فلما كان من الغد أمر كيخسرو أن يدخل عليه رؤساء أجناده والوجوه من أهل مملكته، فلما دخلوا عليه أعلمهم ما عزم عليه من محاربة الأتراك، وكتب إلى عمّاله في الآفاق يُعلمهم ذلك، ويأمر بموافاتهم في صحراء تُعرف بشاه أسطون، من كُوره بلْخ، في وقت وقّته لهم. فتوافت رؤساء الأجناد في ذلك الموضع، وشخص إليه كيخسرو بإصبهبذته وأصحابهم، وفيهم برزافره عمّه وأهل بيته، وجوذرز وبقية ولده. فلما تكاملت الملحمة، واجتمعت المرزابة، تولى كيخسرو بنفسه عرْض الجند حتى عرف مبلغهم، وفهم أحوالهم، ثم دعا بجوذرز بن جشوادغان، وميلاذ بن جرجين وأغص بن بهذان - وأغص ابن وصيفة كانت لسياوخش، يقال لها: شوماهان - فأعلمهم أنه قد أراد إدخال العساكر على الترك من أربعة أوجه، حتى يحيطوا بهم برًّا وبحرًا، وأنه قد قوّد على تلك العساكر، وجعل أعظمها إلى جوذرز، وصيّر مدخله من ناحية خراسان، وجعل فيمن ضم إليه برزافره عمه وبي بم جوذرز وجماعة من الأصبهبذين كثيرة، ودفع إليه يومئذ العلَم الأكبر الذي كانوا يسمّونه درفش كابيان، وزعموا أن ذلك العلَم لم يكن دفعه أحد من الملوك إلى أحد من القوّاد قبل ذلك، وإنما كانوا يسيّرونه مع أولاد الملوك إذا وجّهوهم في الأمور العظام. وأمر ميلاذ بالدخول مما يلي الصين، وضمّ إليه جماعة كثيرة دون مَنْ ضمّ إلى جوذرز، وأمر أغص بالدخول من ناحية الخزر في مثل مَنْ ضمّ إلى ميلاذ، وضمّ إلى شموهان إخوتها وبني عمها وتمام ثلاثين ألف رجل من الجند، وأمرها بالدخول من طريق بين طريق جوذرز وميلاذ.
ويقال: إن كيخسرو إنما غزا شومهان لخاصتها بسياوخش، وكانت تذرت أن تطالب بدمه. فمضى جميعُ هؤلاء لوجههم، ودخل جوذرز بلادَ الترك من ناحية خُراسان، وبدأ بفيران بن ويسغان، فالتحمت بينهما حَرْبٌ شديدة مذكورة، وهي الحرب التي قتل فيها بيزن بن بي خُمان بن ويسغان مبارزة، وقتل جوذرز فيران أيضًا، ثم قصد جوذرز فراسياب، وألحّت عليه العساكر الثلاثة، كل عسكر من الوجه الذي دخل منه، واتبع القوم بعد ذلك كيخسرو بنفسه، وجعل قصْده للوجه الذي كان فيه جوذرز، وصيّر مدخله منه، فوافى عسكر جوذرز، وقد أثخن في الترك، وقتل فيران رئيس إصبهبذي فراسياب، والمرشّح للملك من بعده، وجماعة كثيرة من إخوته؛ مثل خُمان، وأوستهن، وجلباد، وسيامق، وبهرام، وفرشخاذ، وفرخلاذ. ومن ولده، مثل روين بن فيران، وكان مقدما عند فراسياب، وجماعة من إخوة فراسياب، مثل: رتدراي، وأندرمان، وأسفخرم، وأخست. وأسَربروا بن فشنجان قاتل سياوخش، ووجد جوذرز قد أحصى القتلى والأسرى، وما غنِم من الكُراع والأموال، فوجد مبلغ ما في يده من الأسرى ثلاثين ألفًا، ومن القتلى خمسمائة ألف ونيفًا وستين ألف رجل، ومن الكُراع والورق والأموال ما لا يحصى كثرة، وأمر كل واحد من الوجوه الذين كانوا معه أن يجعل أسيره أو قتيله من الأتراك عند علمه لينظر كيخسرو إلى ذلك عند موافاته.
