وذكر أبو رية (ص179) قصة ذي اليدين وقال: (في رواية البخاري أنها صلاة العصر، وفي رواية النسائي ما يشهد أن الشك كان من أبي هريرة وهذا لفظه: «صلى النبي إحدى صلاتي العشي ولكني نسيت»).
أقول: الحديث عند النسائي من طريق: (ابن عون عن محمد بن سيرين قال: قال أبو هريرة: «صلى بنا النبي إحدى صلاتي العشي». قال: قال أبو هريرة: ولكني نسيت…) وهو في صحيح البخاري في كتاب المساجد، باب: تشبيك الأصابع… إلخ، من طريق: ابن عون عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: «صلى بنا رسول الله إحدى صلاتي العشي» قال ابن سيرين: قد سماها أبو هريرة ولكني نسيت أنا… وكلتا الروايتين من طريق ابن عون عن ابن سيرين. فإن رجحنا رواية الصحيح فذاك وإلا فلا يتم الاستشهاد مع التعارض. على أن النسيان هنا لا أثر له، فإن ذلك الحكم إذ ثبت لإحدى الصلاتين ثبت للأخرى إجماعًا.
قال أبو رية: (ولما روى أن رسول الله قال: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا ودمًا خير من أن يمتلئ شعرًا»، قالت عائشة: «لم يحفظ، إنما قال... من أن يمتلئ شعرًا هجيت به»).
أقول: قال الله تبارك وتعالى: { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } الآية.
وقال البخاري في صحيحه: (باب: ما يجوز من الشعر والرجز والحداء…إلخ). وذكر أحاديث، ثم قال: (باب: هجاء المشركين) وذكر أحاديث، ثم قال: (باب: ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن) وأخرج فيه حديث ابن عمر عن النبي : «لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خيرًا له من أن يمتلئ شعرًا» ومن حديث أبي هريرة: «لئن يمتلئ جوف رجل قيحًا يريه خير من أن يمتلئ شعرًا» وأخرج مسلم في صحيحه حديث أبي هريرة ثم أخرج مثله من حديث سعد بن أبي وقاص، ثم من حديث أبي سعيد الخدري مثله بدون كلمة (يريه) وقد جاء الحديث في غير الصحيحين عن غير هؤلاء من الصحابة. وأما ما ذكره أبو رية عن عائشة فهو من رواية الكلبي وهو كذاب، عن أبي صالح مولى أم هانئ وهو واهٍ. والإناء إذا امتلأ بشيء لم يبق فيه متسع لغيره، فمن امتلأ جوفه شعرًا امتنع أن يكون ممن استثني في الآية ووصف بقوله: { وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا } وهذا بحمد الله واضح. وقد علق أبو رية في الحاشية ما لاحاجة بنا بعد ما مر إلى النظر فيه.
146
ثم قال أبو رية (ص180): (ومن عجيب أمر الذين يثقون بأبي هريرة ثقة عمياء أنهم يمنعون السهو والنسيان عنه، ولا يتحرجون من أن ينسبوهما إلى النبي صلوات الله عليه…).
أقول: لم يمنع أحد أن يسهو أبو هريرة أو ينسى، ولكننا تصديقًا للنبي وإيمانًا به وببركة دعائه نقول: إن أبا هريرة لم ينس شيئًا من المقالة التي أخبر النبي أنه لن ينسى منها شيئًا وأنه فيما عداها من الحديث كان من أحفظ الناس له ومن الناس من فهم أن خبر النبي بعدم النسيان يعم ما سمعه أبو هريرة منه في مجلسه ذلك وبعده وقد مر النظر في ذلك. والخير والفضل والكمال في ذلك كله عائد إلى الله ورسوله، فأما ما عدا الحديث فلم يقل أحد إن أبا هريرة لا يسهو ولا ينسى.
