أن تلفت رأسها للخلف وهي تختفي وسط الظلام ومنن السماء تزداد سخاءً وكرمّ ?
وأنا أرقبها بعيون قد تعلقت بخطاها وقلب يغلي إلى حدّ أبعد فيه كل إحساس بالبرد عني ولو أن قوى الأرض أجمعها قد صبت في أقدامي ساعتها لما حركت إحداها
وما إن عدت إلى وعيّ ودبت الحركة بأوصالي حتى هممت بفك عقدة المنديل لأضمه إلى جسدي.
لم أشأ خنق المنديل في جيبي بل آثرت ضمّه إلى جسمي علـّه يداعب مسام جلدي أو يلتحم مع صدري
كأني أمني النفس بضم تلك الأميرة إلى صدري يوماً ما...
عدّت إلى منزلي منتشياً تتدافع أقدامي فرحاً على الدرجات الصاعدة لغرفتي المتربعة على شرفة بيت دمشقي عتيق,وأنا أحس بروحي مزهوة ًإلى حدّ الثمالة.
رغم البرد الشديد"البرد الذي لم أشعر به"تمددت على السرير بثيابي المبللة حتى لا أخسر أنفاسها التي تعلقت بخيوط معطفي وأزرار قميصي..
تلحفت الشال ذاهباً في نوم عميق لم أنم ولا أظن أني سأنام أعمق منه إلا إذا كان رأسها غاف على صدري.
سرعان ما صاح ديك الصباح معلناً ميلاد فجر يوم جديد لتنطلق فيروز جامعة ً خيوط الصبح الأولى قيثارة تعزف عليها أروع الألحان .
صنعت فنجان قهوة ,كان ألذ فنجان شربته في حياتي"صار لكل شيء طعم ولون جديدين"
فرغم أن القهوة كانت عذراء كالعادة إلا أني أحسستها ألذ وأشهى من شهد النحل
غيرت ثيابي وأنا أغني و اصطحبت المنديل معي في كل مكان أذهب إليه ,أخذ الشرود بي كل مأخذ ذاهباً بكل أفكاري إلى حدّ زهدت فيه بكل شيء الطعام والشراب وحتى السجائر
بدأت من تلك الليلة أتخذ من الحج إلى ذاك المكان "تلك الجنة "عادة ًيومية على أمل رؤيتها
لكن محاولاتي كانت يائسة..لا ليست يائسة فتلك الفاتنة صارت الحياة في عيوني ولا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس.
أقسم أني سأراها أنا واثقٌ من ذلك ..قد لا تصدق إن قلت لك أني أهواها.
معك حق لأني أنا نفسي لم أصدق أني شعرت بهذا الإحساس الغريب.
الشعور الذي أقف عاجزاً عن تفسيره أو فك طلاسمه لكنه شعور جميل جداً.
تكررت زيارتي إلا أني لا أقول أني فشلت ..الفشل ضعف وما يخالج صدري لا ضعف فيه ,قد أكون لم أنجح بعد ,ولكي أنجح فإن علي أن أتابع العمل الدؤوب مبتعداً عن الكلل أو الملل.
ذات ليلة وأنا أسير صحبة مالك في شوارع دمشق القديمة قاصدين إحدى مقاهي دمشق المحدثة,ودخلنا مقهى الشموع وجلسنا في جوّ هادئ وسط موسيقا إلياس الرحباني .ظهري للجدار كالعادة ,وأنا أستمع لمالك وهو يفيض بالكلام والمشاعر مما دفع بي لأبحر بمخيلتي إلى البعيد...البعيد
لأرسو على شاطئ لم أنتبه له من قبل ..كيف لم أنتبه لذلك كيف..؟
أخرجت المنديل الذي لم يفارقني أبداً من صدري واضعاً إياه على الطاولة وسط استغراب مالك الشديد وأنا الذي لم أخبره بشيء عن تلك الليلة رغم صداقتنا العميقة..
لقد أثرت الصمت لأني كنت أخشى أن تكون صاحبة المنديل غير راغبة بفضح سرّ ذاك اللقاء..
هذا من جهة ولأني وبأنانية كل البشر أردت مفاجئة الجميع بإنجازي الرائع من جهة أجرى .
أخيراً وجدت خيطاً أتبعه برحلة بحثي ..آه كم أنا سعيد..
وقفت حاملاً كنزي والفرح يعتلي وجهي راسماً ابتسامة عريضة على محياي تحاكي ما رسم على وجه كولومبس يوم اكتشف أمريكة .
