يقيم الرجال الموسرون بأرضهم ** وترمي النوى بالمقترين المراميا
في ذم بغداد قد ذكره جماعة من أهل الورع والصلاح والزهاد والعباد ووردت فيها أحاديث خبيثة وعلتهم في الكراهية ما عاينوه بها من الفجور والظلم والعسف وكان الناس وقت كراهيتهم للمقام ببغداد غير ناس زماننا فأما أهل عصرنا فأجلس خيارهم في الخيش وأعطهم فلسافما يبالون بعد تحصيل الحطام أين كان المقام، وقد ذكر الحافظ أبو بكر أحمد بن علي من ذلك قدرا كافيا، وكان بعض الصالحين إذا ذكرت عنده بغداد يتمثل:
قل لمن أظهر التنسك في النا ** س وأمسى يعد في الزهاد
إلزم الثغر والتواضع فيه ** ليس بغداد منزل العباد
إن بغداد للملوك محل ** ومناخ للقارىء الصياد ومن شائع الشعر في ذلك:
بغداد أرض لأهل المال طيبة ** وللمفاليس دار الضنك والضيق
أصبحت فيها مضاعا بين أظهرهم ** كأنني مصحف في بيت زنديق ويروى للطاهر بن الحسين، قال:
زعم الناس أن ليلك يا بغ ** داد ليل يطيب فيه النسيم
ولعمري ما ذاك إلا لأن خا ** لفها بالنهار منك السموم
وقليل الرخاء يتبع الش ** دة عند الأيام خطب عظيم. وكتب عبد الله بن المعتز إلى صديق له يمدح سرمن رأى ويصف خرابها ويذم بغداد: كتبت من بلدة قد أنهض الله سكانها وأقعد حيطانها، فشاهد اليأس فيها ينطق وحبل الرجاء فيها يقصر، فكأن عمرانها يطوى وخرابها ينتشر، وقد تمزقت بأهلها الديار، فما يجب فيها حق جوار، فحالها تصف للعيون الشكوى، وتشير إلى ذم الدنيا، على أنها وإن جفيت معشوقة السكنى، رجية المثوى، كوكبها يقظان، وجوها عريان، وحصباؤها جوهر، ونسيمها معطر، وترابها أذفر، ويومها غداة وليلها سحر، وطعامها هنيء وشرابها مريء لا كبلدتكم الوسخة السماء، الومدة الماء والهواء، جوها غبار، وأرضها خبار، وماؤها طين، وترابها سرجين، وحيطانها نزوز، وتشرينها تموز، فكم من شمسها من محترق، وفي ظلها من غرق، ضيقة الديار، وسيئة الجوار، أهلها ذئاب، وكلامهم سباب، وسائلهم محروم، ومالهم مكتوم، ولا يجوز إنفاقه، ولا يحل خناقة، حشوشهم مسايل، وطرقهم مزا بل، وحيطا نهم أخصاص، وبيوتهم أقفاص، ولكل مكروه أجل، وللبقاع دول، والدهر يسير بالمقيم، ويمزج البؤس بالنعيم، وله من قصيدة:
كيف نومي وقد حللت ببغد ** اد مقيما في أرضها لا أريم
ببلاد فيها الركايا عليه ** ن أكاليل من بعوض تحوم
جوها في الشتاء والصيف دخا ** ن كثيف وماؤها يحموم
ويح دار الملك التي تنفح المس ** ك إذا ما جرى عليه النسيم
كيف قد أقفرت وحاربها الده ** ر وعين الحياة فيها البوم
نحن كنا سكانها فانقضى ذ ** لك عنا وأي شيء يدوم وقال أيضا:
أطال الهم في بغداد ليلي ** وقد يشقى المسافر أو يفوز
ظللت بها على زعمي مقيما ** كعنين تعانقه عجوز
وقال محمد بن أحمد بن شميعة البغدادي شاعر عصري فيها:
ود أهل الزوراء زور فلا ** تغترر بالوداد من ساكنيها
هي دار السلام حسب فلا ** تطمع منها إلا بما قيل فيها وكان المعتصم قد سأل أبا العيناء عن بغداد وكان سيئ الرأي فيها فقال: هي يا أمير المؤمنين كما قال عمارة بن عقيل:
ما أنت يا بغداد إلأسلح إذا اعتراك مطر أو نفح وإن خففت فتراب برح وكما قال آخر:
هل الله من بغداد يا صاح مخرجي ** فأصبح لا تبدو لعيني قصورها
وميدانها المذري علينا ترابها ** إذا شمخت أبغالها وحميرها وقال آ خر:
أذم بغداد والمقام بها ** من بعد ما خبرة وتجريب
ما عند سكانها لمختبط ** خير ولا فرجة لمكروب
يحتاج باغي المقام بينهم ** إلى ثلاث من بعد تتريب
كنوز قارون أن تكون له ** وعمر نوح وصبر أيوب
قوم مواعيدهم مزخرفة ** بزخرف القول والأكاذيب
خلوا سبيل العلى لغيرهم ** ونافسوا في الفسوق والحوب وقال بعض الأعراب:
لقد طال في بغداد ليلي ومن يبت ** ببغداد يصبح ليله غيرراقد
بلاد إذا ولى النهار تنافرت ** براغيثها من بين مثنى وواحد
ديازجة شفب البطون كأنها ** بغال بريد أرسلت في مذاود
وقرأت بخط عبد الله بن أحمد جخجخ. قال أبو العالية:
ترحل فما بغداد دار إقامة ** ولا عند من يرجى ببغداد طائل
محل ملوك سمتهم في أديمهم ** فكلهم من حلية المجد عاطل
سوى معشر جلو وجل قليلهم ** يضاف إلى بذل الندى وهو باخل
ولا غرو إن شلت يد الجود والندى ** وقل سماح من رجال ونائل
إذا غطمط البحر الغطامط ماؤه ** فليس عجيبا أن تفيض الجداول و قال آخر:
كفى حزنا والحمد لله أنني ** ببغداد قد اعيت علي مذاهبي
أصاحب قوما لا ألذ صحابهم ** وآلف قوما لست فيهم براغب
ولم أثو في بغداد حبا لأهلها ** ولا أن فيها مستفادا لطالب
سأرحل عنها قاليا لسراتها ** وأتركها ترك الملول المجانب
فإن ألجأتني الحادثات إليهم ** فأير حمار في حرام النوائب وقال بعضهم يمدح بغداد ويذم أهلها:
سقيا لبغداد ورعيا لها ** ولا سقى صوب الحيا أهلها