يعلمون بأن المحبة هي الزهرة الوحيدة التي تنبت بغير معاونة الفصول. ولكن هل هو نيسان الذي جمعنا لأول مرة وهل هي هذه الساعة التي أوقفتنا في قدس أقداس الحياة؟ أما جمعت روحينا قبضة الله قبل أن تصيرنا الولادة أسيري الأيام والليالي؟ إن حياة الإنسان يا سلمى لا تبتدئ في الرحم كما أنها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الوسيع المملوء بأشعة القمر والكواكب لا يخلو من الأرواح المتعانقة بالمحبة والنفوس المتضامنة بالتفاهم". ورفعت سلمى يدها بلطف عن رأسي تاركة بين مغارس الشعر تموجات كهربائية يتلاعب بها نسيم الليل فيزيدها نمواً وحراكاً. فأخذت تلك اليد براحتي نظير متعبد يتبرك بلثم المذبح ووضعتها على شفتي الملتهبتين وقبلتها قبلة طويلة عميقة خرساء تذيب بحرارتها كل ما في القلب البشري من الإحساس، وتنبه بعذوبتها كل ما في النفس الإلهية من الطهر.
ومرت علينا ساعة كل دقيقة منها شغف ومحبة تساورنا سكينة الليل وتغمرنا أشعة القمر وتحيط بنا الأشجار والرياحين حتى إذا ما بلغنا تلك الحالة التي ينسى فيها الإنسان كل شيء سوى حقيقة الحب سمعنا وقع حوافر وهدير مركبة تقترب منا مسرعة فانتبهنا من تلك الغيبوبة اللذيذة وهبطت بنا اليقظة من عالم الأحلام إلى هذا العالم الواقف بمسيره بين الحيرة والشقاء فعرفنا بأن الوالد الشيخ قد عاد من دار المطران فنهضنا وسرنا بين الأشجار ننتظر وصوله.
وبلغت المركبة مدخل الحديقة فترجل فارس كرامة وسار نحونا منحني الرأس بطيء الحركة ونظير متعب رازح تحت حمل ثقيل تقدم نحو سلمى ووضع كلتا يديه على كتفيها وأحدق بوجهها طويلاً كأنه يخاف أن تغيب صورتها عن عينيه الضئيلتين. ثم انسكبت دموعه على وجنتيه المتجعدتين وارتجفت شفتاه بابتسامة محزنة وقال بصوت مخنوق "عما قريب يا سلمى، عما قريب تخرجين من بين ذراعي والدك إلى ذراع رجل آخر. عما قريب تسير بك سنة الله من هذا المنزل المفرد إلى ساحة العالم الوسيع فتصبح هذه الحديقة مشتاقة إلى وطء قدميك ويصير والدك غريباً عنك، لقد لفظ القدر كلمته يا سلمى فلتباركك السماء وتحرسك".
سمعت سلمى هذه الكلمات فتغيرت ملامحها وجمدت عيناها كأنها رأت شبح الموت منتصباً أمامها. ثم شهقت وتململت متوجعة كعصفور رماه الصياد فهبط على الحضيض مرتجفاً بآلامه ــ وبصوت تقطعه الغصات العميقة صرخت قائلة "ماذا تقول؟ ماذا تعني؟ إلى أين تريد أن تبعث بي؟".
ثم شخصت به كأنها تريد أن تزيل بنظراتها الغلاف عن مخبآت صدره. وبعد دقيقة مثقلة بعوامل ذلك السكون الشبيه بصراخ القبور قالت متأوهة "قد فهمت الآن... قد عرفت كل شيء... إن المطران قد فرغ من حبك قضبان القفص الذي أعده لهذا الطائر المكسور الجناحين فهل هذه هي إرادتك يا والدي؟".
فلم يجبها بغير التنهدات العميقة ثم أدخلها الدار وأشعة الحنو تنسكب من ملامحه المضطربة. فبقيت أنا واقفاً بين الأشجار والحيرة تتلاعب بعواطفي مثلما تتلاعب العواصف بأوراق الخريف. ثم اتبعتهما إلى القاعة ــ وكي لا أظهر بمظهر طفيلي يميل إلى استطلاع الخصوصيات أخذت يد الشيخ مودعاً ونظرت إلى سلمى نظرة غريق تلفت نحو نجم لامع في قبة الفلك. ثم خرجت دون أن يشعروا بخروجي ولكنني ما بلغت أطراف الحديقة حتى سمعت صوت الشيخ منادياً فالتفت وإذا به يتبعني فعدت إلى لقائه، ولما دنوت منه أمسك بيدي، وقال بصوت مرتعش "سامحني يا بني فقد جعلت ختام ليلتك مكتنفاً بالدموع، ولكنك سوف تجيء إليّ دائماً ــ أليس كذلك. ألا تزورني عندما يصير هذا المكان خالياً إلا من الشيخوخة المحزنة؟ إن الشباب الغض لا يستأنس بالشيخوخة الذابلة كما أن الصباح لا يلتقي المساء ــ أما أنت فسوف تجيء إليّ لتذكرني بأيام الصبا التي صرفتها بقرب أبيك، وتعيد على مسمعي أخبار الحياة التي لم تعد تحسبني من أبنائها.. أليس كذلك؟ ألا تزورني عندما تذهب سلمى، وأصبح وحيداً منفرداً في هذا المنزل البعيد عن المنازل؟"
لفظ الكلمات الأخيرة بصوت منخفض متقطع، ولما أخذت يده وهززتها صامتاً أحسست بقطرات الدموع السخينة قد تساقطت على يدي من أجفانه، فارتعشت نفسي في داخلي وشعرت نحوه بعاطفة بنوية عذبة محزنة تتمايل بين ضلوعي وتتصاعد كاللهاث إلى شفتي ثم تعود كالغصات إلى أعماق قلبي ــ ولما رفعت رأسي ورأى أن دموعه قد استدرت الدموع من أجفاني انحنى قليلاً ولمس بشفتيه المرتجفتين أعالي جبهتي، ثم قال محولاً وجهه نحو باب المنزل "مساء الخير .. مساء الخير يا بني".
إن دمعة واحدة تتلمع عن وجنة شيخ متجعدة لهي أشد تأثيراً في النفس من كل ما تهرقه أجفان الفتيان.
إن دموع الشباب الغزيرة هي مما يفيض من جوانب القلوب المترعة. أما دموع الشيوخ فهي من فضلات العمر تنسكب من الأحداق. هي بقية الحياة في الأجساد الواهنة، الدموع في أجفان الشبيبة كقطرات الندى على أوراق الوردة. أما الدموع على وجنة الشيخوخة فأشبه بأوراق الخريف المصفرة التي تنثرها الأرياح وتذريها عندما يقترب شتاء الحياة.
واختفى فارس كرامة وراء مصارع الباب وخرجت أنا من تلك الحديقة وصوت سلمى يتموج في أذني وجمالها يسير كالخيال أمام عيني ودموع والدها تجف ببطء على يدي. خرجت من ذلك المكان خروج آدم من الفردوس ولكن حواء هذا القلب لم تكن بجانبي لتجعل العالم كله فردوساً. . خرجت شاعراً بأن تلك الليلة التي ولدت فيها ثانية هي الليلة التي لمحت فيها وجه الموت لأول مرة.