الدكتور : عماد عطا البياتيكنت وبعد مناوبة الصباح وأكمال عملي الصباحي في المستشفى أذهب في بعض الأحيان الى مدرسة الايمان في وقت الظهيرة فيفرح بقدومي استاذها ويجلس بهمة ونشاط ويبدأ بالحديث معي.. كان الكلام يخرج بقوة وبحرقة ومن القلب وخلاصة تجارب كبيرة وعظيمة فيقول لي:
يا عماد: هل تعرف ما هي مشكلتنا الأساسية؟.
فأقول : لا.
فيقول لي باللغة العربية البسيطة : "أحنا نفسنا ضاحكة علينا".
ثم يكلمني كلام تفصيلي طويل وعميق ومهم جدآ لا أجد مثله في الكتب أو في المحاضرات والخطب والدروس الإسلامية المختلفة وكنت وإلى الآن أندهش بسبب ذلك كثيرا. ويذكر لي تجارب وأمثلة مختلفة وكيف أن هذا الأمر العظيم والمهم وهذه الكارثة الكبيرة والداء العضال قد أصاب المسلمين أفرادا وجماعات وأحزاب ومدارس وتوجهات وبالرغم من ذلك فإن الوعي حوله نادر وشحيح مع الأسف الشديد.
نعم.. "نفسنا ضاحكة علينا"..
تذكرت هذه العبارة مؤخرا (عفوا.. كلمة "تذكرت" غير مناسبة هنا كوني لم أنسى المعنى النظري لهذه العبارة منذ سماعي لها وتأثري بها من قبل 15 عاما تقريبا، وأنا عاقد العزم على عدم نسيانها ما حييت وسأعلمها لأولادي وأوصيهم بفهم المعاني التربوية الإيمانية العظيمة التي تتضمنها ونشرها وتعليمها للآخرين إن شاء الله تعالى). أقول ألحت على فكري هذه العبارة الجامعة مؤخرا وسأروي لكم سبب ذلك:
عملت مؤخرا في ردهة العيون لمدة أسبوعين ثم شاركت في دورة تختص بتطوير وتنمية الموارد البشرية مدتها يومان.. وفي هذه الدورة تم طرح موضوع السلوك البشري التلقائي وكيفية تنميته وتزكيته ليتسم بالإيجابية وذكروا لنا أن 70% تقريبا من تصرفات الإنسان هي تلقائية ويقدم عليها دون تفكير مسبق لأنه اعتاد على فعلها مرات كثيرة ولفترات طويلة ولا يحتاج معها إلى التفكير والتأمل قبل الفعل، ومثال ذلك التصرفات اليومية في الأكل والشرب والسلام على الناس والتصرفات في حالة الفرح والغضب وفي المواقف المحرجة وغير ذلك كثير. وهذا ملاحظ ومشاهد حتى أنه يمكن لنا ان نتوقع تصرفات وردود أفعال الأشخاص القريبين منا في المواقف المختلفة كوننا نعرف طباعهم وتصرفاتهم وخبرناها لفترات طويلة ولا نتوقع منهم غيرها وغالبا ما يأتي التصرف أو رد الفعل حسب المتوقع. وقد تكون هذه التصرفات والمواقف إيجابية أو سلبية لكن من الصعب على الإنسان أن يغير ذلك والأمر يحتاج إلى تفكير وتخطيط مسبق ثم التدرب على التصرف الجديد الإيجابي والمراد له أن يحل محل التصرف القديم السلبي.
هذا بديهي وملاحظ.. ولكن الامر السلبي في هذه النقطة انه لو كان هذا التصرف غير موافق للشرع ولا يرضاه الخالق العظيم جل جلاله ويخالف أوامر القرآن وتعاليم النبي محمد صلى الله عليه وسلم.. ماذا سيكون الحال؟ وكيف سنتصرف؟ وكيف سنغير الحال السيء الى الحال الجيد؟.
طبعاً ان ذلك يتطلب جهداً كبيراً للتفكير والتأمل والاستدراك ومحاولة التشخيص والتغيير لجماح النفس التي تميل الى التصرف حسب ما اعتادت عليه سابقاً.
نعم "نفسنا ضاحكة علينا"..
والموضوع يتطلب ان نخرج هذا الخلق او الطبع او التصرف من دائرة العمل التلقائي الى العمل الواعي الذي يسبقه التفكير والتخطيط والعزم والتنفيذ وهذا هو مفهوم "النية"، المفهوم العظيم والاساسي والمهم في الاسلام.
نعم نحتاج ان نفعل الشيء الايجابي او الصحيح او الجديد والذي لم نعتد عليه سابقاً فترة من الزمن الى ان يصبح عادة مألوفة وفعل تلقائي لا يحتاج الى تفكير وتخطيط ثم نرجعه الى دائرة التلقائية..
وجدت في هذه الدورة شروح وتفصيلات لمقام المجاهدة.. اي مجاهدة النفس وتغيير ما فيها من طباع سيئة وكبح لجماحها المنفلت، ولكن باسلوب مادي نظري بحت.
نعم .."نفسنا ضاحكة علينا"..
وتذكرت كيف راودتني في العمل خواطر سيئة في مواقف معينة بسبب الاختلاط والانفلات اتعبتني واخرتني كثيراً وحيناً من الدهر فعزمت على مجاهدة ذلك فكتبت لافتة بخط اليد وضعتها أمام مكتبي مكتوب عليها بخط اليد الواضح "ووضع الكتاب" وذلك لاتذكر الآية الكريمة في سورة الكهف ولاتذكر ان الله سبحانه وتعالي سيحاسبنا على كل صغيرة وكبيرة.. وبدأت اسرع الى المكان الذي اعلق فيه هذه الكلمات في القرآن الكريم كلما أمر في هذا الموقف العصيب.. واستمر هذا الحال شهرا تقريباً.. ثم ذهب وانزاح عني ورحت اقاومه بسلاسة وذلك بتذكر الكلمات ثم الايه الكريمة.. فاتذكر في الحال ان الله سبحانه وتعالى سيحاسبني على الصغير والكبير دون الحاجة إلى الإسراع للغرفة والنظر الى الكلمات.
وجدت في هذا المثال مجاهدة ناجحة مارستها عمليا تنطبق تماما مع ما يشرحه القوم في هذه الدورة الخاصة بتنمية الموارد البشرية العاملة في مجال الصحة وينسبون طرقهم الذكية هذه الى علماء معاصرين يدّعون بأنهم أول من توصل إلى هذه الطرق والمفاهيم والأفكار وأول من ألف في شرحها المقالات والكتب.
حسناً.. مثال آخر ولكنه نظري بحت تفكرت فيه ولم أطبقه عمليا..
عندما أنظر الى فتاة فاتنة تمشي في الشارع فكيف سأتصرف حينها؟.. سأحاول أن أكون صريحا مع نفسي ومع الآخرين.. نعم.. سأغض بصري في الحال ثم يبدأ بعدها قلبي بالانشغال ويخفق بسرعة كبيرة ثم انظر من حولي يمنة ويسرة لاعرف ان كان احد من الناس ينظر الي ثم انظر الى الفتاة الفاتنة نظرة غبية اخرى فتنطبع صورتها في مخيلتي لتشغلني وتؤذيني في باقي يومي وليلتي ليبدأ بعدها اللوم والحسرة والندم والانحطاط.
نعم.. "نفسنا ضاحكة علينا"..
هذا هو واقع الحال الغبي المزري السلبي.. نظرياً يحتاج الموضوع الى مجاهدة وتدريب عملي على التصرف الإيجابي المحمود ومثال على ذلك هو أن أضع في جيبي صورة لتركيب العين وأحاول ولفترة من الزمن ان انقل هذا الفعل من التلقائية الى التفكير والتخطيط والنية والفعل الصحيح حتى لاتضحك علي نفسي فيما تبقى من عمري.
نعم.. عندما انظر الى فتاة جذابة مرة ثانية ساخرج صورة تركيب العين من جيبي فأتفكر في خلق الرموش ومحجر العين والحواجب والقرنية والقزحية والبؤبؤ والجسم الزجاجي والشبكية والعصب البصري ومركز البصر في الدماغ وفي آليات الإبصار الدقيقة البديعة المدهشة المعجزة.
نعم سأتفكر في هذا الخلق الرائع والبديع والمذهل.. ثم أحاول الارتقاء بالتفكر لاصل بعدها الى مشاهدة بعضاً من معاني صفات وأسماء الخالق العظيم البديع القدير سبحانه وما امرني به من غض البصر فلا ارفع بصري ثانية لاطبع الصورة السيئة في ذاكرتي.
نعم.. ساتدرب على ذلك لمدة 3-6 اشهر حتى اعتاد على الامر ويصبح طبعاً سهلاً وسلساً وبديهيا وموافقاً للشرع ومرضياً لله ورسوله.
نعم تستطيع انت ان تجرب مثلاً بدلا من التفكر في خلق العين تذكر آية عذاب أو آية رحمة أو نعمة أو ثواب غض البصر أو أي أمر إيجابي تعتقد أنه يؤثر في نفسك ويمنعك من النظر الحرام وتمرن على ذلك فترة من الزمن حتى يصبح طبعاً وخلقاً بديهياً.
نعم هذه بعضا من أساليب المجاهدة النظرية التي خطرت في ذهني، ثم تذكرت موسوعة صفة الصفوة وما فيها من أساليب مجاهدة ربانية مؤمنة راقية وحضارية وعبقرية لأجيال المسلمين الأولى من المؤمنين الأذكياء العباقرة.. فقلت: نعم.. هذا هو التعامل المثالي مع النفس وهؤلاء هم المبدعون الحقيقيون في فنون مجاهدة النفس وتطويعها للعمل الصالح ولمرضات الله.. ألم نسمع قوله تعالى "قد افلح من زكاها"؟، نعم نقرؤه ونسمعه ولكن: أين الإقتداء الحقيقي؟.. "نفسنا ضاحكة علينا".
تفكرت في اخلاق وطباع وصفات سيئة اتخلق بها لسنين طويلة، ولا تبديل لا تغيير ولا تحويل ولا مجاهدة.. هذه هي مشكلتي الأساسية، ربما هذا هو جزء من معاني الكلمة الشهيرة لاستاذ مدرسة الإيمان "نفسنا ضاحكة علينا".
والأمر يتعداني ويتعدى الأفراد.. انظر فأرى من حولي افرادا وجماعات او مدارس او احزاب وعلى مداد سنين طويلة والحال هو الحال.. لا تغيير ولا تبديل ولا تطوير ولا تنمية حقيقية علمية راقية للموارد البشرية ولا مجاهدة ولا ترقّي..
وكل هذا ربما بسبب أن "نفسنا ضاحكة علينا"..
ندعوا الله ان يصلح حالنا والمسلمين إنه سميع الدعاء.
يا خير من دفنت في الترب أعظمه *** فطاب من طيبهـن القـاع والأكـم
نفسي الـفـداء لـقبـر أنـت ساكـنـه *** فيه العفاف وفيـه الجـود والكـرم
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)