أقول: من تدبر ما تقدم (ص61-65) وغيرها تبين له أن من كان حده أن يكذب لا يخفى على حاله على الأئمة، غاية الأمر أنهم قد يقتصرون على قولهم (متهم بالكذب) ونحو ذلك. وبهذا تعلم أنه لو فرض عدم اعتراف من اعترف لم يلزم من ذلك أن يحكموا لخبره بالصحة.
قال (ص216): (إن بعض الصحابة والتابعين كانوا يروون عن كل مسلم… وقد ثبت أن الصحابة كان يروي بعضهم عن بعض وعن التابعين حتى عن كعب الأحبار وأمثاله).
أقول: راجع ما تقدم (73 - 75، 82، 89، 94 - 99، 109 - 110، 157).
قال: (والقاعدة عند أهل السنة أن جميع الصحابة عدول… وهي قاعدة أغلبية لا مطردة).
أقول: سيأتي النظر في هذا في فصل عدالة الصحابة.
قال: (فكل حديث مشكل المتن أو مضطرب الرواية أو مخالف لسنن الله تعالى في الخلق أو لأصول الدين أو نصوصه القطعية أو للحسيات وأمثالها من القضايا اليقينية فهو مظنة لما ذكرنا. فمن صدق رواية مما ذكر ولم يجد فيها إشكالًا فالأصل فيها الصدق، ومن ارتاب في شيء منها أو أورد عليه بعض المرتابين أو المشككين إشكالًا في متونها فليحمله على ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية…).
أقول: لا أدري ما عنى بالمشكل، فإن كان راجعًا إلى ما يأتي فذاك، أما المضطرب فحكمه معروف عند أهل العلم، وأما المخالف لسنن الله فمن سنن الله تعالى أن يخرق العادة إذا اقتضت حكمته، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة لا تحصى. وراجع الوحي المحمدي (ص63). وأما المخالف لأصول الدين فراجع (ص2)، وأما المخالف لنصوصه القطعية فراجع (ص14). وبالجملة لا نزاع أن النبي لا يخبر عن ربه وغيبه بباطل، فإن روى عنه خبر تقوم الحجة على بطلانه فالخلل من الرواية لكن الشأن كل الشأن في الحكم بالبطلان، فقد كثر اختلاف الآراء والأهواء والنظريات وكثر غلطها، ومن تدبرها
172
وتدبر الرواية وأمعن فيها وهو ممن رزقه الله تعالى الإخلاص للحق والتثبت علم أن احتمال خطأ الرواية التي يثبتها المحققون من أئمة الحديث أقل جدًا من احتمال خطأ الرأي والنظر، فعلى المؤمن إذا أشكل عليه حديث قد صححه الأئمة ولم تطاوعه نفسه على حمل الخطأ على رأيه ونظره أن يعلم أنه إن لم يكن الخلل في رأيه ونظره وفهمه فهو في الرواية، وليفزع إلى من يثق بدينه وعلمه وتقواه مع الابتهال إلى الله عز وجل فإنه ولي التوفيق.
تدوين القرآن


ثم قال أبو رية (ص217): (تدوين القرآن)… ولو أن النبي وصحابته كانوا قد عنوا بتدوين الحديث…) ثم قال (ص218): (كيف كان الصحابة…) ثم قال: (كتاب الوحي…).
أقول: (راجع ص20-47).
ثم قال (ص218-219): (وكان أول من كتب النبي بمكة من قريش عبد الله بن سعيد بن أبي سرح).
أقول: أنى لأبي رية هذا؟ إنما قال صاحب الاستيعاب وغيره في عبد الله أنه أسلم قبل الفتح.
وقال (ص219): (جمع القرآن وسببه: روى البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال: «قضى رسول الله ولم يكن القرآن جمع في شيء... ولما تولى أبو بكر ونشبت حرب الردة وقتل فيها كثير من الصحابة خشي عمر من ضياع القرآن بموت الصحابة فدخل على أبي بكر وقال له: إن أصحاب رسول الله باليمامة يتهافتون تهافت الفراش في النار، وإني أخشى أن لا يشهدوا موطنًا إلا فعلوا ذلك حتى يقتلوا، وهم حملة القرآن.. ».
أقول: حديث زيد في مواضع من صحيح البخاري، راجع الفتح (8: 259 و9: 9 و 19 و 13: 159 و 350) لم أجده في صحيح البخاري باللفظ الذي ساقه أبو رية. وراجعت فهارس البخاري للأستاذ رضوان محمد رضوان فذكر الحديث في المواضع الأربعة الأولى فحسب. [58] والذي في صحيح البخاري في الموضع الأول: «إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن» وفي الثاني: «إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى إن استحر القتل بالقراء بالمواطن» وتركت هذه الجملة في الثالث والخامس، وفي الرابع: «إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بقراء القرآن في المواطن» وليحذر القارئ من إساءة الظن بأبي رية، بل ينبغي أن يحمل صنيعه هذا على أنه رجع عن الميل إلى منع رواية الحديث بالمعنى، أو رأى جوازها في
173
غير الحديث النبوي -ولو مع التمكن من الإتيان باللفظ الأصلي- إذا كان ذلك لمصلحته، ومصلحته هنا أنه كره أن يصرح بأن الخشية كانت من استحرار القتل بقراء القرآن خاصة، وأحب أن يجعلها من استحرار القتل بالصحابة على الإطلاق ليبني عليها ما علقه في الحاشية إذ قال: (مما يلفت النظر البعيد ويسترعى العقل الرشيد أن عمر لما راعه تهافت الصحابة في حرب اليمامة.. لم يقل عنهم إنهم حملة الحديث، بل قال: إنهم حملة القرآن، ولم يطلب جمع الحديث وكتابته… وفي ذلك أقوى الأدلة وأصدق البراهين على أنهم لم يكونوا يعنون بأمر الحديث، ولا أن يكون لهم فيها كتاب محفوظ يبقى على وجه الدهر كالقرآن الكريم).
أقول: الذي في الخبر كما رأيت خشية استحرار القتل بقراء القرآن، وبين القرآن والسنة فرق من وجوه: وبيان أن الله تبارك وتعالى تكفل بحفظ الشريعة مما فيه الكتاب والسنة كما مر (ص20-21)، ومع ذلك كلف الأمة القيام بما يتيسر لها من الحفظ، ولما كان القرآن مقصودًا حفظ لفظه ومعناه، وفي ضياع لفظة واحدة منه فوات مقصود ديني، وهو مقدار محصور يسهل على الصحابة حفظه في الصدور وكتابته في الجملة كلفوا بحفظه بالطريقتين، وبذلك جرى العمل في حياة النبي فتوفاه الله تبارك وتعالى والقرآن كله محفوظ في الصدور مفرقًا، إلا أن معظمه عند جماعة معروفين، وإنما حفظه جميعه بضعة أشخاص، ومحفوظ كله بالكتابة مفرقًا في القطع التي بأيدي الناس كما مر (ص20). فلما استحر القتل بالقراء في اليمامة وخشي أن يستحر بهم في كل موطن ومن شأن ذلك مع صرف النظر عن حفظ الله تعالى أن يؤدي إلى نقص في الطريقة الأولى. رأى الصحابة أنهم إذا تركوا تلك القطع كما هي مفرقة بأيدي الناس كان من شأن ذلك احتمال أن يتلف بعضها فيقع النقص في الطريقة الثانية أيضًا. ورأوا أنه يمكنهم الاحتياط للطريقة الثانية بجمع تلك القطع وكتابة القرآن كله في صحف تحفظ عند الخليفة، وإذ كان ذلك ممكنا بدون مشقة شديدة، وهو من قبيل الكتابة التي ثبت الأمر بها ولا مفسدة البتة، علموا أنه من جماعة ما كلفوا به، فوفقهم الله تعالى للقيام به.