وقال أبو سفيان بن حرب، وهو يذكر صبره ذلك اليوم، ومعاونة ابن شعوب شداد بن الأسود إياه على حنظلة:
ولو شئت نجتني كميتٌ طمرةٌ ** ولم أحمل النعماء لابن شعوب
فما زال مهرى مزجر الكلب منهم ** لدى غدوةٍ حتى دنت لغروب
أقاتلهم وأدعى يال غالبٍ ** وأدفعهم عني بركن صليب
فبكى ولا ترعى مقالة عاذلٍ ** ولا تسأمى من عبرةٍ ونجيب
أباك وإخوانًا له قد تتابعوا ** وحق لهم من عبرةٍ بنصيب
وسلى الذي قد كان في النفس أنني ** قتلت من النجار كل نجيب
ومن هاشم قرمًا نجيبًا ومصعبًا ** وكان لدى الهيجاء غير هيوب
ولو أنني لم أشف منهم قرونتي ** لكانت شجي في القلب ذات ندوب
فآبوا وقد أودى الحلائب منهم ** لهم خدبٌ من مغبطٍ وكئيب
أصابهم من لم يكن لدمائهم ** كفيًا ولا في خطةٍ بضريب
فأجابه حسان بن ثابت فقال:
ذكرت القروم الصيد من آل هاشمٍ ** ولست لزورٍ قلته بمصيب
أتعجب أن أقصدت حمزة منهم ** نجيبًا وقد سميته بنجيب
ألم يقتلوا عمرًا وعتبة وابنه ** وشيبة والحجاج وابن حبيب!
غداة دعا العاصي عليا فراعه ** بضربة عضبٍ بله بخضيب
وقال شداد بن الأسود، يذكر يده عند أبي سفيان بن حرب فيما دفع عنه:
ولولا دفاعي يا بن حربٍ ومشهدي ** لألفيت يوم النعف غير مجيبٍ
ولولا مكري المهر بالنعف قرقرت ** ضباعٌ عليه أو ضراء كليب
وقال الحارث بن هشام يجيب أبا سفيان في قوله:
وما زال مهري مزجر الكلب منهم
وظن أنه يعرض به إذ فر يوم بدر:
وإنك لو عاينت ما كان منهم ** لأبت بقلبٍ ما بقيت نخيب
لدى صحن بدرٍ أو لقامت نوائحٌ ** عليك، ولم تحفل مصاب حبيب
جزيتهم يومًا ببدر كمثله ** على سابحٍ ذي ميعة وشبيب
قال أبو جعفر: وقد وقفت هند بنت عتبة - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان - والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله ، يجدعن الآذان وألأنوف؛ حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم خدمًا وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشيًا، غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها. ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها بما قالت من الشعر حين ظفروا بما أصابوا من أصحاب رسول الله .
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، أنه حدث أن عمر بن الخطاب قال لحسان: يا بن الفريعة لو سمعت ما تقول هند ورأيت أشرها، قائمة على صخرة ترتجز بنا، وتذكر ما صنعت بحمزة! فقال له حسان: والله إني لأنظر إلى الحربة تهوي وأنا على رأس فارع - يعني أطمه - فقلت: والله إن هذه لسلاحٌ ما هي بسلاح العرب؛ وكأنها إنما تهوي إلى حمزة؛ ولا أدري. أسمعني بعض قولها أكفيكموها؛ قال: فأنشده عمر بعض ما قالت، فقال حسان يهجو هندًا:
أشرت لكاع وكان عادتها ** لؤمًا إذا أشرت مع الكفر
لعن الإله وزوجها معها ** هند الهنود عظيمة البظر
أخرجت مرقصةً إلى أحدٍ ** في القوم مقتبةً على بكر
بكرٍ ثفال لا حراك به ** لا عن معاتبةٍ ولا زجر
وعصاك استك تتقين بها ** دقى العجاية هند بالفهر
قرحت عجيزتها ومشرجها ** من دأبها نصا على القتر
ظلت تداويها زميلتها ** بالماء تنضحه وبالسدر
أخرجت ثائرةً مبادرةً ** بأبيك وابنك يوم ذي بدر
وبعمك المستوه في ردعٍ ** وأخيك منعفرين في الجفر
ونسيت فاحشةً أتيت بها ** يا هند، ويحك سبة الدهر
فرجعت صاغرةً بلا ترةٍ ** منا ظفرت بها ولا نصر
زعم الولائد أنها ولدت ** ولدًا صغيرًا كان من عهر
قال أبو جعفر: ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف على القوم - فيما حدثنا هارون بن إسحاق قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل.
وحدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن إسرائيل، قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: ثم إن أبا سفيان أشرف علينا، فقال: أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله ص: لا تجيبوه؛ مرتين، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ ثلاثًا، فقال رسول الله ص: لا تجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ ثلاثًا، فقال رسول الله ص: لاتجيبوه، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، لو كانوا في الأحياء لأجابوا، فلم يملك عمر بن الخطاب نفسه أن قال: كذبت ياعدو الله، قد أبقى الله لك ما يخزيك! فقال: اعل هبل! اعل هبل! فقال رسول الله ص: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل! قال أبو سفيان: ألا لنا العزى ولا عزى لكم! فقال رسول الله ص: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم! قال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، والحرب سجال؛ أما إنكم ستجدون في القوم مثلًا لم آمر بها ولم تسؤني.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال في حديثه: لما أجاب عمر أبا سفيان قال له أبو سفيان: هلم يا عمر، فقال رسول الله ص: إيته فانظر ما شأنه؟ فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمدًا؟ فقال عمر: اللهم لا؛ وإنه ليسمع كلامك الآن، فقال: أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر؛ لقول ابن قميئة لهم: إني قتلت محمدًا. ثم نادى أبو سفيان، فقال: إنه قد كان في قتلاهم مثلٌ والله ما رضيت ولا سخطت، ولا نهيت ولا أمرت.