ذكر ما كان من الحوادث التي كانت بين العرب في أيام قباذ في مملكته وبين عماله

وحدثت عن هشام بن محمد، قال: لما لقى الحارث بن عمرو بن حجر ابن عدي الكندي النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن الشقيقة قتله، وأفلته المنذر بن النعمان الأكبر، وملك الحارث بن عمرو الكندي ما كان يملك، بعث قباذ بن فيروز ملك فارس إلى الحارث بن عمرو الكندي: إنه قد كان بيننا وبين الملك الذي قد كان قبلك عهدٌ، وإني أحب أن القاك.
وكان قباذ زنديقًا يظهر الخير ويكره الدماء، ويداري أعداءه فيما يكره من سفك الدماء، وكثرت الأهواء في زمانه، واستضعفه الناس، فخرج إليه الحارث بن عمرو الكندي في عددٍ وعدة حتى التقوا بقنطرة الفيوم، فأمر قباذ بطبق من تمر فنزع نواة، وأمر بطبق فجعل فيه تمر فيه نواه، ثم وضعا بين أيديهما، فجعل الذي فيه النوى يلي الحارث بن عمرو، والذي لا نوى فيه يلي قباذ. فجعل الحارث يأكل التمر ويلقي النوى، وجعل قباذ يأكل ما يليه. وقال للحارث: مالك لا تأكل مثل ما آكل! فقال: له الحارث إنما يأكل النوى إبلنا وغنمنا. وعلم أن قباذ يهزأ به، ثم اصطلحا على أن يورد الحارث بن عمرو ومن أحب من أصحابه خيولهم الفرات إلى ألبابها، ولا يجاوزا أكثر من ذلك. فلما رأى الحارث ما عليه قباذ من الضعف طمع في السواد، فأمر أصحاب مسالحه أن يقطعوا الفرات فيغيروا في السواد، فأتى قباذ الصريخ وهم بالمدائن فقال: هذا من تحت كنف ملكهم. ثم أرسل إلى الحارث بن عمرو أن لصوصًا من لصوص العرب قد أغاروا، وأنه يحب لقاءه. فلقيه، فقال له قباذ: لقد صنعت صنيعًا ما صنعه أحد قبلك، فقال له الحارث: ما فعلت ولا شعرت، ولكنها لصوصٌ من لصوص العرب، ولا أستطيع ضبط العرب إلا بالمال والجنود، قال له قباذ: فما الذي تريد؟ قال: أريد أن تطعمني من السواد ما أتخذ به سلاحًا، فأمر له بما يلي جانب العرب من أسفل الفرات، وهي ستة طساسيج، فأرسل الحارث بن عمرو الكندي إلى تبعٍ وهو باليمن: إنى قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ستة طساسيج، فاجمع الجنود وأقبل فإنه ليس دون ملكهم شيءٌ لأن الملك عليهم لا يأكل اللحم، ولا يستحل هراقة الدماء لأنه زنديق. فجمع تبعٌ الجنود، وسار حتى نزل الحيرة وقرب من الفرات، فآذاه البق، فأمر الحارث بن عمرو أن يشق له نهرًا إلى النجف ففعل، وهو نهر الحيرة. فنزل عليه ووجه ابن أخيه شمرًا ذا الجناح إلى قباذ، فقاتله فهزمه شمرٌ حتى لحق بالري، ثم أدركه بها فقتله، وأمضى تبعٌ شمرًا ذا الجناح إلى خراسان، ووجه تبع ابنه حسان إلى الصغد، وقال: أيكما سبق إلى الصين فهو عليها. وكان كل واحد منهما في جيشٍ عظيم؛ يقال: كانا في ستمائة ألفٍ وأربعين ألفًا. وبعث ابن أخيه يعفر إلى الروم، وهو الذي يقول:
أيا صاح عجبك للداهية ** لحمير إذ نزلوا الجابيه!
ثمانون ألفًا رواياهمو ** لكل ثمانية راويه
فسار يعفر حتى أتى القسطنطينية، فأعطوه الطاعة والإتاوة، ثم مضى إلى رومية وبينهما مسيرة أربعة أشهر، فحاصرها وأصاب من معه جوعٌ، ووقع فيهم طاعونٌ فرقوا، فأبصرهم الروم وما لقوا، فوثبوا عليهم فقتلوهم، فلم يفلت منهم أحدٌ. وسار شمرٌ ذو الجناح حتى أتى سمرقند، فحاصرها فلم يظفر بشيءٍ منها. فلما رأى ذلك أطاف بالحرس، حتى أخذ رجلًا من أهلها، فسأله عن المدينة وملكها، فقال له: أما ملكها فأحمق الناس، ليس له هم إلا الشراب والأكل، وله ابنة وهي التي تقضى أمر الناس. فبعث معه بهدية إليها، فقال له: أخبرها أنى إنما جئت من أرض العرب للذي بلغني من عقلها لتنكحني نفسها؛ فأصيب منها غلامًا يملك العجم والعرب، وأنى لم أجئ ألتمس المال، وأن معي أربعة الآف تابوت من ذهب وفضة هاهنا، فأنا أدفعها إليها، وأمضي إلى الصين، فإن كانت الأرض لي كانت امرأتي، وإن هلكت كان ذلك المال لها. فلما أنهيت إليها رسالته قالت: قد أجبته فليبعث بما ذكر، فأرسل إليها أربعة آلاف تابوت، في كل تابوتٍ رجلان، فكان لسمرقند أربعة أبواب على كل بابٍ منها أربعة آلاف رجل، وجعل العلامة بينه وبينهم أن يضرب لهم بالجلجل، وتقدم في ذلك إلى رسله الذين وجه معهم، فلما صاروا في المدينة ضرب لهم بالجلجل فخرجوا، فأخذوا بالأبواب، ونهد شمر في الناس؛ فدخل المدينة فقتل أهلها وحوى ما فيها. ثم سار إلى الصين، فلقى زخوف الترك فهزمهم، ومضى إلى الصين فوجد حسان بن تبع قد كان سبقه إليها بثلاث سنين، فأقاما بها - فيما ذكر بعض الناس - حتى ماتا. وكان مقامهما إحدى وعشرين سنة.
قال: وقال من زعم أنهما أقاما بالصين حتى هلكا: إن تبعًا جعل النار فيما بينه وبينهم، فكان إذا حدث حدثٌ أوقدوا النار بالليل، فأتى الخبر في ليلة، وجعل آية ما بينه وبينهم أن أوقدت نارين من عندي فهو هلاك يعفر، وإن أوقدت ثلاثًا فهو هلاك تبع، وإن كانت من عندهم نارٌ فهو هلاك حسان، وإن كانت نارين فهو هلاكهما. فمكثوا بذلك.
ثم إنه أوقد نارين فكان هلاك يعفر، ثم أوقد ثلاثًا فكان هلاك تبع.
قال: وأما الحديث المجتمع عليه فإن شمرًا وحسان انصرفا في الطريق الذي كانا أخذا فيه حيث بدآ، حتى قدما على تبع بما حازا من الأموال بالصين، وصنوف الجوهر والطيب والسبى، ثم انصرفوا جميعًا إلى بلادهم، وسار تبع حتى قدم مكة، فنزل بالشعب من المطابخ، وكانت وفاة تبع باليمن، فلم يخرج أحدٌ من ملوك اليمن بعده عنها غازيًا إلى شيء من البلاد، وكان ملكه مائةً وإحدى وعشرين سنة.
قال: ويقال إنه كان دخل في دين اليهود للأحبار الذين كانوا خرجوا من يثرب مع تبع إلى مكة عدةٌ كثيرة.
قال: ويقولون: إن علم كعب الأحبار كان من بقية ما أورثت تلك الأحبار، وكان كعب الأحبار رجلًا من حمير.
وأما ابن إسحاق فإنه ذكر أن الذي سار إلى المشرق من التبابعة تبع الاخر، وأنه تبع تبان أسعدأبو كرب بن ملكيكرب بن زيد بن عمرو ذي الأذعار، وهوأبو حسان، حدثنا بذلك ابن حميد، قال حدثنا سلمة، عنه.
ذكر ملك كسرى أنوشروان

ثم ملك كسرى أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور. فلما ملك كتب إلى أربعة فاذوسبانين - كان كل واحد منهم على ناحية من نواحي بلاد فارس ومن قبلهم - كتبًا نسخة كتابه منها إلى فاذوسبان أذربيجان: بسم الله الرحمن الرحيم: من الملك كسرى بن قباذ إلى وارى ابن النخير جان فاذوسبان أذربيجان وأرمينية وحيزها، ود نباوند وطبرستان وحيزها، ومن قبله: سلام، فإن أحرى ما استوحش له الناس فقد من تخوفوا في فقدهم إياه زوال النعم ووقوع الفتن، وحلول المكاره بالأفضل فالأفضل منهم، في نفسه أو حشمه أو ماله أو كريمه، وإنا لا نعلم وحشةً ولا فقد شيء أجل رزيئةً عند العامة، ولا أحرى أن تعم به البلية من فقد ملكٍ صالح.
وإن كسرى لما استحكم له الملك أبطل ملة رجلٍ منافقٍ من أهل فسا يقال له: " زراذشت بن خرّكان " ابتدعها في المجوسية، فتابعه الناس على بدعته تلك، وفاق أمره فيها، وكان ممن دعا العامة إليها رجلٌ من أهل مذرية يقال له: " مزدق بن بامداذ، وكان مما أمر به الناس وزينه لهم وحثهم عليه، التآسي في أموالهم وأهليهم، وذكر أن ذلك من البر الذي يرضاه الله ويثيب عليه أحسن الثواب، وأنه لو لم يكن الذي أمرهم به، وحثهم عليه من الدين كان مكرمةً في الفعال، ورضًا في التفاوض. فحض بذلك السفلة على العلية، واختلط له أجناس اللؤماء بعناصر الكرماء، وسهل السبيل للغصبة إلى الغصب، وللظلمة إلى الظلم، وللعهار إلى قضاء نهمتهم، والوصول إلى الكرائم اللائي لم يكونوا يطمعون فيهن، وشمل الناس بلاءٌ عظيمٌ لم يكن لهم عهدٌ بمثله. فنهى الناس كسرى عن السيرة بشيءٍ مما ابتدع زراذشت خرّكان، ومزدق بن بامداذ، وأبطل بدعتهما، وقتل بشرًا كثيرًا ثبتوا عليها، ولم ينتهوا عما نهاهم عنه منها، وقومًا من المنانية، وثبت للمجوس ملتهم التي لم يزالوا عليها.