حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا نوح بن قيس الطاحي، عن عثمان بن محصن، أن ابن عباس كان يقول في: " والفجر وليالٍ عشرٍ "، قال: الفجر هو المحرم، فجر السنة.
حدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق؛ عن الأسود بن يزيد، عن عبيد بن عمير، قال: إن المحرم شهر الله عز وجل، وهو رأس السنة، فيه يكسى البيت، ويؤرخ التأريخ، ويضرب فيه الورق، وفيه يوم كان تاب فيه قوم، فتاب الله عز وجل عليهم.
حدثني أحمد بن ثابت الرازي، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا زكرياء بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، أن أول من أرخ الكتب يعلى بن أمية، وهو باليمن، وأن النبي ص قدم المدينة في شهر ربيع الأول، وأن الناس أرخوا لأول السنة؛ وإنما أرخ الناس لمقدم النبي ص.
وقال علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري. وعن محمد ابن صالح، عن الشعبي، قالا: أرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم عليه السلام إلى بنيان البيت، حين بناه إبراهيم وإسماعيل، ثم أرخ بنو إسماعيل من بنيان البيت؛ حتى تفرقت، فكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا بمخرجهم، ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون من خروج سعد ونهد وجهينة، بني زيد، من تهامة؛ حتى مات كعب بن لؤي، فأرخوا من موت كعب بن لؤي إلى الفيل؛ فكان التأريخ من الفيل، حتى أرخ عمر ابن الخطاب من الهجرة؛ وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة.
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا الدراوردي، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، قال: سمعت سعيد بن المسيب، يقول: جمع عمر بن الخطاب الناس، فسألهم، فقال: من أي يوم نكتب؟ فقال علي عليه السلام: من يوم هاجر رسول الله ص، وترك أرض الشرك، ففعله عمر رضي الله عنه.
قال أبو جعفر: وهذا الذي رواه علي بن مجاهد، عمن رواه عنه في تأريخ بني إسماعيل غير بعيد من الحق؛ وذلك أنهم لم يكونوا يؤرخون على أمر معروف يعمل به عامتهم، وإنما كان المؤرخ منهم يؤرخ بزمان قحمة كانت في ناحية من نواحي بلادهم، ولزبةٍ أصابتهم؛ أو بالعامل كان يكون عليهم، أو الأمر الحادث فيهم ينتشر خبره عندهم؛ يدل على ذلك اختلاف شعرائهم في تأريخاتهم؛ ولو كان لهم تأريخ على أمرٍ معروف، وأصلٍ معمول عليه، لم يختلف ذلك منهم.
ومن ذلك قول الربيع بن ضبع الفزاري:
هأنذا آمل الخلود وقد ** أدرك عقلي ومولدي حجرا
أبا امرئ القيس هل سمعت به ** هيهات هيهات طال ذا عمرا!
فأرخ عمره بحجر بن عمرو أبي امرئ القيس.
وقال نابغة بني جعدة:
فمن يك سائلًا عني فإني ** من الشبان أزمان الخنان
فجعل النابغة تأريخه ما أرخ بزمان علة كانت فيهم عامة.
وقال آخر:
وما هي إلا في إزارٍ وعلقةٍ ** مغار ابن همامٍ على حي خثعما
فكل واحد من هؤلاء الذين ذكرت تأريخهم في هذه الأبيات، أرخ على قرب زمان بعضهم من بعض، وقرب وقت ما أرخ به من وقت الآخر؛ بغير المعنى الذي أرخ به الآخر؛ ولو كان لهم تأريخ معروف كما للمسلمين اليوم ولسائر الأمم غيرها، كانوا إن شاء الله لا يتعدونه؛ ولكن الأمر في ذلك كان عندهم إن شاء الله على ما ذكرت؛ فأما قريش من بين العرب؛ فإن آخر ما حصلت من تأريخها قبل هجرة النبي ص من مكة إلى المدينة على التأريخ بعام الفيل؛ وذلك عام ولد رسول الله ص، وكان بين عام الفيل والفجار عشرون سنة، وبين الفجار وبناء الكعبة خمس عشرة سنة، وبين بناء الكعبة ومبعث النبي ص خمس سنين.
قال أبو جعفر: وبعث رسول اله ص وهو ابن أربعين سنة، وقرن بنبوته - كما قال الشعبي - ثلاث سنين: إسرافيل؛ وذلك قبل أن يؤمر بالدعاء وإظهاره على ما قدمنا الرواية والإخبار به، ثم قرن بنبوته جبريل عليه السلام بعد السنين الثلاث، وأمره بإظهار الدعوة إلى الله، فأظهرها، ودعا إلى الله مقيمًا بمكة عشر سنين، ثم هاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول من سنة أربع عشرة من حين استنبئ، وكان خروجه من مكة إليها يوم الاثنين، وقدومه المدينة يوم الاثنين؛ لمضى اثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول.
حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا موسى بن داود، عن ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس، قال: ولد النبي ص يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، ورفع الحجر يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، قال: قدم رسول الله ص المدينة يوم الاثنين، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول.
قال أبو جعفر: فإذا كان الأمر في تأريخ المسلمين كالذي وصفت، فإنه وإن كان من الهجرة، فإن ابتداءهم إياه قبل مقدم النبي ص المدينة بشهرين وأيام؛ هي اثنا عشر؛ وذلك أن أول السنة المحرم، وكان قدوم النبي ص المدينة، بعد مضي ما ذكرت من السنة، ولم يؤرخ التأريخ من وقت قدومه؛ بل من أول تلك السنة.
ذكر ما كان من الأمور المذكورة في أول سنة من الهجرة

قال أبو جعفر: قد مضى ذكرنا وقت مقدم النبي ص المدينة، وموضعه الذي نزل فيه حين قدمها، وعلى من كان نزوله، وقدر مكثه في الموضع الذي نزله، وخبر إرتحاله عنه. ونذكر الآن ما لم نذكر قبل مما كان من الأمور المذكورة في بقية سنة قدومه؛ وهي السنة الأولى من الهجرة.
فمن ذلك تجميعه ص بأصحابه الجمعة، في اليوم الذي ارتحل فيه من قباء؛ وذلك أن ارتحاله عنها كان يوم الجمعة عامدًا المدينة، فأدركته الصلاة، صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، ببطن واد لهم - قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجدًا - فيما بلغني - وكانت هذه الجمعة، أول جمعة جمعها رسول الله ص في الإسلام، فخطب في هذه الجمعة؛ وهي أول خطبة خطبها بالمدينة فيما قيل.
خطبة رسول الله ص في أول جمعة جمعها بالمدينة

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني سعيد بن عبد الرحمن الجمحي، أنه بلغه عن خطبة رسول الله ص في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عوف:
" الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلةٍ من العلم، وضلالةٍ من الناس، وانقطاع من الزمان ودنوٍ من الساعة، وقربٍ من الأجل؛ من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصمها فقد غوى وفرط؛ وضل ضلالًا بعيدًا. وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم؛ أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرًا؛ وإن تقوى الله لمن عمل به على وجلٍ ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السر والعلانية، لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرًا في عاجل أمره، وذخرًا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا، ويحذركم الله نفسه، والله رءوف بالعباد. والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك، فإنه يقول عز وجل: " ما يبدل القول لدي وما أنا بظلامٍ للعبيد ". فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجرًا، ومن يتق الله فقد فاز فوزًا عظيمًا. وإن تقوى الله يوقي مقته، ويوقي عقوبته، ويوقي سخطه، وأن تقوى الله يبيض الوجوه، ويرضي الرب، ويرفع الدرجة.
خذوا بحظكم، ولا تفرطوا في جنب الله؛ قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، ولا قوة إلا بالله. فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد اليوم، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه؛ الله أكبر، ولا قوة إلا بالله العظيم!.