وجدت حرفاً طرز بخيوط ذهبية على طرف المنديل ,بالتأكيد هو أول أحرف اسمها سأتخذه منطلقاً انطلق منه
وغداً سأذهب إلى موظف النفوس لأسأله عن كل فتات بين الثامنة عشرة والثانية والعشرين يبدأ اسمها بحرف
النون
قد يكونوا بضعة مئات أو آلفاً أو حتى بضعة آلاف لا يهم المهم أنها بينهن سأفتش عنها في كل بقاع الأرض حتى أجدها أو تجدني هي إذا فكرت بزيارة جنة اللقاء الأول التي أقضي الليالي فيها منتظراً
لم أضعف أمام إلحاح مالك الشديد في السؤال عن سرّ ذاك المنديل محاولاً التلذذ بالبحث وحدي من جهة ولأني حتى وإن غاليت في الوصف فلن أستطيع وصف محاسن ومفاتن صاحبة المنديل
لعلها قصة تشبه تلك الرواية الشهيرة /ساندريلا/
وبما أن الأمير استطاع الوصول لسندريلا عن طريق فردة حذائها فلن يكون عصيّ ًعليّ الوصول إلى صاحبة المنديل عن طريق حرف اسمها
بحثت عنها يا صاحبي كثيراً وفي كل مكان وبينما كنت أغوص وأغرق في البحث يوماً بعد يوم ,أدركت وأنا اللاهث خلف شبه سراب أني بت متيماً بصاحبة المنديل إلى حدّ أحببتها فيه لا كما أحب رجل امرأة.
فرحت أسائل روحي هل يستطيع أحدّ ٌأن يكن هذا الكم الهائل من الحبّ لامرأة لم يرها سوى مرة ًواحدة ويجهل حتى اسمها ..
وما الغرابة في ذلك ,ألم يتكلم ابن حزم عن الحب من أول نظرة في طوق الحمامة ثم ما الفائدة من معرفة الاسم ,ألست القائل أن الأسماء اختراعٌ فاشل أنا لا أثق به.
سأسميها أنا كما رأيتها وكما تمنيتها /نون صاحبة المنديل/ أو/نون المنديل الوردي/
اسمٌ غريب ٌومبهمٌ ,لكنه يمثل جزءاً منها ومن قصتنا وهذا يكفيني.
بعد فترة لم تطل بلذت البحث وفي ليلة سلمت أقدامي فيها لنفسها تدفع إحداهما الأخرى بغير هدىً على طريق ٍ ترابيّ ٍقديم أكل عليه الدهر وشرب ,ترامت على جنباته أشجار الحور العتيق.
كانت السماء صافية ,وأنا أسير أبحث عن نجوم برجي"وقليلاً ما أمنت بالأبراج"فجأة ًأحسست بالأرض تفقد جميع معانيها وعقارب الساعة لثوانيها..
شعرت أني أغادر هذا العالم طائراً على جناح الأحلام السعيدة,لأول مرة مذ رأت البشرية النور ,مذ انفصلت الأرض عن أمها الشمس ,رأيت أنا الشمس تشرق في سحابات الليل..
حبـــــــيـــــــبـــــــتي.. أهي حقاً ..حبيبتي...!!!
كنت واثقاً بعظمة عطايا الرب..كم هو كريم سبحانه..
أفي هذا المكان ,وهذا التوقيت والزمان أراكِ بلهفة وشوق شديدين قلت :صاحبة المنديل ..أنت مرة ًأخرى..!
ـ أنت..فارس تلك الليلة
/لقد تذكرتني ..كانت أول مرة أسمع فيها صوتها ,الصوت الذي شجعني لأسألها:
ـ هل أبحرت يوماً في بحور الحبّ؟
ـ طبعاً
ـ هل استطاع رجلٌ احتلال عرش الهوى في صدرك؟
ـ قطعاً هناك فارسٌ واحد نجح بالتقاط المنديل
ـ الوردي..؟؟/قلتها بلهفة وتشوق/
ـ أومت برأسها وتمتمت بشفاهها معلنة ? الموافقة..
ـ هذا أنا ..." قلتها وأنا أحس بالدنيا تدور بي فتعملقني لأمتلك أسرار الحياة وأسباب الفرح المتعلقة كدوالي العنب بعيون صاحبة المنديل"
بدأت أرقص على نغمات ضحكاتها كأنما مسّ عقلي الجنون فقالت بصوتٍ حنون :اهدأ أرجوك سيفتضح أمرنا..
