وتفرقوا على هذا الرأي، فعاد بهرام بعد أن تكلم بهذا الكلام، وجلس كمجلسه الذي كان فيه بالأمس، وحضره من كان يحاده. فقال لهم: إما أن تجيبوني فيما تكلمت أمس، وإما أن تسكتوا باخعين لي بالطاعة. فقال القوم: أما نحن، فقد اخترنا لتدبير الملك كسرى، ولم نر منه إلا ما نحب؛ ولكن قد رضينا مع ذلك أن يوضع التاج والزينة كما ذكرت بين أسدين، وتتنازعانهما أنت وكسرى، فأيكما تناولها من بينهما، سلمنا له الملك.
فرضي بهرام بمقالتهم، فأوتي بالتاج والزينة موبذان موبذ، الموكل كان بعقد التاج على رأس كل ملك يملك، فوضعهما في ناحية، وجاء بسطام أصبهبذ، بأسدين ضاريين مجوعين مشبلين، فوقف أحداهما عن جانب الموضع الذي وضع فيه التاج والزينة، والآخر بحذائه، وأرخى وثاقهما، ثم قال بهرام لكسرى: دونك التاج والزينة. فقال كسرى: أنت أولى بالبدء وبتناولهما مني؛ لنك تطلب الملك بوراثة، وأنا فيه مغتصب. فلم يكره بهرام قوله، لثقته كانت ببطشه وقوته، وحمل جرزًا، وتوجه نحو التاج والزينة، فقال له موبذان موبذ: استماتتك في هذا الأمر الذي أقدمت عليه؛ إنما هو تطوع منك، لا عن رأي أحدٍ من الفرس، ونحن برآء إلى الله من إتلافك نفسك. فقال بهرام: أنتم من ذلك برآء، ولا وزر عليكم فيه. ثم أسرع نحو الأسدين، فلما رأى موبذان موبذ جده في لقائهما، هتف به وقال: بح بذنوبك، وتب منهما، ثم أقدم إن كنت لا محالة مقدم، فباح بهرام بما سلف من ذنوبه، ثم مشى نحو الأسدين، فبدر إليه أحدهما، فلما دنى من بهرام وثب وثبة، فعلا ظهره، وعصر جنبي الأسد بفخذيه عصرًا أثخنه، وجعل يضرب على رأسه بالجرز الذي كان حمله، ثم شد الأسد الآخر عليه، فقبض على أذنيه، وعركهما بكلتا يديه، فلم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الذي كان راكبه حتى دمغهما ثم قتلهما كليهما على رأسهما بالجرز الذي كان حمله: وكان ذلك من صنيعه بمرأى من كسرى ومن حضر ذلك المحفل.
فتناول بهرام بعد ذلك التاج والزينة، فكان كسرى أول من هتف به، وقال: عمرك الله بهرام! الذي من حوله سامعون، وله مطيعون، ورزقه ملك أقاليم الأرض السبعة. ثم هتف به جميع الحضر، وقالوا: قد أذعنا للملك بهرام، وخضعنا له ورضينا به ملكًا. وأكثروا الدعاء له. وإن العظماء وأهل البيوتات وأصحاب الولايات والوزراء لقوا المنذر بعد ذلك اليوم، وسألوه أن يكلم بهرام في التغمد لإساءتهم في أمره، والصفح والتجاوز عنهم، فكلم المنذر بهرام فيما سألوه من ذلك، واستوهبه ما كان احتمل عليهم في نفسه، فأسعفه بهرام فيما سأل، وبسط آمالهم.
وإن بهرام ملك وهو ابن عشرين سنة، وأمر من يومه ذلك أن يلزم رعيته راحة ودعةً، وجلس للناس بعد ذلك سبعة أيام متوالية، يعدهم الخير من نفسه، ويأمرهم بتقوى الله وطاعته.
ثم لم يزل بهرام حيث ملك مؤثرًا للهو على ما سواه، حتى كثرت ملامة رعيته إياه على ذلك، وطمع من حوله من الملوك في استباحة بلاده، والغلبة على ملكه؛ وكان أول من سبق إلى المكاثرة له عليه خاقان ملك الترك، فإنه غزاه في مائتين وخمسين ألف رجل من الترك، فبلغ الفرس إقبال خاقان في جمع عظيم إلى بلادهم، فتعاظمهم ذلك وهالهم، ودخل عليه من عظمائهم أناس لهم رأى أصيل، وعندهم نظر للعامة، فقالوا له: إنه قد أزمك أيها الملك من بائقه هذا العد وما قد شغلك عما أنت عليه من اللهو والتلذذ، فتأهب له كيلا يلحقنا منه أمرٌ يلزمك فيه مسبة وعار. فقال لهم بهرام: إن الله ربنا قوي ونحن أولياؤه. ولم يزدد إلا مثابرة على اللهو والتلذذ والصيد.
