قالت هذه الكلمات وقد ابتلعت الغصات أواخرها ثم عادت وسترت وجهها بيديها كأن ذكرى الماضي قد تجسدت ووقفت أمامها فلم تشأ أن تراها، فوضعت يدي على شعرها قائلاً "تعالي يا سلمى ــ تعالي ننتصب كالأبراج أمام الزوبعة. هلمي نقف كالجنود أمام الأعداء متلقين شفار السيوف بصدورنا لا بظهورنا. فإن صرعنا نموت كالشهداء وإن تغلبنا نعيش كالأبطال... إن عذاب النفس بثبات أمام المصاعب والمتاعب لهو أشرف من تقهقرها إلى حيث الأمن والطمأنينة فالفراشة التي تظل مرفرفة حول السراج حتى تحترق هي أسمى من الخلد الذي يعيش براحة وسلامة في نفقه المظلم. والنواة التي لا تحتمل برد الشتاء وثورات العناصر لا تقوى على شق الأرض ولن تفرح بجمال نيسان... هلمي نسير يا سلمى بقدم ثابتة على هذه الطريق الوعرة رافعين أعيننا نحو الشمس كيلا نرى الجماجم المطروحة بين الصخور، والأفاعي المنسابة بين الأشواك، فإن أوقفنا الخوف في منتصف الطريق أسمعتنا أشباح الليل صراخ الاستهزاء والسخرية، وإن بلغنا قمة الجبل بشجاعة فترنم معنا أرواح الفضاء بأنشودة النصر والاستظهار. خففي عنك يا سلمى وجففي دموعك واخفي هذه الكآبة الظاهرة على محياك وقومي نجلس بجانب فراش والدك لأن حياته من حياتك وشفاءه بابتسامتك.
فنظرت إليّ نظرة ملؤها الحنان والرأفة والانعطاف ثم قالت "أتطلب مني الصبر والتجلد وفي عينيك معنى اليأس والقنوط؟ أيعطي الفقير الجائع خبزه إلى الجائع الفقير أو يصف العليل دواء لعليل آخر وهو أحرى بالدواء؟".
ثم وقفت وسارت أمامي منحنية الرأس إلى غرفة والدها.
جلسنا أمام مضجع الشيخ العليل وسلمى تتكلف الابتسام وهدوء البال وهو يتكلف الراحة والقوة، وكل منهما شاعر بلوعة الآخر عالم بضعفه سامع غصات قلبه. فكانا مثل قوتين متضارعتين تفنيان بعضهم بعضاً في السكينة، والد دنف يذوب ضنى لتعاسة ابنته وابنة محبة متوجعة بعلة والدها. نفس راحلة ونفس يائسة تتعانقان أمام الحب والموت وأنا بينهما أتحمل ما بي وأقاسي ما بهما؛ ثلاثة جمعتهم يد القضاء ثم قبضت عليهم بشدة حتى سحقتهم؛ شيخ يمثل بيتاً قديماً هدمه الطوفان وصبية تحاكي زنبقة قطع عنقها حد المنجل، وفتى يشابه غرسة ضعيفة لوت قامتها الثلوج، وجميعنا مثل ألعوبة بين أصابع الدهر.
وتحرك الشيخ إذا ذاك بين اللحف ومد يده النحيلة نحو سلمى وبصوت أودعه كل ما في قلب الأب من الرقة والرأفة وكل ما في صدر العليل من السقم والألم قال: "ضعي يدك في يدي يا سلمى".
فمدت يدها وألقتها بين أصابعه فضمها بلطف ثم زاد قائلاً "لقد شبعت من السنين يا ولدي. قد عشت طويلاً وتلذذت بكل ما تثمره الفصول وتمتعت بكل ما تبرزه الأيام والليالي. قد لاحقت الفراش صبياً وعانقت الحب فتىً وجمعت المال كهلاً وكنت في هذه الأدوار سعيداً مغبوطاً... فقدت أمك يا سلمى قبل أن تبلغي الثالثة ولكنها أبقتك لي كنزاً ثميناً فكنت تنمين بسرعة نمو الهلال، وتنعكس على وجهك ملامح أمك مثلما تنعكس أشعة النجوم في حوض ماء هادئ، وتظهر أخلاقها ومزاياها بأعمالك وأقوالك ظهور الحلي الذهبية من وراء النقاب الرقيق، فتعزيت بك يا ولدي لأنك كنت مثلها جميلة وحكيمة... والآن قد صرت شيخاً طاعناً وراحة الشيوخ بين أجنحة الموت الناعمة، فتعزي يا ولدي لأنني بقيت لأراك امرأة كاملة وافرحي لأني سأبقى بك حياً بعد موتي. إن ذهابي الآن مثل ذهابي غداً أو بعده، لأن أيامنا مثل أوراق الخريف تتساقط وتتبدد أمام وجه الشمس، فإن أسرعت بي إلى الأبدية فلأنها علمت بأن روحي قد اشتاقت إلى لقاء أمك..".
لفظ الكلمات الأخيرة بنغمة مفعمة بحلاوة الحنين والرجاء ولاحت على وجهه المنقبض أشعة شبيهة بذلك النور الذي ينبثق من أجفان الأطفال. ثم مد يده بين المساند المحيطة برأسه وانتشل صورة صغيرة قديمة يمنطقها إطار من الذهب قد نعمت حدوده ملامس الأيدي ومحت نقوشه قبل الشفاه. ثم قال بدون أن يحول عينيه عن الرسم "اقتربي يا سلمى اقتربي مني يا ولدي لأريك خيال أمك، تعالي وانظري ظلها على صفحة من الورق".
فدنت سلمى ماسحة الدموع من مقلتيها كيلا تحول بين ناظرها والرسم الضئيل، وبعد أن أحدقت به طويلاً كأنه مرآة تعكس معانيها وشكل وجهها، قربته من شفتيها وقبلته بلهفة مراراً متوالية ثم صرخت قائلة "يا أماه، يا أماه، يا أماه" ولم تزد على هذه الكلمة بل عادت ووضعت الرسم على شفتيها المرتعشتين كأنها تريد أن تثبت فيه الحياة بأنفاسها الحارة.