فلما اصطف قوم زرح وأخذوا مراتبهم، أمر زرح الرماة من قومه أن يرموهم بنشابهم. فبعث الله ملائكة من كل سماء - والله أعلم - عونًا لأسا وقومه، ومادة له، فوقفهم أسا في مواقفهم، فلما رموا نشابهم، حال المشركون بين ضوء الشمس وبين الأرض، كأنها سحابة طلعت فنحتها الملائكة عن أسا وقومه، ثم رمت بها الملائكة قوم زرح، فأصابت كل رجل منهم نشابته التي رمى بها، فقتل رماتهم بها كلها وأسا وقومه في كل ذلك يحمدون الله كثيرًا، ويعجون إليه بالتسبيح، وتراءت الملائكة لهم - والله أعلم - فلما رآهم الشقي زرح وقع الرعب في قلبه، وسقط في يده، وقال: إن أسا لعظيم كيده، ماض سحره، وكذلك بنو إسرائيل، حيث كانوا لا يغلب سحرهم ساحر، ولا يطيق مكرهم عالم، وإنما تعلّموه من مصر، وبه ساروا في البحر، ثم نادى الهندي في قومه: أن سلوا سيوفكم، ثم احملوا عليهم حملة واحدة فدقوهم.
فسلوا سيوفهم ثم حملوا على الملائكة فقتلتهم الملائكة، فلم يبقى منهم غير زرح ونسائه ورقيقه.
فلما رأى ذلك زرح ولى مدبرًا فارًا هو ومن معه، وهو يقول: إن أسا ظهر علانية، وأهلكني صديقه سرًا، وإن كنتُ أنظر إلى أسا ومن معه واقفين لا يقاتلون والحرب واقعة في قومي.
فلما رأى اسا أن زرحا قد ولى مدبرًا قال: اللهم إن زرحًا قد ولى مدبرًا، وإنك إن لم تحل بيني وبينه استنفر علينا قومه ثانية. فأوحى الله إلى أسا إنك لم تقتل من قتل منهم ولكني قتلتهم، فقف مكانك، إني لو خليت بنيك وبينهم أهلكوكم جميعًا، إنما يتلقب زرح في قبضتي، ولن ينصره أحد مني، وأنا لزرح بالمكان الذي لا يستطيع صدودًا عنه ولا تحويلًا، وإني قد وهبت لك ولقومك عساكره وما فيها من فضة ومتاع ودابة، فهذا أجرك إذ اعتصمت بي، ولا ألتمس منك أجرًا على نصرتك! فسار زرح حتى أتى البحر يريد بذلك الهرب، ومعه مائة ألف، فهيئوا سفنهم ثم ركبوا فيها، فلما ساروا في البحر بعث الله الرياح من أطراف الأرضين والبحار إلى ذلك البحر واضطربت من كل ناحية أمواجُه، وضربت السفن بعضها بعضًا حتى تكسرت، فغرق زرح ومن كان معه، واضطربت بهم الأمواج حتى فزع لذلك أهلُ القرى حولهم، ورجفت الأرض، فبعث أسا من يعلمه علم ذلك، فأوحى الله إليه - والله أعلم - أن اهبط أنت وقومك أهل قراكم فخذوا ما غنّمكم الله بقوة، وكونوا فيه من الشاكرين، فإني قد سوغت كل من أخذ من هذه العساكر شيئًا ما أخذه. فهبطوا يحمدون الله ويقدسونه، فنقلوا تلك العساكر إلى قراهم ثلاثة أشهر. والله أعلم.
ثم ملك بعده يهوشافاظ بن أسا إلى أن هلك خمسًا وعشرين سنة ثم ملكت عتليا وتسمى عزليا ابنة عمرم أم أخزيا، وكانت قتلت أولاد ملوك بني إسرائيل، فلم يبق منهم إلا يواش بن أخزيا، فإنه ستر عنها، ثم قتلها يواش وأصحابه، وكان ملكها سبع سنين.
ثم ملك يواش بن أخزيا إلى أن قتله أصحابه، وهو الذي قتل جدته فكان ملكه أربيعن سنة.
ثم ملك أموصيا بن يواش إلى أن قتله أصحابه تسعًا وعشرين سنة، ثم ملك عوزيا بن أموصيا - وقد يقال لعوزيا: غوزيا - إلى أن توفي، اثنتين وخمسين سنة.
ثم ملك يوتام بن عوزيا إلى أن توفي ست عشرة سنة.
ثم ملك أحاز بن يوتام إلى أن توفي، ست عشرة سنة.
ثم ملك حزقيا بن أحاز إلى أن توفي. وقيل إنه صاحب شعيا الذي أعلمه شعيا انقضاء عمره، فتضرع إلى ربه فزاده وأمهله، وأمر شعيا بإعلامه ذلك.
وأما محمد بن إسحاق فإنه قال: صاحب شعيا الذي هذه القصة قصته اسمه صديقة.
