ذكرها فأبى. ثم انتخب ألف فارس من صناديد جنده وأبطالهم، وتقدم إليهم في المضي لأمره، ونهاهم عن الإبقاء على من لقوا من العرب، والعرجة على إصابة مال. ثم سار بهم فأوقع بمن انتجع بلاد فارس من العرب وهم غارون، وقتل منهم أبرح القتل، وأسر أعنف الأسر، وهرب بقيتهم. ثم قطع البحر في أصحابه، فورد الخط، واستقرى بلاد البحرين، يقتل أهلها ولا يقبل فداء، ولا يعرج على غنيمة. ثم مضى على وجهه، فورد هجر، وبها ناس من أعراب تميم وبكر بن وائل وعبد القيس، فأفشى فيهم القتل، وسفك فيهم من الدماء سفكًا سالت كسيل المطر؛ حتى كان الهارب منهم يرى أنه لن ينجيه منه غارٌ في جبل، ولا جزيرة في بحر؛ ثم عطف إلى بلاد عبد القيس، فأباد أهلها إلا من هرب منهم، فلحق بالرمال، ثم أتى اليمامة، فقتل بها مثل تلك المقتلة، ولم يمر بماء من مياه العرب إلا عوره، ولاجب من جبابهم إلا طمه. ثم أتى قرب المدينة، فقتل من وجد هنالك من العرب وأسر، ثم عطف نحو بلاد بكر وتغلب فيما بين مملكة فارس ومناظر الروم بأرض الشام، فقتل من وجد بها من العرب، وسبى وطم مياهم، وإنه أسكن من من بنى تغلب من البحرين دارين - واسمهما هيج - والخط، ومن كان من عبد القيس وطوائف من بني تميم هجر، ومن كان من بكر بن وائل كرمان، وهم الذين يدعون بكر أبان، ومن كان منهم من بني حنظلة بالرملية من بلاد الأهواز. وإنه أمر فبنيت بأرض السواد مدينة وسماها، بزرج سابور - وهي الأنبار - وبأرض الأهواز مدينتان: إحداهما إيران خره سابور، وتأويلها سابور وبلاده، وتسمى بالسريانية الكرخ، والأخرى السوس؛ وهي مدينة بناها إلى جانب الحصن الذي في جوفه تابوت فيه جثة دانيال النبي عليه السلام. وإنه غزا أرض الروم فسبى منها سبيًا كثيرًا، فأسكن مدينة إيران خره سابور، وسمتها العرب السوس بعد تخفيفها في التسمية. وأمر فبنيت بباجرمى مدينة سماها خنى سابور وكور كورة، وبأرض خراسان مدينة، وسماها نيسابور وكور كورة. وإن سابور كان هادن قسطنطين ملك الروم وهو الذي بنى مدينة قسطنطينية، وكان أول من تنصر من ملوك الروم، وهلك قسطنطين، وفرق ملكه بين ثلاثة بنين، كانوا له، فهلك بنوه الثلاثة، فملكت الروم عليهم رجلًا من أهل بيت قسطنطين يقال له لليانوس، وكان يدين بملة الروم التي كانت قبل النصرانية، ويسر ذلك ويظهر النصرانية قبل أن يملك، حتى إذا ملك أظهر ملة الروم، وأعادها كهيئتها، وأمرهم بإحيائها، وأمر بهدم البيع وقتل الأساقفة وأحبار النصارى. وإنه جمع جموعًا من الروم والخزر، ومن كان في مملكته من العرب، ليقاتل بهم سابور وجنود فارس.
وانتهزت العرب بذلك السبب الفرصة من الانتقام من سابور، وما كان من قتله العرب، واجتمع في عسكر لليانوس من العرب مائة ألف وسبعون ألف مقاتل؛ فوجههم مع رجل من بطارقة الروم، بعثه على مقدمته يسمى يوسانوس. وإن لليانوس سار حتى وقع ببلاد فارس، وانتهى إلى سابور كثرة من معه من جنود الروم والعرب والخزر، فهاله ذلك، ووجه عيونًا تأتيه بخبرهم ومبلغ عددهم وحالهم في شجاعتهم وعيثهم فاختلفت أقاويل أولئك العيون فيما أتوه به من الأخبار عن لليانوس وجنده. فتنكر سابور، وسار في أناس من ثقاته ليعاين عسكرهم، فلما اقترب من عسكر يوسانوس صاحب مقدمة لليانوس، وجه رهطًا ممن كان معه إلى عسكر يوسانوس ليتحسسوا الأخبار، ويأتوه بها على حقائقها، فنذرت الروم بهم، فأخذوهم ودفعوهم إلى يوسانوس، فلم يقر أحدٌ منهم بالأمر لذي توجهوا له إلى عسكره، ما خلا رجلًا منهم أخبره بالقصة على وجهها، وبمكان سابور حيث كان، وسأله أن يوجه معه جندًا، فيدفع إليهم سابور فارسل يوسانوس حيث سمع هذه المقالة إلى سابور رجلًا من بطانته، يعلمه ما لقى من أمره، وينذره، فارتحل سابور من الموضع الذي كان فيه إلى عسكره. وإن من كان في عسكر لليانوس من العرب سألوه أن يأذن لهم في محاربة سابور، فأجابهم إلى ما سألوه، فزحفوا إلى سابور، فقاتلوه ففضوا جمعه، وقتلوا منه مقتلةً عظيمة، وهرب سابور فيمن بقى من جنده، واحتوى لليانوس على مدينة طيسبون محلة سابور، وظفر ببيوت أموال سابور وخزائنه فيها، فكتب سابور إلى من في الآفاق من جنوده يعلمهم الذي لقى من لليانوس ومن معه من العرب، ويأمر من كان فيهم من القواد أن يقدموا عليه فيمن قبلهم من جنوده، فلم يلبث أن اجتمعت إليه الجيوش من كل أفق، فانصرف فحارب لليانوس واستقذ منه مدينة طيسبون، ونزل لليانوس مدينة بهأردشير وما والاها بعسكره، وكانت الرسل تختلف فيما بينه وبين سابور. وإن لليانوس كان جالسًا ذات يوم في حجرته، فأصابه سهم غربٌ في فؤاده فقتله، فأسقط في روع جنده، وهالهم الذي نزل به، ويئسوا من التفصى من بلاد فارس، وصاروا شورى لا ملك عليهم ولا سائس لهم، فطلبوا إلى يوسانوس أن يتولى الملك لهم فيملكوه عليهم، فأبى ذلك، وألحوا عليه فيه، فأعلمهم أنه على ملة النصرانية، وأنه لا يلي ناسًا له مخالفين في الملة. فأخبرته الروم أنهم على ملته، وأنهم إنما كانوا يكتمونها مخافة لليانوس، فأجابهم إلى ما طلبوا، وملكوه عليهم، وأظهروا النصرانية.
وإن سابور علم بهلاك لليانوس، فأرسل إلى قواد جنود الروم، يقول: إن الله قد أمكننا منكم، وأدالنا عليكم، بظلمكم إيانا، وتخطيكم إلى بلادنا، وإنا نرجوا أن تهلكوا بها جوعًا من غير أن نهيئ لقتالكم سيفًا، ونشرع له رمحًا؛ فسرحوا إلينا رئيسًا إن كنتم رأستموه عليكم. فعزم يوسانوس على إتيان سابور، فلم يتابعه على رأيه أحدٌ من قواد جنده، فاستبد برأيه، وجاء إلى سابور في ثمانين رجلًا من أشراف من كان في عسكره وجنده، وعليه تاجه، فبلغ سابور مجيئه إليه، فتلقاه وتساجدا، فعانقه سابور شكرًا لما كان منه في أمره، وطعم عنده يومئذ ونعم.
وإن سابور أرسل إلى قواد جند الروم وذوى الرياسة منهم يعلمهم أنهم لو ملكوا غير يوسانوس لجرى هلاكهم في بلاد فارس، وأن تمليكهم إياه ينجيهم من سطوته. وقوى أمر يوسانوس بجهده، ثم قال: إن الروم قد شنوا الغارة على بلادنا، وقتلوا بشرًا كثيرًا، وقطعوا ما كان بأرض السواد من نخل وشجر، وخربوا عمارتها؛ فإما أن يدفعوا إلينا قيمة ما أفسدوا وخربوا، وإما أن يعوضونا من ذلك نصيبين وحيزها، عوضًا منه، وكانت من بلاد فارس، فغلبت عليها الروم.
فأجاب يوسانوس وأشراف جنده سابور إلى ما سأل من العوض، ودفعوا إليه نصبيين، فبلغ ذلك أهلها، فجلوا منها إلى منها إلى مدن في مملكة الروم، مخافة على أنفسهم من ملك الملك المخالف ملتهم، فبلغ ذلك سابور، فنقل اثنى عشر ألف أهل بيت من أهل إصطخر وإصبهان وكور أخر من بلاده وحيزه إلى نصيبين، وأسكنهم إياها، وانصرف يوسانوس ومن معه من الجنود إلى الروم، وملكها زمنًا يسيرًا ثم هلك.
وإن سابور ضرى بقتل العرب، ونزع أكتاف رؤسائهم إلى أن هلك. وكان ذلك سبب تسميتهم إياه ذا الأكتاف.
وذكر بعض أهل الأخبار أن سابور بعد أن أثخن في العرب وأجلاهم عن النواحي التي كانوا صاروا إليها مما قرب من نواحي فارس والبحرين واليمامة، ثم هبط إلى الشأم، وسار إلى حد الروم، أعلم أصحابه أنه على دخول الروم حتى يبحث عن أسرارهم. ويعرف أخبار مدنهم وعدد جنودهم، فدخل إلى الروم، فجال فيها حينًا، وبلغه أن قيصر أولم، وأمر بجمع الناس ليحضروا طعامه، فانطلق سابور بهيئة السؤال حتى شهد ذلك الجمعع، لينظر إلى قيصر، ويعرف هيئته وحاله في طعامه. ففطن له فأخذ، وأمر به قيصر فأدرج في جلد ثور، ثم سار بجنوده إلى أرض فارس، ومعه سابور على تلك الحالة، فأكثر من القتل وخراب المدائن والقرى وقطع النخل والأشجار، حتى انتهى إلى مدينة جندي سابور، وقد تحصن أهلها، فنصب المجانيق، وهدم بعضها. فبينا هم كذلك ذات ليلة إذ غفل الروم الموكلون بحراسة سابور، وكان بقربه قوم من سبي الأهواز، فأمرهم أن يلقوا على القد الذي كان عليه زيتًا من زقاق كانت بقربهم، ففعلوا ذلك، ولان الجلد وانسل منه فلم يزل يدب حتى دناا من باب المدينة، وأخبر حراسهم باسمه. فلما دخل على أهلها، اشتد سرورهم به، وارتفعت أصواتهم بالحمد والتسبيح، فانتبه أصحاب قيصر بأصواتهم، وجمع سابور من كان في المدينة وعبأهم، وخرج إلى الروم تلك الليلة سحرًا، فقتل الروم وأخذ قيصر أسيرًا، وغنم أمواله ونساءه، ثم أثقل قيصر بالحديد وأخذه بعمارة ما أخرب؛ ويقال: إنه أخذ قيصر بنقل التراب من أرض الروم إلى المدائن وجندى سابور، حتى يرم به ما هدم منها، وبأن يغرس الزيتون مكان النخل والشجر الذي عقره، ثم قطع عقبه ورتقه، وبعث به إلى الروم على حمار، وقال: هذا جزاؤك ببغيك علينا، فلذلك تركت الروم اتخاذ الأعقاب، ورتق الذؤاب.