قال كسرى: هذا الرأي، وأمر بمن كان في السجون من هذا الضرب، فأحصوا فبلغوا ثمانمائة نفر، فقود عليهم قائدًا من أساورته، يقال له وهرز، كان كسرى يعد له بألف أسوار وقواهم وجهزهم وأمر بحملهم في ثماني سفائن، في كل سفينة مائة رجل، فركبوا البحر، فغرقت من الثماني السفن سفينتان، وسلمت ست، فخرجوا بساحل حضرموت، وسار إليهم مسروق في مائة ألف من الحبشة وحمير والأعراب، ولحق بابن ذي يزن بشرٌ كثير، ونزل وهرز على سيف البحر، وجعل البحر وراء ظهره، فلما نظر مسروق إلى قلتهم طمع فيهم، فأرسل إلى وهرز: ما جاء بك، وليس معك إلا من أرى، ومعي من ترى! لقد غررت بنفسك وأصحابك، فإن أحببت أذنت لك؛ فرجعت إلى بلادك ولم أهجك؛ ولم ينلك ولا أحدًا من أصحابك مني ولا من أحد من أصحابي مكروه، وإن أحببت ناجزتك الساعة، وإن أحببت أجلتك حتى تنظر في أمرك، وتشاور أصحابك.
فأعظم وهرز أمرهم. ورأى أنه لا طاقة له بهم، فأرسل إلى مسروق: بل تضرب بيني وبينك أجلًا، وتعطيني موثقًا وعهدًا، وتأخذ مثله مني؛ ألا يقاتل بعضنا بعضًا حتى ينقضي الأجل، ونرى رأينا.
ففعل ذلك مسروق، ثم أقام كل واحد منهما في عسكره، حتى إذا مضى من الأجل عشرة أيام، خرج ابن وهرز يسير على فرس له، حتى دنا من عسكرهم، وحمله فرسه، فتوسط به عسكرهم، فقتلوه - ووهرز لا يشعر به - فلما بلغه قتل ابنه أرسل إلى مسروق: قد كان بيني وبينكم ما قد علمتم، فلم قتلم ابني؟ فأرسل إليه مسروق: إن ابنك حمل علينا، وتوسط عسكرنا، فثار إليه سفهاء من سفهائنا، فقتلوه، وقد كنت لقتله كارهًا. قال وهرز للرسول: قل له: إنه لم يكن ابني، إنما كان ابن زانية، ولو كان ابني لصبر ولم يغدر حتى ينقضي الأجل بالذي بيننا. ثم أمر فرمي به في الصعيد حيث ينظر إلى جثمانه، وحلف ألا يشرب خمرًا، ولا يدهن رأسه حتى ينقضى الأجل بينه وبينهم.
فلما انقضى الأجل إلا يومًا واحدًا، أمر بالسفن التي كانوا فيها فأحرقت بالنار، وأمر بما كان معهم من فضل كسوة فأحرق، ولم يدع منه إلا ما كان على أجسادهم، ثم دعا بكل زاد معهم. فقال لأصحابه: كلوا هذا الزاد، فأكلوه، فلما انتهوا أمر بفضله فألقي في البحر، ثم قام فيهم خطيبًا، فقال: أما حرقت من سفنكم، فإني أردت أن تعلموا أنه لا سبيل إلى بلادكم أبدًا، وأما ما حرقت من ثيابكم، فإنه كان يغيظني إن ظفرت بكم الحبش أن يصير ذلك إليهم، وأما ما ألقيت من زادكم في البحر، فإني كرهت أن يطمع أحد منكم أن يكون معه زاد يعيش به يومًا واحدًا، فإن كنتم قومًا تقاتلون معي وتصبرون أعلمتموني ذلك. وإن كنتم لا تفعلون اعتمدت على سيفي هذا حتى يخرج من ظهري؛ فإني لم أكن لأمكنهم من نفسي أبدًا. فانظروا ما تكون حالكم، إذا كنت رئيسكم وفعلت هذا بنفسي! فقالوا: لا بل نقاتل معك حتى نموت عن آخرنا، أو نظفر.
فلما كان صبح اليوم الذي انقضى فيه الأجل عبى أصحابه، وجعل البحر خلفه، وأقبل عليهم يحضهم على الصبر، ويعلمهم أنهم منه بين خلتين، إما ظفروا بعدوهم، وإما ماتوا كرامًا، وأمرهم أن تكون قسيهم موترة وقال: إذا أمرتكم أن ترموا فارموهم رشقًا بالبنجكان - ولم يكن أهل اليمن رأوا النشاب قبل ذلك - وأقبل مسروق في جمع لا يرى طرفاه على فيل على فيل على رأسه تاج، بين عينيه ياقوتة حمراء مثل البييضة، لا يرى أن دون الظفر شيئًا. وكان وهرز قد كل بصره فقال: أروني عظيمهم، فقالوا: هو صاحب الفيل؛ ثم لم يلبث مسروق أن نزل فركب فرسًا، فقالوا: قد ركب فرسًا، فقال: ارفعوا لي حاجبي، وقد كانا سقطا على عينيه من الكبر، فرفعوهما بعصابة، ثم أخرج نشابة، فوضعها في كبد قوسه، وقال: أشيروا لي إلى مسروق، فأشاروا له حتى أثبته، ثم قال لهم: ارموا، فرموا، ونزع في قوسه حتى إذا ملأها سرح النشابة، فأقبلت كأنها رشاء، حتى صكت جبهة مسروق، فسقط عن دابته، وقتل في ذلك الرشق منهم جماعة كثرة، وانفض صفهم لما رأوا صاحبهم صريعًا، فلم يكن دون الهزيمة شيء، وأمر وهرز بجثة ابنه من ساعته فووريت، وأمر بجثة مسروق، فألقيت مكانها، وغنم من عسكرهم مالا يحصى ولا يعد كثرة، وجعل الأسوار يأخذ من الحبشة ومن حمير والأعراب الخمسين والستين فيسوقهم مكتفين، لا يمتنعون منه.
فقال وهرز: أما حمير والأعراب فكفوا عنهم، واقصدوا قصد السودان فلا تبقوا منهم أحدًا. فقتلت الحبشة يومئذ حتى لم يبق منهم كثير أحد، وهرب رجل من الأعراب على جمل له، فركضه يومًا وليلة، ثم التفت. فإذا في الحقيبة نشابة، فقال: لأمك الويل أبعدٌ أم طول مسير - حسب أن النشابة لحقته. وأقبل وهرز حتى دخل صنعاء، وغلب على بلاد اليمن، وفرق عماله في المخاليف.
وفي ابن ذي يزن وما كان منه ومن وهرز والفرس، يقول أبو الصلت أبو أمية بن أبي الصلت الثقفي:؟ ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزنٍ ريم في البحر للأعداء أحوالا
أتى هرقل وقد شالت نعامنهم ** فلم يجد عنده بعض الذي قالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد سابعةٍ ** من السنين لقد أبعدت إيغالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم ** إنك لعمري لقد أطولت قلقالا
من مثل كسرى شهنشاه الملوك له ** أو مثل وهرز يوم الجيش إذ ضالا!
لله درهم من عصبةٍ خرجوا ** ما إن ترى لهم في الناس أمثالا
غرٌ جحاجحةٌ، بيضٌ مرازبةٌ، ** أسدٌ تربب في الغيضاتٍ أشبالا
يرمون عن شدفٍ كأنها عبطٌ ** في زمخرٍ يعجل المرمي إعجالا
أرسلت أسدًا على سود الكلاب فقد ** أضحى شريدهم في الأرض فلالا
فاشرب هنيئًا عليك التاج متكئًا ** في رأس غمدان دارًا منك محلالا
وأطل بالمسك إذ شالت نعامتهم ** وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ ** شيبًا بماءٍ فعادا بعد أبوالا
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: قال: فلما انصرف وهرز إلى كسرى، وملك سيفًا على اليمن، عدا على الحبشة فجعل يقتلها ويبقر النساء عما في بطونها، حتى إذا أفناها إلا بقايا ذليلة قليلة، فاتخذهم خولا، وتخذ منهم جمازين يسعون بين يديه بحرابهم، فمكث بذلك حينًا غير كثير. ثم إنه خرج يومًا والحبشة تسعى بين يديه بحرابهم؛ حتى إذ كان في وسط منهم وجئوه بالحراب حتى قتلوه، ووثب بهم رجل من الحبشة، فقتل باليمن وأوعث، فأفسد، فلما بلغ ذلك كسرى بعث إليهم وهرز في أربعة آلاف من الفرس، وأمره ألا يترك باليمن أسود ولا ولد عربية من أسود إلا قتله؛ صغيرًا أو كبيرًا، ولا يدع رجلًا جعدًا قططًا قد شرك فيه السودان إلا قتله.
فأقبل وهرز: حتى دخل اليمن، ففعل ذلك؛ ولم يترك بها حبشيًا إلا قتله، ثم كتب إلى كسرى بذلك، فأمره كسرى عليها، فكان عليها، وكان يجبيها إلى كسرى حتى هلك، وأمر كسرى بعده ابنه المرزبان بن وهرز، فكان عليها حتى هلك، فأمر كسرى بعده البينجان بن المرزبان بن وهرز حتى هلك، ثم أمر كسرى بعده خر خسره بن البينجان بن المرزبان بن وهرز، فكان عليها.
ثم إن كسرى غضب عليه، فحلف ليأتينه به أهل اليمن يحملونه على أعناقهم ففعلوا، فلما قدم على كسرى تلقاه رجل من عظماء فارس، فألقى عليه سيفًا لأبي كسرى، فأجاره كسرى بذلك من القتل ونزعه، وبعث باذان إلى اليمن، فلم يزل عليها حتى بعث الله رسوله محمدًا .