وإنه تجهز فسار إلى أذربيجان لينسك في بيت نارها، ويتوجه منها إلى أرمينية، ويطلب الصيد في آجامها، ويلهو في مسيره في سبع رهط من العظماءء وأهل البيوتات، وثلثمائة رجل من رابطته ذوي بأس ونجدة، واستخلف أخًا له يسمى نرسي على ما كان يدبر من ملكه. فلم يشك الناس حين بلغهم مسير بهرام فيمن سار واستخلافه أخاه في أن ذلك هربٌ من عدوه، وإسلام لملكه؛ وتآمروا في إنفاذ وفد إلى خاقان، والإفرار له بالخراج، مخافةً منه لاستباحة بلادهم، واصطلامه مقاتلتهم إن هم لم يذعنوا له بذلك. فبلغ خاقان الذي أجمع عليه الفرس من الانقياد والخضوع له، فآمن ناحيتهم، وأمر جنده بالتورع، فأتى بهرام عينٌ كان وجهه ليأتيه بخبر خاقان، فأخبره بأمر خاقان وعزمه، فسار إليه بهرام في العدة الذين كانوا مهعه فبيته، وقتل خاقان بيده، وأفشى القتل في جنده، وانهزم من سلم من القتل منهم، ومنحوه أكتافهم، وخلفوا عسكرهم وذراريهم وأثقالهم، وأمعن بهرام في طلبهم يقتلهم ويحوي ما غنم منهم، ويسبي ذراريهم. وانصرف وجنده سالمين، وظفر بهرام بتاج خاقان وإكليله، وغلب على بلاده من بلاد الترك، واستعمل على ما غلب عليه منها مرزبانًا حباه سريرًا من فضة، وأتاه أناس من أهل البلاد المتاخمة لما غلب عليه من بلاد الترك خاضعين باخعين له بالطاعة، وسألوه أن يعلمهم حد ما بينه وبينهم فلا يتعدوه، فحد لهم حدًا، وأمر فبنيت منارة، وهي المنارة التي أمر بها فيروز الملك ابن يزدجرد، فقد مت إلى بلاد الترك، ووجه بهرام قائدًا من قواده إلى ما وراء النهر منهم، وأمره بقتالهم فقاتلهم وأثخنهم، حتى أقروا لبهرام بالعبودية وأداء الجزية.
وإن بهرام انصرف إلى أذربيجان، راجعًا إلأى محلته من السواد، وأمر بما كان في إكليل خاقان من ياقوت أحمر وسائر الجوهر، فعلق على بيت نار آذربيجان، ثم سار وورد مدينة طيسبون، فنزل دار المملكة بها، ثم كتب إلى جنده وعماله بقتله خاقان، وما كان من أمره وأمر جنده. ثم ولى أخاه نرسي خراسان، وأمره أن يسير إليها وينزل بلخ، وتقدم إليه بما أراد.
ثم إن بهرام سار في آخر ملكه إلى ماء للصيد بها، فركب ذات يوم للصيد، فشد على عير، وأمعن في طلبه، فارتطم في جب، فغرق، فبلغ والدته فسارت إلأى ذلك الجب بأموال عظيمة، وأقامت قريبة منه، وأمرت بإنفاق تلك الأموال على من يخرجه منه، فنقلوا من الجب طينًا كثيرًا وحمأةً. حتى جمعوا من ذلك آكامًا عظامًا، ولم يقدروا على جثة بهرام.
وذكر أن بهرام لما انصرف إلى مملكته من غزوه الترك، خطب أهل مملكته أيامًا متوالية، حثهم في خطبته على لزوم الطاعة، وأعلمهم أن نيته التوسعة عليهم، وإيصال الخير إليهم، وأنهم إن زالوا عن الاستقامة نالهم من غلظته أكثر مما كان نالهم من أبيه، وأن أباه كان افتتح أمرهم باللين والمعدلة، فجحدوا ذلك أو من جحده منهم، ولم يخضعوا له خضوع الخول والعبيد للملوك، فأصاره ذلك إلى الغلظة وضرب الأبشار وسفك الدماء. وإن انصراف بهرام من غزوه ذلك كان على طريق أذربيجان، وإنه نحل بيت نار الشيز ما كان في إكليل خاقان من اليواقيت والجوهر وسيفًا كان لخاقان مفصصًا بدر وجوهر وحلية كثيرة، وأخدمه خاتون امرأة خاقان، ورفع عن الناس الخراج لثلاث سنين شكرًا على ما لقي من النصر في وجهه، وقسم في الفقراء والمساكين مالًا عظيمًا، وفي البيوتات وذوى الأحساب عشرين ألف ألف درهم، وكتب بخبر خاقان إلى الآفاق كتبًا، يذكر فيها أن الخبر ورد عليه بورود خاقان بلاده، وأنه مجد الله وعظمه وتوكل عليه، وسار نحوه في سبعة رهط من أهل البيوتات، وثلثمائة فارس من نخبة رابطته على طريق أذربيجان وجبل القبق، حتى نفذ على براري خوارزم ومفازها، فأبلاه الله أحسن بلاء، وذكر لهم ما وضع عنهم من الخراج، وكان كتابه في ذلك كتابًا بليغًا.