ثم قال (ص181): (…فلم لم يحفظ القرآن)؟
أقول: ومن أين لك أنه لم يحفظه؟ غاية الأمر أنه لم يذكر فيمن جمع القرآن في العهد النبوي، والذين ذُكروا أفراد قليلون ليسوا من كبار الصحابة. وأبو هريرة من أئمة القراءات وهو فيها أشهر شيخ للأعرج ولأبي جعفر القارئ. وهما أشهر شيوخ نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أشهر القراء السبعة، وبهذا علم حفظه للقرآن وإتقانه. انظر ترجمته في طبقات القراء رقم (1574)
قال: (وكذلك لو كان أبو هريرة قد بلغ هذه الدرجة… وهي عدم السهو والنسيان لاشتهر…).
أقول: قد علمت أن المتحقق هو أنه لم ينس ما حدث به النبي في مجلس خاص قد مر بيانه، وكان فيما عدا ذلك من أحفظهم، وهذا لا يرد عليه شيء مما ذكر أبو رية.
قال (ص182): (ولكن الأمر قد جرى على غير ذلك…).
أقول: أعاد أشياء قد تقدم النظر فيها، ويأتي باقيها.
ثم قال: (حفظ الوعاءين. أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: «حفظت عن رسول الله وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم». وهذا الحديث معارض بحديث… عن علي رضي الله عنه فقد سئل: «هل عندكم كتاب؟ فقال: لا إلا كتاب الله... أو ما في هذه الصحيفة». وكذلك يعارضه ما رواه البخاري عن عبد العزيز بن رفيع قال: «دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس، فقال له شداد: أترك النبي ص من شيء؟ فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين، ولوكان هناك شيء يؤثر به النبي ص أحد خواصه... »).
147
أقول: المنفي في خبري علي وابن عباس هو كتاب مكتوب غير القرآن، ولهذا استثنى علي صحيفته، ولم يقصد أبو هريرة ولا فهم أحد من كلامه أن عنده كتابين أو كتابًا واحدًا، وإنما قصد وفهم الناس عنه أنه حفظ ضربين من الأحاديث: ضرب يتعلق بالأحكام ونحوها مما لا يخاف هو ولا مثله من روايته. وضرب يتعلق بالفتن وذم بعض الناس، وكل أحد من الصحابة كان عنده من هذا هذا، وكانوا يرغبون عن إظهار ما هو من الضرب الثاني، وقد ذكر أبو رية حذيفة وعلمه بالفتن، وكان ربما حدث منه بالحرف بعد الحرف فينكره عليه إخوانه كسلمان وغيره.
وقال: (ص184): (ومن هو أبو هريرة؟ فلا هو من السابقين الأولين ولا المهاجرين).
أقول: قدمت (103) القول بأنه أسلم في بلده قبل الهجرة، وبهذا يكون من السابقين إلى الإسلام، ولم يثبت ما يخالف ذلك. فأما من قال: أسلم عام خيبر، فإنما أراد هجرته وقد ثبت في خبر هجرته أنه قدم مسلمًا، فأما الهجرة فهو مهاجر حتمًا وإن لم يكن من قريش ولا من أهل مكة، وإنما أسلمت قبيلته بعد أن هاجر بمدة، فقد ثبت أنه وجد النبي ص بخيبر عقب الوقعة، وثبت من شعر كعب بن مالك قوله قبيل غزوة الطائف، وذلك بعد خيبر بمدة:
قضينا من تهامة كل ريب ** وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
نخيرها ولو نطقت لقالت ** قواقطعهن دوسا أو ثقيفا
قال: (ولا من المجاهدين بأموالهم وبأنفسهم).
أقول: بل هو منهم، فقد غزا مع النبي ص غزواته بعد خيبر.
وعلق أبو رية في الحاشية: (أثبت التاريخ أنه فر يوم مؤتة، ولما عيروه بذلك لم يحر جوابًا).
أقول: لقي المسلمون عدوهم بمؤتة وكان عندهم أكثر من نيف وثلاثين ضعفًا فكان القتال، ثم انحاز خالد بن الوليد بالمسلمين ورجع بهم فكان بعض الناس يصيح فيهم: «يا فرار، فيقول النبي ص: بل هم الكرار إن شاء الله تعالى»
قال: (ولا… ولا من المفتين).