ذكر صاحب قصة شعيا من ملوك بني إسرائيل وسنحاريب

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: كان فيما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل وإحداثهم وما هم فاعلون بعده، قال: " وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوًا كبيرًا " - إلى - " وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا "، فكانت بنو إسرائيل وفيهم الأحداث والذنوب، وكان الله في ذلك متجاوزًا عنهم، متعطفًا عليهم، محسنًا إليهم، وكان مما أنزل الله بهم في ذنوبهم ما كان قدم إليهم في الخبر عنهم على لسان موسى. فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع، أن ملكًا منهم كان يدعى صديقة، وكان الله إذا ملك الملك عليهم بعث نبيًا يسدده ويرشده، فيكون فيما بينه وبين الله، يحدث إليه في أمرهم. لا ينزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون بإتباع التوراة والأحكام التي فيها، وينهونهم عن المعصية، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة.
فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شعيا بن أمصيا، وذلك قبل مبعث عيسى وزكرياء ويحيى وشعيا الذي بشر بعيسى ومحمد، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانًا، فلما انقضى ملكه، وعظمت فيهم الأحداث، وشعيا معه، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل معه ستمائة ألف راية، فأقبل سائرًا حتى نزل حول بيت المقدس والملك مريض، في ساقه قرحة، فجاءه النبي شعيا، فقال له: يا ملك بني إسرائيل، إن سنحاريب ملك بابل، قد نزل بك هو وجنوده في ستمائة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم. فكُبر ذلك على الملك، فقال: يا نبي الله، هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده؟ فقال له النبي عليه السلام: لم يأتني وحي حدث إلي في شأنك.
فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعيا النبي: أن ائت ملك بني إسرائيل فأمره أن يوصى بوصيته، ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته. فأتى النبي شعيا ملك نبي إسرائيل صديقة، فقال له: إن ربك قد أوحى إلى أن آمرك توصى وصيتك، وتستخلف من شئت على الملك من أهل بيتك، فإنك ميت.
فلما قال ذلك شعيا لصديقة: أقبل على القبلة، فصلى وسبح، ودعا وبكى، وقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص، وتوكل وصبر، وظن صادق: اللهم رب الأرباب، وإله الآلهة والقدوس المتقدس، يا رحمن يا رحيم، المترحم، الرءوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم. اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل، وذلك كله كان منك، فأنت أعلم به من نفسي وسري وعلانيتي لك. وإن الرحمن استجاب له وكان عبدًا صالحًا. فأوحى الله إلى شعيا، فأمره أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه، وقد رأى بكاءه، وقد أخر أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوه سنحاريب ملك بابل وجنوده. فلما قال له ذلك، ذهب عنه الوجع، وانقطع عنه الشر والحزن، وخر ساجدًا، وقال: يا إلهي وإله آبائي، لك سجدت وسبحت، وكرمت وعظمت. أنت الذي تعطي الملك من تشاء، وتنزعه من تشاء، وتعز من تشاء، وتذلك من تشاء، عالم الغيب والشهادة، أنت الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين، أنت الذي أجبت دعوتي، ورحمت تضرعي.
فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعيا: أن قل للملك صديقة، فيأمر عبدًا من عبيده، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ويصبح وقد برئ. ففعل ذلك فشفي. وقال الملك لشعيا النبي: سل ربك أن يجعل لنا علمًا بما هو صانع بعدونا هذا فقال الله لشعيا النبي قل له إني قد كفيناه عدوك لشعيا النبي: سل ربك أن يجعل لنا علمًا بما هو صانع بعدونا هذا. فقال الله لشعيا النبي: قل له إن قد كفيتك عدوك، وأنجيتك منهم، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة من كتابه.
فلما أصبحوا جاءه صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك فاخرج، فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا. فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يودد في الموتى، فبعث الملك في طلبه، فأدركه الطلب في مغاره وخمسة من كتابه أحدهم بختنصر، فجعلوهم في الجوامع، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل، فلما رآهم خر ساجدًا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر، ثم قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون! فقال سنحاريب له: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي، فلم أطع مرشدًا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن الشقوة غلبت علي وعلى من معي. فقال ملك بني إسرائيل: الحمد لله رب العزة الذي كفاناكم بما شاء، إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامة لك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن معك إلى ما هو شر لك ولمن معك. لتزدادوا شقوة في الدنيا، وعذابًا في الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا، ولتنذروا من بعدكم، ولولا ذلك ما أبقاكم. ولدمك ودم من معك أهونُ على الله من دم قُراد لو قتلته! ثم إن ملك بن إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع، وطاف بهم سبعين يومًا حول بيت المقدس، وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير، لكل رجل منهم، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل: القتلُ خير مما تفعل بنا: فافعل ما أمرت. فأمر بهم الملك إلى سجن القتل، فأوحى الله إلى شعيا النبي: أن قل لملك نبي إسرائيل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم، ولكيرمهم وليحملهم. حتى يبلغوا بلادهم. فبلغ النبي شعيا الملك ذلك، ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل، فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده. فقال له كهانهو وسحرته: يا ملك بابل، قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحى الله إلى نبيهم، فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد من ربهم، فكان أمر سنحاريب مما خوفوا به، ثم كفاهم الله إياه تذكرة وعبرة، ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات.
وقد زعم بعض أهل الكتاب أن هذا الملك من بين إسرائيل الذي سار إليه سنحاريب كان أعرج، وكان عرجه من عرق النسا، وأن سنحاريب إنما طمع في مملكته لزمانته وضعفه، وأنه قد كان سار إليه قبل سنحاريب ملك من ملوك بابل، يقال له ليفر، وكان بختنصر ابن عمه كاتبه، وأن الله أرسل عليه ريحًا أهلكت جيشه، وأفلتَ هو وكاتبه، وأن هذا البابلي قتله ابن له، وأن بختنصر غضب لصاحبه، فقتل ابنه الذي قتل أباه، وأن سنحاريب سار بعد ذلك إليه، وكان مسكنه بنينوى مع ملك أذربيجان يومئذ، وكان يدعي سلمان الأعسر، وأن سنحاريب وسليمان اختلفا، فتحاربا حتى تفانيا جنداهما، وصار ما كان معهما غنيمة لبني إسرائيل.
وقال بعضهم: بل الذي غزا حزقيا صاحب شعيا سنحاريبُ ملك الموصل وزعم أنه لما أحاط ببيت المقدس وبجنوده بعث الله ملكًا، فقتل من أصحابه في ليلة واحدة مائة ألف وخمسة وثمانين ألف رجل. وكان ملكه إلى أن توفي تسعًا وعشرين سنة.
ثم ملك بعده - فيما قيل - أمرهم منشيا بن حزيقيا إن أن توفي خمسًا وخمسين سنة.
ثم ملك بعد أمون بن منشيا إلى أن قتله أصحابهُ، اثنتى عشرة سنة.
ثم ملك بعده يوشيا بن أمون إلى أن قتله فرعون الأجدع المقعد ملك مصر، إحدى وثلاثين سنة.
ثم ****احاز بن يوشيا، وكان فرعون الأجدع قد غزاه وأسره وأشخصه إلى مصر، وملك فرعون الأجدع يوياقيم بن ****احاز على ما كان عليه أبوه، ووظف عليه خراجًا يؤديه إليه، فكان يوياقيم يجبى ذلك - فيما زعموا - من بني إسرائيل، ويحمله - فيما زعموا - اثنتي عشرة سنة.
ثم ملك أمرهم من بعده يوياحين بن يوياقيم، فغزاه بختنصر، فأسره وأشخصه إلى بابل بعد ثلاثة أشهر من ملكه. وملك مكانه متنيًا عمه وسماه صديقيا فخالفه، فغزاه فظفر به، فأوثقه وحمله إلى بابل بعد أن ذبح ولده بين يديه، وسمل عينيه وخرب المدينة والهيكل، وسبى بني إسرائيل، وحملهم إلى بابل، فمكثوا بها إلى أن ردهم إلى بيت المقدس كيرش بن جاماسب ابن أسب، من أجل القرابة التي كانت بينه وبينهم، وذلك أن أمه أشتر ابنة جاويل - وقيل حاويل - الإسرائيلي، فكان جميع ما ملك صديقيًا مع الثلاثة الأشهر التي ملك فيها يوياحين - فيما قيل - إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر.
ثم صار ملك بيت المقدس والشام لأشتاسب بن لهراسب، وعامله على ذلك كله بختنصر.
وذكر محمد بن إسحاق، فيما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه: أن صديقة ملك بني إسرائيل الذي قد ذكرنا خبره، لما قبضه الله مرج أمر بني إسرائيل، وتنافسوا الملك، حتى قتل بعضهم بعضًا عليه، ونبيهم شعيا معهم، لا يرجعون إليه ولا يقبلون منه. فلما فعلوا ذلك قال الله - فميا بلغنا - لشعيا: قم في قومك أوح على سانك، فلما قام أنطق الله لسانه بالوحي، فوعظهم وذكرهم وخوفهم الغير، بعد أن عدد عليهم نعم الله عليهم، وتعرضهم للغير.
قال: فلما فرغ شعيا إليهم من مقالته عدوا عليه - فيما بلغني - ليقتلوه، فهرب منهم، فلقيته شجرة، فانفلقت له، فدخل فيها وأدركه الشيطان. فاخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها، فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها.
وقد حدثني بقصة شعيا وقومه من بني إسرائيل وقتلهم إياه، محمد بن سهل البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه.