وأما الأعراب فإن الله تبارك وتعالى كشف أمرهم بموت رسوله ، فارتد المنافقون منهم، فيتبين أنه لم يحصل لهم بالاجتماع بالنبي ما يستقر لهم به اسم الصحبة الشرعية، فمن أسلم بعد ذلك منهم فحكمه حكم التابعين.
وأما مسلمة الفتح فإن الناس يغلطون فيهم يقولون: كيف يعقل أن ينقلبوا كلهم مؤمنين بين عشية وضحاها، مع أنهم إذا أسلموا حين قهروا وغلبوا ورأوا أن بقاءهم على الشرك يضر بدنياهم؟ والصواب أن الإسلام لم يزل يعمل في النفوس منذ نشأته. ويدلك على قوة تأثيره أمور:
الأول: ما قصه الله تبارك وتعالى من قولهم: { لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وقولهم: { إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا }.
الثاني: ما ورد من صدهم للناس أن يسمعوا القرآن حتى كان لا يرد مكة وارد إلا حذروه أن يستمع إلى
195
النبي ، ومن اشتراطهم على الذي أجار أبا بكر أن يمنعه من قراءة القرآن بحيث يسمعه الناس.
الثالث: وهو أوضحها إسلام جماعة من أبناء كبار رؤسائهم ومفارقتهم آباءهم قديمًا، فمنهم عمرو وخالد ابنا أبي أحيحة سعيد بن العاص، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل، وعبد الله وأبو جندل ابنا سهيل بن عمرو وغيرهم، وآباء هؤلاء هم أكابر رؤساء قريش وأعزهم وأغناهم، فارقهم أبناؤهم وأسلموا، فتدبر هذا، فقد جرت عادة الكتاب إذا ذكروا السابقين إلى الإسلام ذكروا الضعفاء فيتوهم القارئ أنهم أسلموا لضعفهم وسخطهم على الأقوياء وحبهم للانتقام منهم على الأقل؛ لأنه لم يكن لهم من الرياسة والعز والغنى ما يصدهم عن قبول الحق وتحمل المشاق في سبيله.
والحقيقة أعظم من ذلك كما رأيت، إلا أن الرؤساء عاندوا واستكبروا، وتابعهم أكثر قومهم مع شدة تأثرهم بالإسلام، فكان في الشبان من كان قوي العزيمة فأسلموا وضحوا برياستهم وعزهم وغناهم، متقبلين ما يستقبلهم من مصاعب ومتاعب، وبقي الإسلام يعمل عمله في نفوس الباقين، فلم يزل الإسلام يفشوا فيهم حتى بعد هجرة المصطفى ، ثم لما كان صلح الحديبية وتمكن المسلمون بعده من الاختلاط بالمشركين ودعوة كل واحد قريبه وصديقه فشا الإسلام بسرعة وأسلم في هذه المدة من الرؤساء خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة وغيرهم، والإسلام يعمل عمله في نفوس الباقين.
ونستيطع أن نجزم أن الإسلام كان قد طرد الشرك خرافاته من النفوس عقلاء قريش كلهم قبل فتح مكة، ولم يبق إلا العناد المحض يلفظ آخر أنفاسه، فلما فتحت مكة مات العناد ودخلوا في الإسلام الذي قد كان تربع في نفوسهم من قبل. نعم بقي أثر في صدور بعض الرؤساء فبسط لهم النبي التأليف يوم فتح مكة وبعده وآثرهم بغنائم حنين، ولم يزل يتحراهم بحسن المعاملة حتى اقتلع البقية الباقية من أثر العناد.
ثم كان من معارضة الأنصار بعد النبي لقريش في الخلافة واستقرار الخلافة لقريش غير خاصة ببيت من بيوتها، وخضوع العرب لها ثم العجم، ما أكد حب الإسلام في صدر كل قرشي، وكيف لا وقد جمع لهم إلى كل شبر كانوا يعتزون به من بطحاء مكة آلاف الأميال، وجعلهم ملوك الدنيا والآخرة، ومما يوضح لك ذلك أن الذين عاندوا إلى يوم الفتح كانوا بعد ذلك من أجد الناس في الجهاد،
196
كسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وعمه الحارث ويزيد بن أبي سفيان.
فأما ما يذكره كثير من الكتاب من العصبية بين بني هاشم وبني أمية فدونك الحقيقة:
شمل الإسلام الفريقين ظاهرًا وباطنًا، وكما أسلم قديمًا جماعة من بني هاشم فكذلك من بني أمية كابني سعيد بن العاص وعثمان بن عفان وأبي حذيفة بن عتبة، وكما تأخر إسلام جماعة من بني أمية فكذلك من بني هاشم، وكما عاداه بعض بني أمية فكذلك بعض بني هاشم كأبي لهب بن عبد المطلب وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ونزل القرآن يذم أبي لهب ولا نعلمه نزل في ذم أموي معين. وتزوج النبي بنت أبي سفيان بن حرب الأموي ولم يتزوج هاشمية. وزوج إحدى بناته في بني هاشم وزوج ثلاثًا في بني أمية. فلم يبق الإسلام في أحد الجانبين حتى يحتمل أن يستمر هدفًا لكراهية الجانب الآخر. بل ألف الله بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانًا وأصبح الإسلام يلفهم جميعًا: يحبونه جميعًا ويعظمونه جميعًا ويعتزون به جميعًا، ويحاول كل منهم أن يكون حظه منه أوفر، ولم تكن بين فتح مكة وبين ولاية عثمان الخلافة نفرة ما بين العشيرتين، فلما كانت الشورى وانحصر الأمر في علي وعثمان فاختير عثمان وجدت الأوهام منفذًا إلى الخواطر، ثم لما صار في أواخر خلافة عثمان جماعة من عشيرته بني أمية أمراء وعمالًا وصار بعض الناس يشكوهم، أشيعت عن علي كلمات يندد بهم ويتوعدهم بأنه إذا ولى خلافة عزلهم وأخذ أموالهم وفعل وفعل، ثم كانت الفتنة وكان لبعض من يُعد من أصحاب علي إصبع فيها، حتى قتل عثمان وقام قتلته بالسعي لمبايعة علي فبويع له وبقي جماعة منهم في عسكره، فمن تدبر هذا وجد هذه الأسباب العارضة كافية لتعليل ما حدث بعد ذلك، إذن فلا وجه لإقحام ثارات بدر وأحد التي أماتها الإسلام وما حكي مما يشعر بذلك لا صحة له البتة، إلا نزغة شاعر فاجر في زمن بني العباس يصح أن تعد من آثار الإسراف في النزاع لا من مؤثراته، وجرى من طلحة والزبير ما جرى فأي ثأر لهما كان عند بني هاشم؟
وبهذا يتضح جليًا أن لا مساغ البتة؛ لأن يعلل خلاف معاوية يطلبه بثأر من قتل من آله ببدر، ثم يتذرع بذلك إلى الطعن في إسلامه، ثم في إسلامه نظرائه!
فإن قيل: مهما يكن من حال الصحابة فإنهم لم يكونوا معصومين فغاية الأمر أن يحملوا على العدالة ما لم يتبين
197
خلافها، فلماذا يعدل المحدثون من تبين ما يوجب جرحه منهم؟
فالجواب من أوجه:
الأول أنهم تدبروا ما نقل من ذلك فوجدوه ما بين غير ثابت نقلًا أو حكمًا أو زلة تيب منها أو كان لصاحبها تأويل.
الوجه الثاني: أن القرآن جعل الكذب على الله كفرًا، قال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } والكذب على النبي ص في أمر الدين والغيب كذب على الله، ولهذا صرح بعض أهل العلم بأنه كفر، واقتصر بعضهم على أنه من أكبر الكبائر، وفرق شيخ الإسلام ابن تيمية بين من يخبر عن النبي ص بلا واسطة كالصحابي إذا قال: قال النبي ص كذا، وبين غيره، فمال إلى تعمد الأول للكذب كفر وتردد في الثاني. ووقوع الزلة أو الهفوة من الصحابي لا يسوغ احتمال وقوع الكفر منه. هب أن بعضهم لم يكن يرى الكذب على النبي ص كفرًا، فإنه -علىكل حال- يراه أغلظ جدًا من الزلات والهفوات المنقولة.
الوجة الثالث: أن أئمة الحديث اعتمدوا فيمن يمكن التشكك في عدالته من الصحابة اعتبارًا لما ثبت أنهم حدثوا به عن النبي ص أو عن صحابي آخر عنه، وعرضوها على الكتاب والسنة وعلى رواية غيرهم مع ملاحظة أحوالهم وأهوائهم، فلم يجدوا من ذلك ما يوجب التهمة، بل وجدوا عامة ما رووه قد رواه غيرهم من الصحابة ممن لا تتجه إليه تهمة، أو جاء في الشريعة ما في معناه أو ما يشهد له، وراجع (ص64) وهذا الوليد بن عقبة بن أبي معيط يقول المشنعون: ليس من المهاجرين والأنصار، إنما هو من الطلقاء. ويقولون: إن النبي ص لما أمر بقتل أبيه عقب بدر قال يا محمد فمن للصْبية؟ يعني بنيه. فقال النبي ص: «لهم النار…». ويقولون إن هو الذي أنزل الله تعالى فيه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } فنص القرآن أنه فاسق يجب التبين في خبره، ويقولون: إنه في زمن عثمان كان أميرًا على الكوفة فشهدوا عليه أنه شرب الخمر وكلم علي عثمان في ذلك فأمره أن يجلده، فأمر علي عبد الله بن جعفر فجلده، ومنهم من يزيد أنه صلى بهم الصبح سكران فصلى أربعًا ثم التفت فقال: أزيدكم؟ وكان الوليد أخا عثمان لأمه، فلما قتل عثمان صار الوليد ينشء الأشعار يتهم عليًا بالممالأة على قتل عثمان ويحرض معاوية على قتال علي.
198
هذا الرجل أشد ما يشنع به المعترضون على إطلاق القول بعدالة الصحابة، فإذا نظرنا إلى رواياته عن النبي ص لنرى كم حديثًا روى في فضل أخيه وولي نعمته عثمان؟ وكم حديثًا روى في ذم الساعي في جلده الممالئ على قتل أخيه في ظنه علي؟ وكم حديثًا روى في فضل نفسه ليدافع ما لحقه من الشهرة بشرب الخمر؟ هالنا أننا لا نجد له رواية البتة، اللهم إلا أنه يوجد عنه حديث في غير ذلك لا يصح عنه، وهو ما رواه أحمد وأبو داود من طريق رجل يقال له أبو موسى عبد الله الهمداني عن الوليد بن عقبة قال: (لما فتح النبي ص مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رءوسهم ويدعو لهم، فجيئ بي إليه وأنا مطيب بالخلوق فلم يمسح رأسي، ولم يمنعه من ذلك إلا أن أمي خلقتني بالخلوق، فلم يمسني من أجل الخلوق).