وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري، ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف؛ فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر، فقالا: والله إن لهذه الطير لشأنًا، فأقبلا لينظرا إليه، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة. فقال الأنصاري لعمرو بن أمية: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله ص فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، وما كنت لتخبرني عنه الرجال. ثم قاتل القوم حتى قتل، وأخذوا عمرو بن أمية أسيرًا، فلما أخبرهم أنه من مضر، أطلقه عامر بن الطفيل، وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه.
فخرج عمرو بن أمية حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة، أقبل رجلان من بني عامر حتى نزلا معه في ظل هو فيه، وكان مع العامريين عقدٌ من رسول الله ص وجوارٌ لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟ فقالا: من بني عامر، فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر، بما أصابوا من أصحاب رسول الله ص. فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله ص أخبره الخبر، فقال رسول الله ص: لقد قتلت قتيلين لأدينهما. ثم قال رسول الله ص: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهًا متخوفًا. فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصاب رسول الله ص بسببه وجواره. وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عامر بن الطفيل، كان يقول: إن الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه. قالوا: هو عامر بن فهيرة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن أحد بني جعفر، رجل من بني جبار بن سلمى بن مالك ابن جعفر، قال: كان جبار فيمن حضرها يومئذ مع عامر، ثم أسلم بعد ذلك.
قال: فكان يقول: مما دعاني إلى الإسلام أني طعنت رجلًا منهم يومئذ بالرمح بين كتفيه، فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره، فسمعته يقول حين طعنته: فزت والله! قال: فقلت في نفسي: ما فاز! أليس قد قتلت الرجل! حتى سألت بعد ذلك عن قوله، فقالوا: الشهادة، قال: فقلت: فاز لعمر الله! فقال حسان بن ثابت يحرض بني أبي البراء على عامر بن الطفيل:
بني أم البنين ألم يرعكم ** وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامرٍ بأبي براء ** ليخفره، وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي ** فما أحدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الحروب أبو براءٍ ** وخالك ماجدٌ حكم بن سعد
وقال كعب بن مالك في ذلك أيضًا:
لقد طارت شعاعًا كل وجهٍ ** خفارة ما أجارأبو براء
فمثل مسهبٍ وبني أبيه ** بجنب الرده من كنفي سواء
بني أم البنين أما سمعتم ** دعاء المستغيث مع المساء!
وتنويه الصريخ بلى ولكن ** عرفتم أنه صدق اللقاء
فما صفرت عياب بني كلابٍ ** ولا القرطاء من ذم الوفاء
أعامر عامر السوءات قدمًا ** فلا بالعقل فزت ولا السناء
أأخفرت النبي وكنت قدمًا ** إلى السوءات تجري بالعراء!
فلست كجار جار أبي داودٍ ** ولا الأسدي جار أبي العلاء
ولكن عاركم داءٌ قديمٌ ** وداء الغدر فأعلم شر داء
فلما بلغ ربيعة بن عامر أبي البراء قول حسان وقول كعب، حمل على عامر بن الطفيل فطعنه، فشطب الرمح عن مقتله، فخر عن فرسه. فقال: هذا عمل أبي براء! إن مت فدمي لعمي ولا يتبعن به؛ وإن أعش فسأرى رأيي فيما أتى إلي.
حدثني محمد بن مرزوق، قال: حدثنا عمرو بن يونس، عن عكرمة، قال: حدثنا إسحاق بن أبي طلحة، قال: حدثني أنس بن مالك في أصحاب رسول الله ص الذين أرسلهم رسول الله ص إلى أهل بئر معونة، قال: لا أدري، أربعين أو سبعين! وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري، فخرج أولئك النفر من أصحاب النبي ص الذين بعثوا، حتى أتوا غارًا مشرفًا على الماء قعدوا فيه. ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله ص أهل هذا الماء؟ فقال - أراه ابن ملحان الأنصاري -: أنا أبلغ رسالة رسول الله ص، فخرج حتى أتى حواءً منهم، فاحتبى أما البيوت، ثم قال: يا أهل بئر معونة، إني رسول رسول الله إليكم، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله.
فخرج إليه من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة! فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار، فقتلهم أجميعين عامر بن الطفيل.
قال إسحاق: حدثني أنس بن مالك أن الله عز وجل أنزل فيهم قرآنًا: " بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا، فرضى عنا، ورضينا عنه "، ثم نسخت، فرفعت بعد ما قرأناه زمانًا، وأنزل الله عز وجل: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون، فرحين " حدثني العباس بن الوليد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري عن أنس بن مالك، قال: بعث رسول الله ص إلى عامر بن الطفيل الكلابي سبعين رجلًا من الأنصار.
قال: فقال أميرهم: مكانكم حتى آتيكم بخبر القوم! فلما جاءهم قال: أتؤمنونني حتى أخبركم برسالة رسول الله ص؟ قالوا: نعم، فبينا هو عندهم؛ إذا وخزه رجلٌ منهم بالسنان. قال: فقال الرجل: فزت ورب الكعبة! فقتل، فقال: عامر: لااحسبه إلا أن له أصحابً، فاقتصوا أثره حتى أتوهم فقتلوهم، فلم يفلت منهم إلا رجلٌ واحدٌ.
قال أنس: فكنا نقرأ فيما نسخ: " بلغوا عنا إخواننا أن قد لقينا ربنا، فرضى عنا ورضينا عنه ".
وفي هذه السنة - أعني السنة الرابعة من الهجرة - أجلى النبي ص بني النضير من ديارهم.
ذكر خبر جلاء بني النضير

قال أبو جعفر: وكان سبب ذلك ما قد ذكرنا قبل من قتل عمرو بن أمية الضمري الرجلين الذين قتلهما في منصرفه من الوجه الذي كان رسول الله ص وجهه إليه مع أصحابه بئر معونة، وكان لهما من رسول الله ص جوارٌ وعهدٌ.
وقيل إن عامر بن الطفيل كتب إلى رسول الله ص: إنك قتلت رجلين لهما منك جوارٌ وعهدٌ؛ فابعث بديتهما. فانطلق رسول الله ص إلى قباء، ثم مال إلى بني النضير مستعينًا بهم في ديتهما، ومعه نفر من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وأسيد بن حضير.