلية يقولون: إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار، ثم قرأت: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا }».