القضية الثالثة: الحديث مخالف للقرآن: (في نفيه السحر عنه وعده من افتراء المشركين عليه… مع أن الذي قصده المشركون ظاهر؛ لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه السلام، وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى لبيد… وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه ووبخهم على زعمهم هذا، فإذًا هو ليس بمسحور قطعًا).
أقول: كان المشركون يعلمون أنه لا مساغ لأن يزعموا أنه يفتري -أي يتعمد- الكذب على الله عز وجل فيما يخبر به عنه، ولا لأنه يكذب في ذلك مع كثرته غير عامد، فلجؤوا إلى محاولة تقريب هذا الثاني. بزعم أن له اتصالًا بالجن، وأن الجن يلقون إليه ما يلقون فيصدقهم ويخبر الناس بما ألقوه إليه، هذا مدار شبهتهم، وهو مرادهم بقولهم: به جنة، مجنون، كاهن، ساحر، مسحور، شاعر، كانوا يزعمون أن للشعراء قرناء من الجن تلقي إليهم الشعر فزعموا أنه شاعر -أي أن الجن تلقي إليه كما تلقي إلى الشعراء- ولم يقصدوا أنه يقول للشعر أو أن القرآن شعر.
إذا عرف هذا فالمشركون أرادوا بقولهم: { إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَسْحُورًا } أن أمر النبوة كله سحر وأن ذلك ناشئ عن الشياطين استولوا عليه -بزعمهم- يلقون إليه القرآن ويأمرونه وينهونه فيصدقهم في ذلك كله ظانًا أنه إنما يتلقى من الله وملائكته. ولا ريب أن الحال التي ذكر في الحديث عروضها له لفترة خاصة ليست هي هذه التي زعمها المشركون، ولا هي من قبلها في شيء من الأوصاف المذكورة، إذن تكذيب القرآن وما زعمه المشركون لا يصح أن يؤخذ منه نفيه لما في الحديث.
فإن قيل: قد أطلق على تلك الحالة أنها سحر، ففي الحديث عن عائشة: «سحر رسول الله رجل…» والسحر من الشياطين، وقد قال الله تعالى للشيطان: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }.
قلت: أما الذي أخبر به النبي عن الملك فإنما سماها طبًا كما مر في الحديث، وقد أنشد ابن فارس في مقاييس اللغة (3: 408):
فإن كنت مطبوبًا فلا زلت هكذا ** وإن كنت مسحورًا فلا برأ السحر
وأقل ما يدل عليه هذا أن الطب أخص من السحر، وأن من الأنواع التي يصاب بها الإنسان ويطلق
184
عليها سحر ما يقال له: (طب) وما لا يقال (طب) وعلى كل حال فالذي ذكر في الحديث ليس من نوع ما زعمه المشركون، ولا هو من ملابسة الشيطان، وإنما هو أثر نفس الساحر وفعله، وقد قدمت أن وقوع أثر ذلك نادر فلا غرابة في خفاء تفسيره. وهذا يغني عما تقدم (ص 98).
ثم نقل أبو رية (ص261) فصلًا عن صاحب المنار فيه: (إن بعض أحاديث الآحاد تكون حجة على من ثبتت عنده واطمأن قلبه بها، ولا تكون حجة على غيره يلزم العمل بها).
أقول: عدم الثبوت والطمأنينة قد يكون لسبب بين، وقد يكون لسبب محتمل يقوي عند بعض أهل العلم ويضعف عند بعضهم، وقد يكون لما دون ذلك من هوى وزيغ وارتياب وتكذيب، وعلى الأمة أن تنزل كل واحد من هؤلاء منزلته بحسب ما يتبين من حاله، وكما أننا إذا رأينا من يتعبد عبادة غير ثابتة شرعًا فسألته فذكر حديثًا باطلًا فبينا له ذلك فقال: هو ثابت عندي مطمئن به قلبي. كان علينا أن ننكر عليه، وكان على ولي الأمر ومن في معناه منعه ومعاقبته، فكذلك إذا رأينا رجلًا ينفي حديثًا ثابتًا وبينا له ثبوته فقال: لم يثبت عندي ولم يطمئن به قلبي. ولم يذكر سببًا، أو ذكر سببًا لا يعتد به شرعًا.
قال: (ولذلك لم يكن الصحابة يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث ويدعون إليها…)
أقول: قد تقدم الكشف عن هذا (ص20-50).
قال: (ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحمل الناس على العمل بكتبه حتى الموطأ).
أقول: إنما أنكر الإلزام بالموطأ؛ لأنه يعلم أن فيه أحاديث أخذ بها هو وقد يكون عند غيره ما يخصصها، أو يقيدها أو يعارضها، وفيه توقف عن أحاديث قد يكون عند غيره ما يقويها ويؤيدها، وقد يكون عند غيره أحاديث لم يقف عليها هو. وفيه كثير مما قاله باجتهاده وفي الأمة علماء لهم أن يجتهدوا ويعملوا بما رجح عندهم وإن خالفوا مالكًا، وفوق هذا كله فهو يعلم أنه بنى على ما فهمه من القرآن ومن الأحاديث التي ذكرها، وأن في علماء الأمة من يخالفه في بعض ذلك الفهم. وعلى كل حال فليس في امتناع مالك من إلزام الأمة كلها علمائها وعامتها بقوله ما يقتضي أن لا يلزم بالعمل بالحديث من يعلم أنه ليس عنده من يخالفه إلا الهوى والزيغ والارتياب والتكذيب والعناد.
ثم قال (ص262): (وإنما يجب العمل…) كرر معنى ما تقدم.
185
قال: (أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد…).
أقول: راجع (ص182).
قال: (وكل من ظهر له علة في رواية حديث فلم يصدق رفعه لأجلها فهو معذور كذلك).
أقول: الصواب في هذا أن ينظر في تلك العلة ويعامل صاحبها بما يستحق كما مر.
قال: (ولا يصح أن يقال إنه مكذب لحديث كذا).
أقول: أما إن زعم أنه كذب فهو مكذب له، ولا يضره ذلك ما لم يلزمه أحد أمرين: إما تكذيب النبي ، وإما تكذيب صادق بغير حجة.
قال: (وهي تفيد الظن).
أقول: وفي هذا كلام معروف.
قال: (ومن القواعد الجليلة… أن طروء الاحتمال في المرفوع من وقائع الأحوال يكسوها ثوب الإجمال فيسقط به الاستدلال).
أقول: موضع هذا أن يحتمل الخبر وجهين ولا دليل فيه على أحدهما، فأما إذا كان أحدهما راجحًا فالحكم له.
ثم قال أبو رية (ص263) (ليس في الحديث متواتر…).
أقول: من نفى هذا إنما نفى التواتر اللفظي، فأما المعنوي فكثير، فلتراجع الكتب التي نقل عنها.
وذكر في الحاشية حديث الحوض، وكأنه استهزأ به، ومن استهزأ به فليس من أهله.