فلما وافى كيخسرو العسكر وموضع الملحمة اصطفّت له الرجال، وتلقاه جوذرز وسائر الإصبهبذين، فلما دخل العسكر جعل يمرّ بعلم علم، فكان أول قتيل رآه جثة فيران عند علم جوذرز، فلما نظر إليها وقف ثم قال: أيها الجبل الصعب الذرا المنيع الأركان! ألم أنهك عن هذه المحاربة، وعن نصْب نفسك لنا دون فراسياب في هذه المطالبة؟! ألم أبذل لك نفسي، وأعرِض عليك ملكي فلم تحسِن الاختيار؟ ألست الصدوق اللسان، الحافظَ للإخوان، الكاتم للأسرار؟! ألم أعلمْك مكْر فراسياب وقلة وفائه فلم تفعل ما أمرتُك بل مضيت في نومك حتى احتوشتك الليوث من مقاتلتنا وأبناء مملكتنا؟ ما أغنى عنك فراسياب، وقد فارقت الدنيا وأفنيت آل ويسغان! فويلٌ لحلمك وفهمِك! وويل لسخائك وصدقك! إنا بك اليوم لموجَعون!
ولم يزل كيخسرو يرثي فيران حتى صار إلى علْم بي جوذرز، فلما وقف عليه وجد بروا بن فشنجان حيًّا أسيرًا في يدي بي، فسأل عنه فأخبر أنه بروا قاتل سياوخش المائل به عند قتله إياه. فقرّب منه كيخسرو، ثم طأطأ رأسَه بالسجود شكرًا لربه، ثم قال: الحمد لله الذي أمكنني منك يا بروا! أنت الذي قتلت سياوخش، ومثّلت به! وأنت الذي سلبته زينته وتكلّفت من بين الأتراك إبارته، فغرست لنا بفعلك هذه الشجرة من العداوة، وهيّجت بيننا هذه المحاربة، وأشعلت في كلا الفريقين نارًا موقدة! أنت الذي جرى على يديك تبديل صورته، وتوهين قوته! أما تهيّبت أيها التركي جماله! ألا بقيت عليه للنور الساطع على وجهه! أين نجدتُك وقوتك اليوم! وأين أخوك الساحر عن نصرتك! لست أقتلُك لقتلك إياه؛ بل لكلفتك وتوليك ما كان صلاحًا لك ألا تتولاه، وسأقتل مَنْ قتله ببغيه وجرمه.
ثم أمر أن تقطع أعضاؤه حيًا ثم يذبح ففعل ذلك به بي، ولم يزل كيخسرو يمر بعلم علَم، وأصبهبذ أصبهبذ؛ فإذا صار إلى الواحد منهم قال له نحو ما ذكرنا، ثم صار إلى مضاربه، فلما استقر فيها دعا ببرافره عمه، فلما دخل عليه أجلسَه عن يمينه، وأظهر له السرور بقتله جلباذ بن ويسغان مبارزة، ثم أجزل جائزته وملّكه على كِرْمان ومُكران ونواحيها، ثم دعا بجوذرز، فلما دخل قال له: أيها الأصبهبذ الرشيد، والكهل الشفيق، إنه مهما كان من هذا الفتح العظيم فمن ربنا عز وجل، وعن غير حيلة منا ولا قوة، ثم برعايتك حقنا، وبذلك نفسك وأولادك لنا، وذلك مذْخور لك عندنا، وقد حبوناك بالمرتبة التي يقال لها " بُزُرْجفر مذار "؛ وهي الوزارة، وجعلنا لك أصبهان وجُرْجان وجبالهما، فأحسِنْ رعاية أهلها.
