ففي يوم من أواخر حزيران وقد ثقلت وطأة الحر في السواحل وطلب الناس أعالي الجبال سرت كعادتي نحو ذلك المعبد واعداً نفسي بلقاء سلمى حاملاً بيدي كتاباً صغيراً من الموشحات الأندلسية التي كانت في ذلك العهد ولم تزل إلى الآن تستميل روحي.
بلغت المعبد عند الأصيل فجلست أرقب الطريق المناسبة بين أشجار الليمون والصفصاف، وأنظر من وقت إلى آخر إلى وجه كتابي هامساً في مسامع الأثير أبيات الموشحات التي تستهوي القلب برشاقة تراكيبها ورنة أوزانها وتعيد إلى النفس ذكرى أمجاد الملوك والشعراء والفرسان الذين ودعوا غرناطة وقرطبة وأشبيلية تاركين في قصورها ومعاهدها وحدائقها كل ما في أرواحهم من الآمال والأميال ثم تواروا وراء حجب الدهر والدمع في أجفانهم والحسرة في أكبادهم.
وبعد ساعة التفت فإذا بسلمى تميس بقدها النحيل بين الأشجار المحتبكة وتقترب نحوي مستندة على مظلتها كأنها تحمل كل ما في العالم من الهموم والمتاعب ولما بلغت باب الهيكل وجلست بقربي نظرت إلى عينيها الكبيرتين فرأيت فيهما معاني وأسراراً جديدة غريبة توحي التحذر والانتباه وتثير حب الاستطلاع والاستقصاء.
وشعرت سلمى بما يجول في خاطري فلم تشأ أن يطول الصراع بين ظنوني وهواجسي فوضعت يدها على شعري وقالت "اقترب مني، اقترب مني يا حبيبي اقترب ودعني أزود نفسي منك فقد دنت الساعة التي تفرقنا إلى الأبد".
فصرخت قائلاً "ماذا تقولين يا سلمى وأية قوة تستطيع أن تفرقنا إلى الأبد؟.
فأجابت "إن القوة العمياء التي فرقتنا بالأمس ستفرقنا اليوم. القوة الخرساء التي تتخذ الشريعة البشرية ترجماناً عنها قد بنت بأيدي عبيد الحياة حاجزاً منيعاً بيني وبينك.
القوة التي أوجدت الشياطين وأقامتهم أولياء على أرواح الناس قد حتمت عليّ، أن لا أخرج من ذلك المنزل المبني من العظام والجماجم".
فسألتها قائلاً "هل علم زوجك باجتماعاتنا فصرت تخشين غضبه وانتقامه؟".
فأجابت "إن زوجي لا يحفل بي ولا يدري كيف أصرف أيامي فهو مشغول عني بأولئك الصبايا المسكينات اللواتي تقودهن الفاقة إلى أسوق النخاسين فيتعطرن ويتكحلن ليبعن أجسادهن بالخبز المعجون بالدماء والدموع".
فقلت إذاً ما يصدك عن المجيء إلى هذا المعبد والجلوس بجانبي أمام هيبة الله وأشباح الأجيال؟ هل مللت النظر إلى خفايا نفسي فطلبت روحك الوداع والتفريق؟".
فأجابت ــ والدمع يراود أجفانها ــ "لا يا حبيبي إن روحي لم تطلب فراقك لأنك شطرها ولا ملت عيناي النظر إليك لأنك نورهما. ولقد إذا كان القضاء قد حكم عليّ أن أسير على عقبات الحياة مثقلة بالقيود والسلاسل فهل أرضى بأن يكون نصيبك من القضاء مثل نصيبي؟".
فقلت "تكلمي يا سلمى وأخبريني عن كل شيء ولا تتركيني ضائعاً بين هذه المعميات".
فأجابت " لا أقدر أن أقول كل شيء لأن اللسان الذي أخرسته الأوجاع لا يتكلم، والشفاه التي ختم عليها اليأس لا تتحرك وكل ما أقدر أن أقوله لك هو أني أخاف عليك من الوقوع في شرك الذين نصبوا لي الحبائل واصطادوني".
فقلت "ماذا تعنين يا سلمى ومن هم الذين تخافين عليّ منهم".
فسترت وجهها بيدها وتأوهت ملتاعة ثم قالت مترددة "إن المطران بولس غالب قد صار يعلم بأنني أخرج مرة في الشهر من القبر الذي وضعني فيه".
فقلت "وهل علم المطران بأنك تلتقين بي في هذا المكان".
فأجابت "لو علم بذلك لما رأيتني الآن جالسة بقربك" ولكن الشكوك تخامره والظنون تتلاعب بأفكاره وقد بث عليّ العيون لترقبني وأوعز إلى خدمه ليتجسسوا حركاتي حتى صرت أشعر بأن للمنزل الذي أسكنه والطرقات التي