وأقبل أبو سفيان قد تقدم العير حذرًا حتى ورد الماء، فقال لمجدى بن عمرو: هل أحسست أحدًا؟ قال: ما رأيت أحدًا أنكره؛ إلا أنى رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما؛ ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما ففته؛ فإذا فيه نوى. فقال: هذه والله علائف يثرب! فرجع إلى أصحابه سريعًا، فضربة وجه عيره عن الطريق، فساحل بها، وترك بدرًا يسارًا، ثم انطلق حتى أسرع.
وأقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة ابن عبد المطلب بن عبد مناف رؤيا؛ فقال: إنى رأيت فيما يرى النائم، وإني لبين النائم واليقظان، إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرسٍ حتى وقف ومعه بعيرٌ له، ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وفلان وفلان؛ فعدد رجالًا ممن قتل يومئذ من أشراف قريش؛ ورأيته ضرب في لبة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما بقى خباء من أخبية العسكر. إلا أصابة نضحٌ من دمه.
قال: فبلغت أبا جهل، فقال: وهذا أيضًا نبيٌ من بني المطلب؛ سيعلم غدًا من المقتول إن نحن التقينا! ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم؛ فقد نجاها الله، فارجعوا. فقال أبو جهل ابن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا - وكان بدرٌ موسمًا من مواسم العرب، تجتمع لهم بها سوقٌ كل عام - فنقيم عليه ثلاثًا، وننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب؛ فلا يزالون يهابوننا أبدًا؛ فامضوا.
فقال الأخنس بن شريق ين عمرو بن وهب الثقفي - وكان حلفيًا لبني زهرة وهم بالجحفة: يا بني زهرة؛ قد نجى الله لكم أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل؛ وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جنبها وارجعوا، فإنه لا حاجة بكم في أن تخرجوا في غير ضيعةٍ؛ لا ما يقول هذا - يعني أبا جهل - فرجعوا؛ فلم يشهدها زهريٌ واحدٌ، وكان فيهم مطاعًا. ولم يكن بقي من قريش بطن إلا نفر منهم ناس، إلا بني عدي بن كعب، لم يخرج منهم رجلٌ واحدٌ، إلا فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق، فلم يشهد بدرًا من هاتين القبيلتين أحدٌ. ومضى القوم.
قال: وقد كان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة، فقالوا: والله لقد عرفنا يا بني هاشم - وإن خرجتم معنا - أن هواكم مع محمد. فرجع طالب إلى مكة فيمن رجع.
قال أبو جعفر: وأما ابن الكلبي؛ فإنه قال فيما حدثت عنه: شخص طالب بن أبي طالب إلى بدر مع المشركين، أخرج كرهًا. فلم يوجد في الأسرى ولا في القتلى، ولم يرجع إلى أهله، وكان شاعرًا؛ وهو الذي يقول:
يارب إنما يغزون طالب ** في مقنبٍ من هذه المقانب
فليكن المسلوب غير السالب ** وليكن المغلوب غير الغالب
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق. قال: ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي؛ خلف العقنقل، وبطن الوادي وهو يليل، بين بدر وبين العقنقل، الكثيب الذي خلقه قريش، والقلب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة، وبعث الله السماء، وكان الوادي دهسًا، فأصاب رسول الله ص وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض؛ ولم يمنعهم المسير، وأصاب قريشًا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه؛ فخرج رسول الله ص يبادروهم إلى الماء؛ حتى إذا جاء أدنى من بدر نزل به.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: فحدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثت عن رجال من بني سلمة؛ أنهم ذكروا أن الحباب ابن المنذر بن الجموح، قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلٌ أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة؛ فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس لك بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى الماء من القوم فننزله، ثم نعور ما سواه من القلب، ثم نبني عليه حوضًا فتملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله ص: لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول الله ص ومن معه من الناس، فسار حتى أتى أدنى ماء من القوم، فنزل عليه، ثم أمر بالقلب فعورت، وبني حوضًا على القليب الذي نزل عليه فملىء ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن سعد بن معاذ قال: يا رسول الله نبني لك عريشًا من جريد فتكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا؛ فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك مما أحببنا، وإن كانت الأخرى حلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد خلفت عنك أقوام يا نبي الله، ما نحن بأشد حبًا لك منهم؛ ولو ظنوا أنك تلقي حربًا ما تخلفوا عنك. يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى رسول الله ص خيرًا. ودعا له بخير.