فشكر جوذرز ذلك، وخرَج من عنده بَهِجًا مسرورًا، ثم أمر بالوجوه من أصبهبذته الذين كانوا مع جوذرز ممن حسن بلاؤه، وتولى قتل طراخنة الأتراك، ولد فشنجان وويسغان؛ مثل جرجين بن ميلاذان، وبي، وشادوس ولخام، وجدمير بن جوذرز، وبيزن بن بي، وبرازه بن بيفغان، وفروذه بن فامدان وزنده بن شابريغان، وبسطام بن كزدهمان، وفرته بن تفارغان. فدخلوا عليه رجلًا رجلًا؛ فمنهم من ملّكه على البلدان الشريفة، ومنهم من خصّه بأعمال من أعمال حضرته، ثم لم يلبث أن وردت عليه الكتب من ميلاذ وأغص شومهان بإثخانهم في بلاد الترك، وأنهم قد هزموا فراسياب عسكرًا بعد عسكر، فكتب إليهم أن يجدوا في محاربة القوم، وأن يوافوه بموضع سمّاه لهم من بلاد الترك. فزعموا أن العساكر الأربعة لما أحاطت بفراسياب، وأتاه مِنْ قتل مَنْ قتل، وأسْر مَنْ أسر، وخراب ما خرّب ما أتاه، ضاقت عليه المذاهب، ولم يبق معه من ولده إلا شيده - وكان ساحرًا - فوجّهه نحو كيخسرو بالعدة والعتاد، فلما وافى كيخسرو أعلم أن أباه إنما وجهه للاحتيال عليه، فجمع أصبهبذته وتقدم إليهم في الاحتراس من غلبته.
وقيل: إن كيخسرو أشفق يومئذ من شيده وهابه، وظن ألا طاقة له به، وأن القتال اتصل بينهما أربعة أيام، وإن رجلًا من خاصة كيخسرو يقال له جرد بن جرهمان عبّى يومئذ أصحاب كيخسرو، فأحسن تعبيتهم، فكثرت القتلى بينهم واستماتت رجال خنيارث وجدّت، وأيقن شيده ألا طاقة له بهم فانهزم، واتبعه كيخسرو بمن معه، ولحقه جرد فضربه على هامته بالعمود ضربةً خرّ منها ميتًا، ووقف كيخسرو على جيفته، فعاين منها سماجة شنِعة، وغنم كيخسرو ما كانَ من عسكرهم، وبلغ الخبر فراسياب، فأقبل بجميع طراخنته، فلما التقى وكيخسرو، ونشبت بينهما حرب شديدة لا يقال إن مثلها كان على وجه الأرض قبلها، فاختلط رجال خنيارث برجال الترك، وامتدّ الأمر بينهم حتى لم تقع العين يومئذ إلا على الدماء، والأسر من جوذرز ولده وجرجين وجرد بسطام، ونظر فراسياب وهم يحمون كيخسرو كأنهم أسود ضاربة، فانهزم مولّيًا على وجهه هاربًا، فأحصيت القتلى فيما ذكر يومئذ؛ فبلغت عدتهم مائة ألف، وجد كيخسرو وأصحابه في طلب فراسياب، وقد تجرد للهرب فلم يزل يهرب من بلد إلى بلد حتى أتى أذربيجان، فاستتر في غدير هناك يعرف ببئر خاسف، ثم ظُفِر به، فلما أتى كيخسرو استوثق منه بالحديد، ثم أقام للاستراحة بموضِعه ثلاثة أيام، ثم دعاه، فسأله عن عذره في أمر سياوخش، فلم يكن له عذر ولا حُجّة، فأمر بقتله، فقام إليه بي بن جوذرز، فذبحه كما ذبح سياوخش، ثم أتى كيخسرو وبدمه، فغَمس فيه يده، وقال هذا بِتِرة سياوخش، وظُلمكم إياه واعتدائكم عليه. ثم انصرف من أذربيجان ظافرًا غانمًا بهجًا.
وذُكر أن عدة من أولاد كيبيه جدّ كيخسرو الكبر وأولادهم كانوا مع كيخسرو في حرب الترك، وأن ممن كان معه كى أرش بن كيبيه، وكان مُمَلّكًا على خوزستان وما يليها من بابل وكى به أرش، وكان مملكًا على كرمان ونواحيها، وكى أوجى بن كيمنوش بن كيفاشين بن كيبيه، وكان مملّكًا على فارس، وكى أوجى هذا هو أبوكى لهراسف الملك؛ ويقال إن أخًا لفراسياب كان يقال له: كى شراسف، صار إلى بلاد الترك بعد قتل كيخسرو أخاه، فاستولى على ملكها، وكان له ابن يقال له خرزاسف، فملك البلاد بعد أبيه، وكان جبارًا عاتيًا، وهو ابن أخي فراسياب ملك الترك الذي كان حارب منوشهر، وجوذرز هو ابن جشواغان بن يسحره بن قرحين بن حبر بن رسود بن أورب بن تاج بن رشيك بن أرس بن وندح بن رعر بن نودراحاع بن مسواغ بن نوذر بن منوشهر.
