فيكثر غلطه، ومنهم الضابط المتقن المثبت الذي يندر جدًا أن يخطئ، وليس كل ما يصلح مستندًا للتوقف عن خبر الأول أو رده يصلح لمثل ذلك في خبر الثاني. فأما الصدق وتعمد الكذب ولاسيما في الحديث النبوي فالأمر فيها أعظم، وللكذب دواع وموانع، والناس متفاوتون جدًا في الانقياد للدواعي أو الموانع، فإني أعرف من الأغنياء الوجهاء من يساوم بالسلعة الخفيفة، فيقول له الدكاني: ثمنها ثلاثة قروش، فيقول كاذبًا: إن صاحب ذلك الدكان يبيعها بقرشين، يكذب هذه الكذبة طبعًا في أن يغر الدكاني فيعطيه إياها بقرشين مع علمه أن كذبه قد ينكشف عن قريب، بل إذا نجح فأخذها بقرشين، قد يذهب فيخبر بالقصة متمدحًا بكذبته، وأعرف من المقلين من لا تسمح له نفسه بمثل هذا الكذب ولو ظن أنه يتحصل به على مقدار كبير، فأما الحديث النبوي فالأمر فيه أشد، والمتدينون من الكذب فيه أبعد وأبعد. فإن قيل: قد ذكر أهل الحديث أن جماعة صالحين كانوا يكذبون في الحديث عمدًا في المواعظ ونحوها،
207
وذكروا في الهيثم بن عدي -وهو ممن يكذبون- أنه كان يقوم عامة الليل يصلي، فإذا أصبح جلس يكذب.
قلت: أما صالحٌ يتعمد الكذب فلا يكون إلا شديد الجهل بالدين، ومثل هذا نادر لا يسوغ أن يقاس به من عرف بالدين والعلم والصدق، ولو ساغ هذا لساغ أن يتهم كل إنسان بكل نقيصة عرفت لغيره، ولو عرف بأنه من أبعد الناس عنها.
فأما الهيثم بن عدي فتلك الحكاية إنما حكاها عباس الدوري قال: (حدثنا بعض أصحابنا قال: قالت جارية الهيثم بن عدي: كان مولاي …) والجارية لا يعرف حالها، والمخبر عنها لا يدرى من هو وما حاله، وإنما ذكروا هذه الحكاية على أنها نادرة مستطرفة؛ لأن مثل هذا نادر كما مر، وإنما استندوا في تكذيب الهيثم إلى دلائل ثابتة. هذا وعلماء السنة لا يستندون في التصديق والتكذيب إلى أن ذاك يروقهم وهذا لا يعجبهم، ولكنهم ينظرون إلى الرواة فمن كان من أهل الصدق والأمانة والثقة لا يكذبونه، غير أنهم إذا قام الدليل على خطئه خطأوه - سواء كان ذلك فيما يسوءهم أم فيما يعجبهم. وأما من كان كذابًا أو متهمًا أو مغفلًا أو مجهولًا أو نحو ذلك فإنهم لا يحتجون بروايته. ومن هؤلاء جماعة كثير قد رووا عنهم في كتب التفسير وكثير من كتب الحديث والسير والمناقب والفضائل والتاريخ والأدب، وليست روايتهم عنهم تصديقًا لهم وإنما هي على سبيل التقييد والاعتبار، فإذا جاء دور النقد جروا على ما عرفوه، فما ثبت عما رواه هؤلاء برواية غيرهم من أهل الصدق قبلوه، وما لم يثبت فإن كان مما يقرب وقوعه لم يروا بذكره بأسًا وإن لم يكن حجة، وإن كان مما يستبعد أنكروه، فإن اشتد البعد كذبوه، وهذا التفصيل هو الحق المعقول، ومعلوم أن الكذوب قد يصدق فإذا صدقناه حيث عرفنا صدقه واستأنسنا بخبره حيث يقرب صدقه لم يكن علينا -بل لم يكن لنا- أن نصدقه حيث لم يتبين لنا صدقه، فكيف إذا تبين لنا كذبه؟
منزلة القواعد النظرية


أما القواعد النظرية قديمها وحديثها فحقها أن تضاف -كما أشار إليه الدكتور- إلى القواعد السندية بعد دراسة الناقد لهذه دراسة وافية وإيفائها حقها. فأما الاقتصار على القواعد النظرية أو ترجيح غير القطعي الحقيقي منها على رواية الثقات الأثبات، أو الاستدلال به على صدق الحكايات الواهية فضرره أكثر من نفعه، كثيرًا ما يبلغنا حدوث حادثة في عصرنا هذا فنرى صحتها؛ لأننا نرى أن الأسباب تستدعيها وتكاد توجب وقوعها، ثم يتبين أنها لم تقع، وتبلغنا واقعة فنرتاب فيها ونكاد نجزم بتكذيبها، ثم تبين أنها وقعت،
208
فإن قيل: إنما ذلك لخطئنا في اعتقاد أن هذا سبب أو مانع، أو في تقدير قوته، أو لجهلنا بأسباب وموانع أخرى أقوى مما عرفناه، قلت: فإذا كان هذا جهلنا بزماننا ومكاننا وبيئتنا، فكيف بما مضى عليه بضعة عشر قرنًا؟
ومما يجب التنبيه له أنه قد يثبت من جهة السند نص يستنكره بعض النقاد، وحق مثل هذا أن لا يبادر إلى رده، بل يمعن النظر في أمرين: الأول: معنى النص، فقد يكون المراد منه معنى غير الذي استنكر، الثاني: سبب الاستنكار، فكثيرًا ما يجيء الخلل من قِبَله.
وقد تقضي القرائن وقوع أمر سكتت عنه الروايات الصحيحة وترد رواية واهية السند فيها ما يؤدي ذاك الأمر في الجملة فيبادر الناقد إلى تثبيتها، وفي هذا ما فيه، ألا ترى أنه قد يجيئك شخص ضربه آخر فتسأله: لم ضربك؟ فيقول: بلا سبب، فترتاب في صدقه، فإذا جاء خصمه فقال: إنما ضربته؛ لأنه سبني سبًا شنيعًا، قال كيت وكيت، ظننت أنه صادق في الجملة، أي أنه قد كان سب، ولكنه قد يكون دون ما ذكره الضارب بكثير، فالصواب أن تذكر الرواية وأنها واهية السند، ثم يقال: ولكن القرائن تقتضي أنه قد كان شيء من ذاك القبيل، هذا هو مقتضى التحقيق والأمانة.
ثم قال أبو رية (ص 328) (طالب الحديث بغير فقه…).
أقول: قال أبو رية (ص46) (وروى البخاري ومسلم عن النبي قال: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب بها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ»).
إذا طبق هذا الحديث على أهل الحديث فثقاتهم كلهم داخلون في الفرقتين الأوليين المحمودتين، راجع فتح الباري (1/161) وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي عند الترمذي وغيره «نضر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه». فشمل الدعاء كما ترى من حفظ وبلغ وإن لم يكن فقيهًا.
وذكر عن الثوري: «لو كان الحديث خيرًا لذهب كما ذهب الخير».
أقول: لم يقصد نفي الخير عن هذا الحديث نفسه، كيف والقرآن خير كله ولم يذهب. ولا عن طلب الحديث جملة،
209
فإن المتواتر المعلوم قطعًا عن الثوري خلاف ذلك؛ وإنما قصد أن كثيرًا من الناس يطلبون الحديث لغير وجه الله وذلك أنه رأى أن الرغبة في الخير المحض لم تزل تقل، كانت في الصحابة أكثر منها في التابعين، وفي كبار التابعين أكثر منها في صغارهم وهلم جرا، وفي جانب ذلك رأى رغبة الناس في طلب الحديث لم تنقص، فرأى أنها ليست خيرًا على الإطلاق، يعني أن كثيرًا ممن يطلب الحديث يطلبه ليذكر ويشتهر ويقصده الناس ويجتمعوا حوله ويعظموه. وأقول: إن العليم الخبير أحكم الحاكمين كما شرع الجهاد في سبيله لإظهار دينه، ومع ذلك يسر ما يرغب فيه من جهة الدنيا، فكذلك شرع حفظ السنة وتبليغها، ومع ذلك يسر ما يرغب في ذلك من جهة الدنيا؛ لأنه كما يحصل بالجهاد عن الإسلام وإن قل ثواب بعض المجاهدين فكذلك يحصل بطلب الحديث وحفظه حفظ الدين ونشره وإن قل أجر بعض الطالبين.