توقفت عن الرقص مستسلماً للهاث التعب ..وبعيون تقطر شوقاً قلت لها:
يالا تراتيب القدر العجيبة ..كيف هيأت لنا لقاءاً آخر في عالم الصدق..أهو إله الحب يريد أن يثبت لنا أنّ لابد غارقين في بحر الهوى ..
أمتارٌ قليلة تفصل ما بيننا وضوء القمر يرشد عيوننا لتتبادل الغزل ,دقائق هادئة تكلمنا فيها بالهمس ,باللمس بالآهات ,بالصمت الرهيبِ.
إلى أن عادت صاحبة المنديل بصوتها العذب:
ـ لقد تأخرت وعليّ العودة الآن إلى المنزل..ولكن كيف سأراك يا....
ـ ما دمنا قد افترقنا على أمل اللقاء فإن عناية السماء لا بد ستحقق أمانينا وإذا كان القدر شاء لنا هذا اللقاء فلا بدّ لنا لقاءات أخرى.
ـ من أنتَ ?
ـ أنا ذاك المتيم ضيع عمره بالهوى
ـ أقصد ما أسمك..?
ـ اخترعي لي اسماً
ـ لماذا؟!
ـ حتى نستلذ في رحلة البحث ? الانتظار
ـ حسنٌ من أنا..
ـ أنت نون المنديل الوردي
ـ اسمٌ جميلٌ وغريب امنحني حرفاً
"أخرجت من جيبي علاقة مفاتيح حفر عليها حرف / الميم/ ,وأهديتها إياها فأمسكتها بيدها الناعمة فلامست أصابعي أناملها.فشعرت بنشوة لم أشعر بها سابقاً ،وغرقت هي بخجلها الذي قطعته بقولها:
ـ كنت فارس الليل ,الفارس الذي ألتقط المنديل فسأسميك ميم فارس الليل..
ـ سنمضي على درب الهوى إلى أن يصير حبّنا أكبر من الأسماء ,حينها ستسقط أسماؤنا على الشفاه
/ ومضى كلّ ٍمنا في طريق والأمل يحدونا بلقاءٍ قريب../ }
هنا حلّ الظلام وبدأت نسائم الخريف الباردة تنخر في عظامنا ,فنهض /مؤمن/ معتذراً ليمضي بهدوء
فسألته بلهفة المتشوق: آ لن تكمل لي القصة ؟
ـ ليس الآن ,فأنا أشعر بالبرد والجوع ,سأراك مرة ًأخرى ..ثق بي أنا أصنع قدري بيدي "قالها وهو يطلق ضحكة ًساخرة".أحس أن هنالك شيئاً غريباً يربطني ,يشدني إلى ذاك الشاب ..لا أدري ما هو..!
ربما لأنه يحب فيروز والقهوة العذراء كما أحب ,لا بل هناك ما هو أكبر من ذلك.
أو لأنه دخل مملكتي ولملم ذكرياتي حتى صار جزءً منها..لا أدري ..هنالك شيء أكبر لا أعرف ما هو ولكني أحس به .
ثم أ هو الفضول وحدّه يدفع بي لأتشوق لسماع تلك القصة ..
يالا هول الحيرة التي تلطمني بأمواجها كلما تعمقت بتلك القصة اللعينة ..
لكثرت ما سمعت عن الحب بت بأمس الحاجة لسماع صوت حبيبتي الحنون ,علّه يريحني ويبعد الحيرة عن صدري.
هاتفتها وتحدثت معها بكل شيء ممطراً إياها بعبارات الغزل والشوق لعينيها يقطر من بين أحرفي ويفوح الحب أريجاً من نبرات صوتي الملتاع إلى حدّ قالت فيه حبيبتي :
أنت مبحرٌ في الرقة هذا المساء..يا حبيبي.
أكثر من ساعتين ملّت منّا أسلاك الهاتف ولم نمل نحن ..
مرت أيامٌ عدّة وأنا أزور تلك الصومعة كل ما استطعت إليها سبيلا عبثاً إذ أحاول ,فمؤمن لم يأتي ..
وذات ليلة وفي مقهى الشموع بعد لقاء حلـّو مع فاتنتي الجميلة انتهى باضطرارها للرحيل تلبية لتحذيرات صديقتها من تأخر الوقت وتذكرتها بأن أهلها سيلحون بالسؤال عنها ..
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)