فلما فرغ كيخسرو من المطالبة بوِتْره، واستقرّ في مملكته زهد في الملك، وتنسّك، وأعلم الوجوه من أهله وأهل مملكته أنه على التخلي من الأمر، فاشتد لذلك جزعُهم، وعظمت له وحشتهم، واستغاثوا إليه، وطلبوا وتضرّعوا، وراودوه على المقام بتدبير ملكهم، فلم يجدوا عنده في ذلك شيئًا، فلما يئِسوا قالوا بأجمعهم: فإذا قمتَ على ما أنت عليه فسمّ للملك رجلًا نقلّده إياه، وكان لهراسف حاضرًا، فأشار بيده إليه، وأعلمهم أنه خاصته ووصيّه، فأقبل الناس إلى لهراسف، وذلك بعد قَبُوله الوصية. وفُقِد كيخسرو، فبعض يقول: إنه غاب للنسك فلا يدرَى أين مات، ولا كيف كانت منيته، وبعضٌ يقول غيرَ ذلك.
وتقلد لهراسف الملك بعده على الرسم الذي رسم له، وولد كيخسرو: جاماس، وأسبهر، ورمى، ورمين.
وكان ملك كيخسرو ستين سنة.
أمر إسرائيل بعد سليمان بن داود عليهما السلام

رجع الحديث إلى الخبر عن أمر بني إسرائيل بعد سليمان بن داود عليهما السلام.
ثم ملك بعد سليمان بن داود على جميع بني إسرائيل ابنه رُحُبْعُم بن سليمان، وكان ملكه - فيما قيل - سبع عشرة سنة. ثم افترقت ممالك بني إسرائيل فيما ذكر بعد رُحُبْعُم، فكان أبيًا بن رُحُبْعُم ملك سبط يهوذا وبنيامين، دون سائر الأسباط؛ وذلك أن سائر الأسباط ملّكوا عليهم يوربعم بن نابط، عبد سليمان، لسبب القربان الذي كانت زوجة سليمان قرّبته في داره، وكانت قرّبت فيها جُرادة لصنم، فتوعده الله بإزالة بعضِ المُلك عن ولده، فكان ملك رُحُبْعُم إلى أن تُوفِيَ - فيما ذكر - ثلاث سنين.
ثم ملك أسا بن أبيّا أمر السِّبطين اللذيْن كان أبوه يملك أمرهما - وهما سبط يهوذا وسبط بنيامين - إلى أن توفي، إحدى وأربعين سنة.
؟ ذكر خبر أسا بن أبيّا وزرح الهنديّ
حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم؛ قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبّه يقول: إن ملكًا من ملوك بني إسرائيل يقال له أسا بن أبيّا، كان رجلًا صالحًا، وكان أعرجَ، وكان ملك من ملوك الهند يقال له زرح، وكان ملكًا جبارًا فاسقًا يدعو الناس إلى عبادته، وكان أبيّا عابدَ أصنام؛ له صنمان يعبدهما من دون الله، ويدعو الناسَ إلى عبادتهما؛ حتى أضلّ عامة بني إسرائيل، وكان يعبدُ الأصنام حتى توفي. ثم ملك ابنه أسا من بعدِه، فلما ملكهم بعث فيهم مناديًا ينادي: إلا إن الكفر قد مات وأهلُه، وعاش الإيمان وأهله، وانتكست الأصنام وعبادتُها، وظهرت طاعة الله وأعمالُها، فليس كافر من بني إسرائيل يُطلع رأسه بعد اليوم بكُفْر في ولايتي ودهري، إلا أني قاتله. فإن الطوفان لم يُغرِق الدنيا وأهلها، ولم يخسف بالقرى، ولم تمطر الحجارة والنار من السماء إلا بترك طاعة الله، وإظهار معصيته؛ فمن أجل ذلك ينبغي لنا ألا نقرّ لله معصية يُعمَل بها، ولا نترك طاعة لله إلا أظهرناها جهدَنا، حتى نطهّر الأرض من نَجَسها، ونُنقِّبها من دنسها، ونجاهد مَنْ خالفَنا في ذلك بالحرب والنفي من بلادنا.
فلما سمع ذلك قومُه ضجّوا وكرهوا، فأتوا أمّ أسا الملك فشكوْا إليها فعل ابنها بهم وبآلهتهم، ودعاءه إياهم إلى مفارقة دينهم، والدخول في عبادة ربِّهم، فتحمّلت لهم أمه أن تكلِّمه وتصرفه إلى عبادة أصنام والده؛ فبينا الملك قاعد وعنده أشراف قومه ورؤوسهم وذوو طاعتهم؛ إذ أقبلت أمّ الملك فقام لها الملك من مجلسه، وأمرَها أن تجلس فيه، معرفةً بحقها وتوقيرًا لها. فأبت عليه وقالت: لستَ ابني إن لم تجبني إلى ما أدعوك إليه، وتضع طاعتك في يدي حتى تفعل ما آمرك به، وتجيبني إلى أمر؛ إن أطعتني فيه رَشَدت وأخذت بحظّك، وإن عصيتَني فحظَّك بخَست، ونفسَك ظلمت. إنه بلغني يا بني أنك بدأت قومك بالعظيم؛ دعوتهم إلى مخالفة دينهم، والكفرِ بآلهتهم، والتحول عما كان عليه آباؤهم، وأحدثت فيهم سنّة، وأظهرت فيهم بدعة؛ أردت بذلك - فيما زعمت - تعظيمًا لوقارك، ومعرفةً بمكانك، وتشديدًا لسلطانك؛ وفي التقصير يا بني دخلت، وبالشَّين أخذت. ودعوت جميعَ الناس إلى حربك، وانتدبت لقتالهم وحدك؛ أردت بذلك أن تُعيد الأحرار لك عبيدًا، والضعيف لك شديدًا؛ سفّهت بذلك رأيَ العلماء، وخالفتَ الحكماء، واتّبعت رأي السفهاء، ولعمري ما حملك على ذلك يا بني إلا كثرة طيشك، وحداثةُ سنك، وقلةُ علمك؛ فإن أنت رددت علي كلامي، ولم تعرف حقي، فلستَ من نسل والدك، ولا ينبغي الملْك لمثلك. يا بني بأي شيء تُدلُّ على قومك؟ لعلك أوتيت من الحروف مثل ما أتى موسى إلى فرعون؛ أن غرّقه وأنجى قومه من الظَّلمة. أو لعلك أوتيت من القوة ما أوتي داود؛ أن قتلَ الأسد لقومه، ولحِق الذئب فشقّ شِدْقه، وقتل جالوت الجبّار وحده. أو لعلك أوتيت من الملك والحكمة أفضلَ مما أوتي سليمان بن داود رأس الحكماء؛ إذ صارت حكمتُه مثلًا للباقين بعده! يا بني إنه ما يأتِك من حسنة فأنا أحظى الناس بها، وإن تكن لأخرى فأنا أشقاهم بشقوتك.
فلما سمعها الملك اشتد غضبُه، وضاق صدره، فقال لها: يا أمّه! إنه لا ينبغي أن آكل على مائدة واحدة مع حبيبي وعدوي، كذلك لا ينبغي أن أعبد غير ربي. هلّمي إلى أمر إن أطَعتني فيه رَشدت، وإن تركتِه غويت؛ أن تعبدي الله وتكفري بكل آلهة دونه، فإنه ليس أحد يردّ هذا علي إلا هو لله عدو، وإنا ناصره لأني عبدُه.
قالت له: ما كنت لأفارق أصنامي، ولا دينَ آبائي وقومي. ولا أترك ذلك لقولك، ولا أعبد الربّ الذي تدعوني إليه.