ثم بني لرسول الله ص عريشٌ، فكان فيه؛ وقد ارتحلت قريش حين أصبحت، فأقبلت، فلما رآها رسول الله ص تصوب من العقنقل - وهو الكثيب الذي منه جاءوا إلى الوادي - قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك؛ اللهم فنصرك الذي وعدتني؛ اللهم فأحنهم الغداة! وقد قال رسول الله ص - ورأى عتبة بن ربيعة في القوم، على جمل له أحمر: إن يكن عند أحد من القوم خيرٌ؛ فعند صاحب الجمل الأحمر؛ إن يطيعوه يرشدوا. وقد كان خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري - أو أبوه إيماء بن رحضة - بعث إلى قريش حين مروا به ابنًا له بجزائر أهداها لهم، وقال: إن أحببتم أن أمدكم بسلاح ورجال فعلنا؛ فأرسلوا إليه مع ابنه: أن وصلتك الرحم! فقد قضيت الذي عليك؛ فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس؛ ما بنا ضعفٌ عنهم؛ ولئن كنا نقاتل الله - كما يزعم محمد - فما لأحد بالله من طاقة.
فلما نزل الناس، أقبل نفر من قريش؛ حتى وردوا حوض رسول الله ص، فيهم حكيم بن حزام، على فرس له، فقال رسول الله ص: دعوهم، فما شرب منهم رجل إلا قتل يومئذ؛ إلا ما كان من حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل؛ نجا على فرس له يقال له الوجيه، وأسلم بعد ذلك، فحسن إسلامه؛ فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني يوم بدر! حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال: محمد بن إسحاق: وحدثني إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم، عن أشياخ من الأنصار، قالوا: لما اطمأن القوم، بعثوا عمير بن وهب الجمحي، فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد، قال: فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم، فقال: ثلثمائة رجل، يزيدون قليلا أو ينقصون؛ ولكن أمهلوني حتى أنظر؛ أللقوم كمين أم مدد؟ قال: فضرب في الوادي؛ حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم، فقال: ما رأيت شيئا، ولكني قد رأيت - يا معشر قريش - الولايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع؛ قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم؛ والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم؛ فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك! فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك، مشى في الناس، فأتى عتتبة بن ربيعة، فقال: يا أبا الوليد؛ إنك كبير قريش الليلة وسيدها، والمطاع فيها؛ هل لك ألا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر! قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي! قال: قد فعلت، أنت علي بذلك؛ إنما هو حليفي فعلي عقله، وما أصيب من ماله؛ فأت ابن الحنظلية؛ فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره - يعنى أبا جهل بن هشام.
حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا عثامة بن عمرو السهمي، قال: حدثني مسور بن عبد المللك اليربوعي، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، قال: بينا نحن عند مروان بن الحكم، إذ دخل حاجبه، فقال: هذا أبو خالد حكيم بن حزام، قال: إئذن له، فلما دخل جكيم بن حزام، قال: مرحبًا بك يا أبا خالد! ادن، فحال له مروان عن صدر المجلس؛ حتى كان بينه وبين الوسادة، ثم استقبله مروان، فقال: حدثنا حديث بدر، قال: خرجنا حتى نزلنا الجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها، فلم يشهد أحدٌ من مشركيهم بدلرًا.
ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة التي ذكرها الله عز وجل، فجئت عتبة بن ربيعة، فقلت: يا أبا الوليد، هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت؟ قال: أفعل ماذا؟ قلت: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي؛ وهو حليفك، فتحمل ديته وترجع بالناس. فقال: أنت وذاك، وأنا أتحمل بديته، واذهب إلى ابن الحنظلية - يعنى أبا جهل - فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك؟ فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن ورائه، وإذا ابن الحضرمي واقف على رأسه؛ وهو يقول: قد فسخت عقدي من عبد شمس، وعقدي إلى بني مخزوم. فقلت له: يقول لك عتبة بن ربيعة: هل لك أن ترجع اليوم عن ابن عمك بمن معك؟ قال: أما وجد رسولًا غيرك! قلت: لا، ولم أكن لأكون رسولًا لغيره. قال حكيم: فخرجت مبادرًا إلى عتبة؛ لئلا يفوتني من الخبر شيء، وعتبة متكئ على إيماء بن رحضة الغفاري؛ وقد أهدى إلى المشركين عشرة جزائر، فطلع أبو جهل والشر في وجهه، فقال لعتبة: انتفخ سحرك! فقال له عتبة: ستعلم! فسل أبو جهل سيفه، فضرب به متن فرسه، فقال إيماء بن رحضة: بئس الفأل هذا! فعند ذلك قامت الحرب.