وقد كان بهرام حين أفضى إليه الملك أمر أن يرفع عنأهل الخراج البقايا التي بقيت عليهم من الخراج، فأعلم أن ذلك سبعون ألف ألف درهم، فأمر بتركها وبترك ثلث خراج السنة التي ولي فيها.
وقيل إن بهرام جور لما انصرف إلى طيسبون من مغزاه خاقان التركي، ولى نرسي أخاه خراسان، وأنزله بلخ، واستوزر مهر نرسي بن برازة، وخصه وجعله بزرجفرمذار، وأعلمه أنه ماضٍ إلى بلاد الهند، ليعرف أخبارها، والتلطف لحيازة بعض مملكة أهلها إلى مملكته؛ ليخفف بذلك بعض مؤونة عن أهل مملكته، وتقدم إليه بما أراد التقدم إليه فيما خلفه عليه إلى أوان انصرافه، وأنه شخص من مملكته حتى دخل أرض الهند متنكرًا، فمكث بها حينًا لا يسأله أحدٌ من أهلها عن شيء من أمره غير ما يرون من فروسيته وقتله السباع، وجماله وكمال خلقه ما يعجبون منه. فلم يزل كذلك حتى بلغه أن في ناحية من أرضهم فيلا قد قطع السبل، وقتل ناسًا كثيرًا؛ فسأل بعضهم أن يدله عليه ليقتله، وانتهى أمره إلى الملك فدعا به، وأرسل معه رسولًا ينصرف إليه بخبره. فلما انتهى بهرام والرسول إلى الأجمة التي فيها الفيل، رقي الرسول إلى شجرة لينظر إلى صنع بهرام. ومضى بهرام ليستخرج الفيل، فصاح به، فخرج إليه مزبدًا وله صوت شديد، ومنظر هائل، فلما قرب من بهرام رماه رميةً وقعت بين عينيه حتى كادت تغيب، ووقذه بالنشاب، حتى بلغ منه، ووثب عليه فأخذه بمشفره، فاجتذبه جذبة جثا لها الفيل على ركبتيه، فلم يزل يطعنه حتى أمكن من نفسه، فاحتز رأسه وحمله الرسول حتى أخرجه إلى الطريق، ورسول الملك ينظر إليه. فلما انصرف الرسول اقتص خبره على الملك، فعجب من شدته وجرأته. وحباه حباء عظيمًا. واستفهمه أمره. فقال له بهرام: أنا رجل من عظماء الفرس، وكان ملك الفرس سخط علي في شيء فهربت منه إلى جوارك، وكان لذلك الملك عدو قد نازعه ملكه، وسار إليه بجنود عظيمة، فاشتد وجل الملك صاحب بهرام منه لما كان يعرف من قوته، وأراده على الخضوع له وحمل الخراج إليه، وهم صاحب بهرام بإجابته إلى ذلك، فنهاه بهرام عن ذلك، وضمن له كفاية أمره، فسكن إلى قوله، وخرج بهرام مستعدًا له، فلما التقوا قال لأساورة الهند: احرسوا ظهري. ثم حمل عليهم فجعل يضرب الرجل على رأسه فتنتهي ضربته إلى فمه، ويضرب وسط الرجل فيقطعه باثنين، ويأتي الفيل فيقد مشفره بالسيف، ويحتمل الفارس عن سرجه - والهند قوم لا يحسنون الرمي، وأكثرهم رجالة لا دواب لهم - وكان بهرام إذا رمى أحدهم أنفذ السهم فيه، فلما عاينوا منه ما عاينوا، ولوا منهزمين لا يلوون على شيء، وغنم صاحب بهرام ما كان في عسكر عدوه، وانصرف محبورًا مسرورًا، ومعه بهرام، فكان في مكافأته إياه أن أنكحه ابنته، ونحله الديبل ومكران وما يليها من أرض السند، وكتب له بذلك كتابًا، وأشهد له على نفسه شهودًا، وأمر بتلك البلاد حتى ضمت إلى أرض العجم، وحمل خراجها إلى بهرام، وانصرف بهرام مسرورًا.
ثم إنه أغزى مهر نرسي بن بزارة بلاد الروم في أربعين ألف مقاتل، وأمره أن يقصد عظيمها، ويناظره في أمر الإتاوة وغيرها؛ مما لم يكن يقوم بمثله إلا مثل مهر نرسي، فتوجه في تلك العدة، ودخل القسطنطينية، وقام مقام مشهورًا، وهادنه عظيم الروم، وانصرف بكل الذي أراد بهرام، ولم يزل لمهر نرسي مكرمًا، وربما خفف اسمه فقيل نرسي وربما قيل مهرنرسه، وهو مهر نرسي بن برازة بن فرخزاد بن خورهباذ بن سيسفاذ ابن سيسنابروه بن كي أشك بن دارا بن دارا بن بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب.