أقول: أما عنعنته فقد قدمنا (ص114-117) أنها تكون على احتمالين: إما أن يكون سمع من النبي ، وإما عن صحابي آخر عن النبي . فأما الاحتمال الثالث أن يكون إنما سمع من تابعي –كعب أو غيره- ومع ذلك رواه عن النبي فهذا من أبطل الباطل قطعًا، وراجع ما تقدم (ص73-75 و 82 و 89 و 94 و 99 و 109-110)، ولا أدري أين كان أهل العلم من الصحابة والتابعين وأتباعهم وهلم جرا عن هذا الاحتمال حتى يثار في القرن الرابع عشر؟ بل أين كان وعد الله تبارك وتعالى بحفظ دينه وشريعته فلم ينبههم لهذا الاحتمال طوال تلك القرون؟ بل أين كان الشيطان عن هذا الاحتمال فلم يوسوس به لأحد؟ كلا. كانوا أعلم وأتقى من أن يطمع الشيطان أن ينصاعوا لوسوسة مثل هذه. ومن تدبر ما تقدم (114-117) علم أن هذا الاحتمال الثالث معناه اتهام الصحابي بالكذب، فإذا كانت الأدلة تبرئ أبا هريرة ونظراءه من الكذب فإنها تبرئهم من هذا.
قال: (على أنه صرح بالسماع في حديث: «خلق الله التربة يوم السبت»، وقد جزموا بأن هذا الحديث أخذه عن كعب الأحبار).
أقول: قد تقدم النظر في هذا الحديث (ص135-139) بما يقتلع الشبهة من أصلها ولله الحمد.
158
قال (ص194): (وقال: إنه يكثر في أحاديثه الرواية بالمعنى).
أقول: هذه مجازفة، وأبو هريرة موصوف بالحفظ كما مر ويأتي.
قال: (وقال: إنه انفرد بأحاديث كثيرة…).
أقول: قد تتبع أبو رية عامة ذلك، وتقدم النظر في بعضها ويأتي الباقي.
قال (ص95): (وقال وهو يبين أن بطلَي الإسرائيليات… هما كعب الأحبار ووهب بن منبه: وما يدرينا أن كل [تلك] الروايات -أو الموقوفة منها- ترجع إليهما..؟).
أقول: كلمة (تلك) ثابتة في مصدر أبي رية، والكلام هناك في روايات جاءت في قضية خاصة، فأهمل أبو رية بيان ذلك وأسقط كلمة (تلك) ليفهمك أن صاحب المنار يجيز أن تكون المرويات الإسلامية كلها راجعة إلى كعب ووهب.
وأعاد (ص196-197) بعض دعاويه ومزاعمه، وقد تقدم ويأتي ما فيه كفاية.
ثم قال (ص198) (أمثلة مما رواه أبو هريرة: أخرج البخاري ومسلم عنه قال: «أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، فلما جاءه صكه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. فرد الله عليه عينه» [54] وقال: «ارجع فقل له يضع يده على متن ثور، فله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنة. قال: أي رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فسأل [55] الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر. قال رسول الله ص: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الكثيب الأحمر». وفي رواية لمسلم. قال: «فلطم موسى عين مالك الموت ففقأها».
أقول: القصة على ما ذكر هنا من كلام أبي هريرة. وإنما الذي من كلام النبي ص قوله: «فلو كنت ثم…. إلخ» وليس فيه ما يستشكل. فأما القصة فقد أجاب عنها أهل العلم. وسألخص ذلك: ثبت بالكتاب والسنة أن الملائكة قد يتمثلون في صور الرجال، وقد يراهم كذلك بعض الأنبياء فيظنهم من بني آدم كما في قصتهم مع إبراهيم ومع لوط عليهما السلام- اقرأ من سورة هود الآيات (69-80)، وقال الله تعالى في مريم عليها السلام: { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا }. وفي السنة أشياء من ذلك وأشهرها ما في حديث السؤال عن الإيمان والإسلام والإحسان.
159
فمن كان جاحدًا لهذا كله أو مرتابًا فيه فليس كلامنا معه، ومن كان مصدقًا علم أنه لا مانع أن يتمثل ملك الموت رجلًا ويأتي إلى موسى فلا يعرفه موسى.
الجسد المادي الذي يتمثل به الملك ليس جسده الحقيقي، وليس من لازم تمثله فيه أن يخرج الملك عن ملكيته، ولا أن يخرج ذاك الجسم المادي عن ماديته، ولا أن تكون حقيقة الملك إلى ذاك الجسم كنسبة أرواح الناس إلى أجسامهم، فعلى هذا لو عرض ضرب أو طعن أو قطع لذاك الجسم لم يلزم أن يتألم بها الملك ولا أن تؤثر في جسمه الحقيقي، ما المانع أن تقتضي حكمة الله عز وجل أن يتمثل ملك الموت بصورة رجل ويأمره الله أن يدخل على موسى بغتة ويقول له مثلًا: سأقبض روحك. وينظر ماذا يصنع؟ لتظهر رغبة موسى في الحياة وكراهيته للموت فيكون في قص ذلك عبرة لمن بعده. فعلى هذا فإن موسى لما رأى رجلًا لا يعرفه دخل بغتة وقال ما قال، حمله حب الحياة على الاستعجال بدفعه، ولولا شدة حب الحياة لتأنى وقال: من أنت؟ وما شأنك؟ ونحو ذلك ووقوع الصكة وتأثيرها كان على ذاك الجسد العارض، ولم ينل الملك بأس. فأما قوله في القصة: (فرد الله عليه عينه) فحاصله أن الله تعالى أعاد تمثيل الملك في ذاك الجسد المادي سليمًا، حتى إذا رآه موسى قد عاد سليمًا مع قرب الوقت عرف لأول وهلة خطأه أول مرة.
قال أبو رية (وفي تاريخ الطبري عن أبي هريرة أن ملك الموت…. )
أقول: رجاله كلهم موصوفون بأنهم ممن يخطئ، فلا يصح عن أبي هريرة.
قال: (وأخرجا كذلك عنه قال النبي ص: «تحاجّت الجنة والنار…»).
أقول: قد وافق أبا هريرة على هذا الحديث أنس بن مالك وحديثه في الصحيحين وغيرهما، وأبو سعيد وحديثه في صحيح مسلم ومسند أحمد وغيرهما، وأبي بن كعب وحديثه في مسند أبي يعلى. وتفسير الحديث معروف.
قال: (وروى البخاري عنه: «مابين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع». وخرَّج أوله مسلم عنه مرفوعًا وزاد: «وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام»).
أقول: هذا من فهم أبي رية وتحريه. راجع فتح الباري (11: 365) تعرف ما في صنيع أبي رية وتعرف الجواب.
160
وقال (ص199): (وروى البخاري وابن ماجه عنه عن النبي : «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم يطرحه فإن في أحد جناحيه داء والآخر شفاء»).
أقول: هذا الحديث قد وافق أبا هريرة على روايته أبو سعيد الخدري وأنس. راجع مسند أحمد بتحقيق وتعليق الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله (12: 124). وعلماء الطبيعة يعترفون بأنهم لم يحيطوا بكل شيء علمًا، ولا يزالون يكتشفون الشيء بعد الشيء، فبأي إيمان ينفي أبو رية وأضرابه أن يكون الله تعالى أطلع رسوله ص على أمر لم يصل إليه علم الطبيعة بعد؟ هذا وخالق الطبيعة ومدبرها هو واضع الشريعة، وقد علم سبحانه أن كثيرًا من عباده يكونون في ضيق من العيش، وقد يكون قوتهم اللبن وحده، فلو أرشدوا إلى أن يريقوا كل ما وقعت فيه ذبابة لأجحف بهم ذلك. فأغيثوا بما في الحديث، فمن خالف هواه وطبعه في استقذار الذباب فغمسه تصديقًا لله ورسوله دفع الله عنه الضرر، فكان في غمس ما لم يكن انغمس ما يدفع ضرر ما كان انغمس، وعلماء الطبيعة يثبتون قوة الاعتقاد تأثيرًا بالغًا، فما بالك باعتقاد منشؤه الإيمان بالله ورسوله؟
قال (ص200): (وروى الطبراني في الأوسط عن النبي ص: «أتاني ملك برسالة من الله عز وجل ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى في الأرض لم يرفعها»).